تختار الكاتبة اللبنانية الدكتورة ناهدة سعد، أستاذة الأدب الإنجليزي، لتحبيك روايتها باللغة العربية "الراقصة ورجل المخابرات"، شخصيتين من خارج جغرافية لبنان، هما، من جهة، الضابط حسن، وهو رجل مخابرات مغربي يقيم بفرنسا منذ خمس عشرة سنة، ويشتغل ضمن جهاز الأنتروبول، ومن جهة أخرى، سيلفي، راقصة بالي ومدرّسة إنجليزية في مركز اللغات، اسكتلندية تقيم بدورها بفرنسا منذ خمس سنوات. كان حسن- القادم من بلاد الشموس والنخيل- قادرا على "الجمع بين الحرية واحترام الأعراف والتقاليد"، فيما كانت سيلفي- الآتية من بلاد البرد والضباب، والمتحدرة من عائلة أرستقراطية تنتمي إلى ملوك وملكات بريطانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر (ص.19)- تعاني من مشكلة التقاليد (ص.11). يلتقي الاثنان بباريس على هامش وصلة رقص أدتها سيلفي بأحد المسارح، ليعيشا، رغم اختلافاتهما الثقافية والاجتماعية، قصة حب عميقة، مليئة بالتشويق والمغامرة، في عاصمة النور، وفي إيطاليا، كما في بيروت، على التوالي، حسب متطلبات المهام المنوطة بالعمل المخابراتي لحسن. ولربما كان في تباين الجغرافيات والتواريخ والطبائع لكليهما ما وحّد بينهما، بعيدا عن الاستيهامات التعميمية التي راكمها الشرق عن الغرب أو العكس. لعلها، حسب علمنا، المرة الأولى التي يتم فيها الخروج عن النمطية التي التصقت ب»صورة المغربي»، في الأدب العربي والآداب الأجنبية على السواء، منذ عصر ألف ليلة وليلة، وصولا إلى يومنا هذا، مرورا ب»بدائع» ابن إياس وكل المتخيلات التي جعلت «مغرب الشمس» بأفضيته وقاطنيه مجالا غرائبيا يتداخل فيه الواقعي بالفانطاستيكي، والعلم اللدني بالسحر والخرافة. ولئن كان شكسبير،مثلا، في مسرحيته الشهيرة «عطيل» أو «العاطي الله»- حسب بعض الترجمات- قد جعل من حاكم البندقية ذي البشرة السوداء والأصل المغربي(المفترض)، شخصية شديدة الدماثة فإنه مقابل ذلك أراد لها من فرط طيبتها أن تبدو أقرب إلى السذاجة، فيما اكتفت الحكايات والروايات، على امتداد اللغات والقارات، بالنظر إلى المغربي كمشتغل بالسحر والخيمياء ما لم نتحدث عن سمات أخرى، منها الارتزاق في جيش فرانكو والميل إلى العنف، وردت، مثلا، في مسرودات إيزابيل ألليندي أوباولو كويلهو أو غيرهما من الكتاب الهيسبانيين المحدثين (المنتسبين إلى الثقافة الإسبانية)، بيد أن الدكتورة ناهدة أبت إلا أن تخرق عَروض هذه التمثلات المفتقدة، في قدر كبير منها، إلى الواقعية، وترسم له (أي المغربي ممثلا في شخصية حسن) جانبية (بروفايل) ضمن جانبيات أخرى ممكنة، بل تمنحه،علاوة على تجذر العروبة وفصاحة اللسان، شرف الجدارة بالحب والتفاني من أجل محاربة الجريمة ونشدان القيم النبيلة. ويعتبر هذا الانزياح لوحده مؤشرا على سردية مختلفة تجنح إلى تبني مقاربة أدبية بديلة لا تحكمها مسبقات ولا أحكام جاهزة. والواقع أن الكاتبة هاهنا لا ترد تهمة، هي غير متحققة إلا في بعض الرؤى المطلقة، المتصلة بحيثيات ضيقة، كما لا تدافع عن حقيقة مجسدة تعوزها دلائل الإثبات، مادام الأدب في البدء والمنتهى هو تشييد لممكن سردي أو هو على الأدق «رؤية للعالم»، نزّاعة إلى بلوغ التخوم الأطروحية والفنية، وهو ما يتبلور بجلاء في هذا العمل الذي يجمع بين الغنى المعرفي وبراعة الصوغ الأدبي. حين يواجه الحب الجريمة لقد تفرع السرد في «الراقصة ورجل المخابرات» إلى مسارين. تناول الأول جزءا من أصداء السيرة الخاصة بحسن كما التقطتها سيلفي، من خلال التعارف فيما بينهما، وعرض الثاني لحياة سيلفي قبل لقائها بحسن. والواقع أن هذا الاستعراض شكل مدخلا منطقيا لتقاطبات عديدة بين هاتين الشخصيتين الحدّيتين، حيث أضحت التناقضات مبررا إضافيا للتآلف وشغف الاكتشاف، لاسيما أن كل السبل كانت ممهدة لحب تاريخي، يوقده حسن المغربي بشخصه وحكاياه ومروياته من الشعر العربي، وتذكي ناره سيلفي الاسكتلندية بتوقها إلى التخلص من إرثها العائلي الثقيل للانخراط في حياة بسيطة وهادفة. لا يتعلق الأمر هنا بانجذاب تولده نزوة عابرة، أو تبعث عليه «صورولوجيا» تنابذية/ تجاذبية تضع الشرق في مقابل الغرب، بل هي الرغبة في توليفة بديعة بين شرق وغرب حضاريين متكاملين. يقول حسن لسيلفي: «هذا جميل (يقصد التقاء الحضارات) أُسَرُّ عندما أسمع هذا وأتوق إلى ذلك العصر الذي فيه تلتقي الحضارات للتوليف بين البشر فنحب الشرق على أنه شرق ونحب الغرب على أنه غرب» (ص12). من ثم بات اختلاف الحضارات، في أعين العشيقين، مصدر تناغم وإثراء، وأي صراع، إن كان لابد منه، وجب أن يوجه إلى أعداء الإنسانية أينما حلوا وارتحلوا، بعيدا عن أي نزعة شوفينية أو تعصب جغرافي أو عرقي أو ديني. لهذا بدت مراكش عذبة بهية كشأن باريس وروما وبيروت بما تمنحه هذه المدن مجتمعة من إحساس بالمتعة الطبيعية والدفء وبما تختزنه من عمق ثقافي وتلاقح حضاري، خاصة أن الرهان الأكبر هو رهان الحب، بدونه قد يغزو اليباس كل شيء.»ألا تستطيعون أن تكتشفوا إكسيرا يدعى الحب فيشفي الكون من مرضه وتستفيق الرحمة في القلوب؟» ( ص67). صحيح أن سيلفي»الهاربة من المجد والجاه» تبدو منقادة بسحر الشرق في خنوع وتحد معا، فهي تلوح مستسلمة لنداء الروح ولغة الإحساس التلقائي، إلا أنها، في المقابل، تقاوم تاريخا بكل تراكماته، حيث ترسَم الأقدار وتوزَّع الأدوار سلفا. لهذا فإنها بقدر ما تحيى الانطلاق تجد نفسها مشدودة إلى الوراء بقوى معاكسة لرغباتها، فواعلُها وقواها المحركة هم الأهل والمحيط والزيجات المرتّبة.ولأن حسن غير فيها أشياء كثيرة، خاصة أنها اكتشفت معه أن «كل التجارب التي عاشت في اسكتلندا كانت باردة، تافهة برودة الجو وتفاهة الأحاديث التي تثرثر بها النسوة رفيقات والدتها» (ص74) وستكتشف أن الشرقيين «فيهم زخم العاطفة، ولعلهم في ذلك صادقون بحسب ما رأت واختبرت من معاشرتها لحسن»، حيث «الطبيعة الجغرافية قد حبَت تلك المناطق بالحرارة التي تنعكس على كافة التصرفات» (ص74). رؤوس كبيرة إلى جانب ذلك كانت تقترب أكثر من فهم الظلم التاريخي الذي جعل الفلسطينيين واللبنانيين يؤدون الثمن من دمائهم وأرواحهم، حيث تنوب إسرائيل عن قوى التسلط والجبروت في تدمير مقدرات هذين الشعبين بدعاوى لا تستقيم. إنه موتيف سردي على قدر كبير من الأهمية في تشبيك البناء الروائي.ولأن سيلفي عاشقة فقد سخرت حياتها ليس لحب حسن وحسب، بل لحب الإنسانية جمعاء، معرّضة حياتها للمخاطر والأهوال، خاصة أن مهنتها كراقصة جميلة جعلت كثيرا من «الرؤوس الكبيرة» تحوم حولها، وهي رؤوس تدير الأموال القذرة والمعاملات المشبوهة والجرائم المنظمة، كان أولها الغنيّ اليهودي دافيد الملقب بهيوم المشتغل في الموساد، الذي سيسقط، بتدبير من حسن وبتعاونها، في صفقة مخدرات ضخمة.وما ذلك سوى بداية انهيار لعبة الدومينو التي ستكون رقعتها هذه المرة بيروت، باعتبارها ملتقى الجاسوسية وصراع المصالح بين القوى الكبرى.وهنا ستشد مغامرات حسن وسيلفي الأنفاس، إذ سيسجلان اختراقات مثيرة في شبكات للجريمة المنظمة العابرة للقارات، وسينجحان، وخاصة حسن، في التدرج في مراتب الثقة إلى أن يبلغا مواقع مؤثرة في صفوف هذه التنظيمات التخريبية التي لم يعد لها من ولاء إلا للمال، حيث صارت مستعدة لتدمير لبنان وأي بلد من أجل إشباع نهم التملك وإحكام السيطرة على العالم، لاسيما على الدول الصغرى. وتعرض الرواية للبناء المعقد لهذه الشبكات التي تستقطب أعضاءَها من القتلة «وقطاع الطرق والمجرمين الفارين وأصحاب السوابق» (ص150)، في صلات بأعضاء نافذين في البرلمان والجيش والحكومة. كما تعرض لبرنامج عملها ومواضيع اجتماعاتها العاصفة التي ترمي إلى العبث بلبنان وإشاعة الدعارة والفساد فيه وفي غيره و»تبييض الأموال وسرقة المصارف بواسطة شبكات اللصوصية على شبكة الإنترنيت...» (ص161) وما لا يخطر على البال من ممارسات تهدد الأمن والاستقرار بالشرق الأوسط والعالم ككل. وعلى غرار التنظيمات الإرهابية فإن هذا الأخطبوط العالمي يضرب طوقا صلبا من السرية على برنامجه. وكلما دب الشك حول فرد أو جماعة من منتسبيه كانت تتم تصفيتهما في الحال، بطرق غاية في الوحشية. «فهم عند الإحساس بالخطر يفقدون أعصابهم ويتصرفون بطريقة بربرية، همجية قاتلة، حتى تندثر كل البراهين ضدهم، وحتى يعطوا... درسا للبقية»(ص173) كما كان عليه الحال في المأساة التي قتل فيها «أكثر من مائة شخص بواسطة تفجير مخطط له» (ص172).وتتبدى وسط كل هذا روح المخاطرة التي يركبها حسن، بتنسيق مع مسؤولي مخابرات الأنتربول، في سبيل الإيقاع بالحيتان الكبرى. بموازاة ذلك لم تكتف سيلفي بلعب دور الكومبارس في هذه التراجيديا وإنما كانت طوال الوقت منخرطة في إعطاء الدروس بمركز اللغات ودراسة الفلسفة والاطلاع على أحوال اللبنانيين وهم يواجهون المخططات العدائية من طرف الموساد وبعض عملائه من اللبنانيين على السواء.لتنتهي المغامرة بنجاح، ولو أن حسن سيصاب بوعكة صحية جراء نجاته الأسطورية من حصة رعب مارستها العصابة على بعض أفرادها..وما هي إلا بضعة أيام، على اكتمال العملية الاستخباراتية، حتى بدأت طائرات إسرائيل في قصف لبنان وكان على السفارة الفرنسية أن تأمر رعاياها، ومنهم حسن وسيلفي، بمغادرة بيروت.و»في باريس سيترقى حسن في عمله وتحوز سيلفي على كرسي في السوربون، وينجبان صبيين توأمين، ويعيشان كما المحبون (كذا في النص) في غمرة لا تنتهي من السعادة الأبدية» (ص219) انسجاما مع المأثور الحكائي في قصص ألف ليلة وليلة. إنها رواية مفتوحة على الأمل بالمستقبل، تفيض بالوقائع الدرامية العاصفة، المشدودة بخيط حب ونزوع رومانسي يلطفان قليلا من حدة الأحداث. وهي انتصار للحب في زمن الكراهية وتنصيص على أن المواجهة الحقيقية لا ينبغي أن تكون بين الثقافات والشعوب والحضارات، وإنما ضد أعداء الإنسان والحياة.