إن ما تصنعه الطغمة الحاكمة في إسرائيل هو بكل جلاء بعض من مظاهر استمرار الهمجية في القرن الواحد والعشرين. لا يمكن في نظرنا أن يجد عاقل أية ذريعة لتبرير الإجرام الصهيوني المقترف اليوم في غزة. فهناك عقاب جماعي بواسطة حصار للسكان يحرمهم من أبسط مصادر الحياة للانتقام منهم، ويروم الوصول إلى أقصى درجات الإيلام والتنكيل. وهناك استهداف شامل للمدنيين والمنشآت المدنية واستهانة بالمئات من الأرواح البشرية، فقط لأن أصحابها من الأعداء ولأن من يفعل ذلك ويزرع الرعب والدمار يريد أن يحقق هدفا من أهدافه، والأدهى من ذلك أن يكون هذا الهدف هو تأبيد الاحتلال. ومن ثمة تطالب إسرائيل بالتسوية بين العنف الصادر عن المحتل والعنف الصادر عن المحتلة أرضه. إن أبشع أنواع الإرهاب هو الاحتلال في حد ذاته، وإن شعار وضع حد نهائي للعنف لا يمكن أن يُرفع بمعزل عن طرح القضية الأصلية التي هي الاحتلال، والكثير من وسائل الإعلام الغربية تغيب هذا المعطى، وتساعدها في ذلك بعض الخطابات الصادرة من أوساطنا العربية والإسلامية والداعية صراحة لزوال دولة إسرائيل، وهو ما يتعارض مع مقتضيات الشرعية الدولية، بينما المفروض أننا بخصوص القضية الفلسطينية لا نعترض على وجود شرعية دولية وقانون دولي، بل نعترض على الكيل بمكيالين في استعمال هذه الشرعية، وتوظيفها فقط لمصلحة الأقوياء. تقول الإدارة العسكرية الإسرائيلية إنها تستهدف المستشفيات والمدارس والملاجئ والمساجد والأحياء السكنية، لأن هذه الأمكنة تُستعمل لتخزين الأسلحة وإيواء المقاتلين، وإذا كان يُسمح لكل من يخوض حرباً أن يتوسل إلى هذا الدفع، فإننا سنحكم مسبقاً على اتفاقيات جنيف بالزوال، لأننا سنمنح كل الأطراف وفي جميع الظروف فرصة التنصل من تلك الاتفاقيات. وإذا كان الجيش الإسرائيلي يتوعد كل من يدعم مقاتلي حماس أو يؤويهم أو يمنحهم ملجأ أو مساعدة، فإن حقيقة الأمر، وبحكم العدد الهائل لضحايا الهجوم على غزة، هي أن لسان حال ذلك الجيش يتوعد في الواقع كل من صوت على حماس، وكل من قبل تصويت الآخرين على حماس، أي إن كل قاطن بغزة غدا هدفا عسكريا! إن الدمار الذي تخلفه الآلة العسكرية الإسرائيلية يبدو رهيباً، ولكن هذه الآلة فعلت الأمر نفسه في لبنان قبل سنتين، وأمريكا فعلت أفظع من ذلك في العراق، فمجموع عدد القتلى في الحرب الأخيرة على لبنان، يوازي تقريبا عدد الذين سقطوا دفعة واحدة في قصف ملجأ العامرية ببغداد، وما ارتكبه الجنود الأمريكيون في فيتنام كان ربما أشد بشاعة، إلا أن وسائل التوثيق والإعلام لم تكن وقتها قادرة على نقل كل تفاصيل الإجرام الأمريكي إلى الرأي العام العالمي. وبمعنى آخر، مازلنا مع كل أسف نعيش في زمن يفرض فيه كل من له التفوق العسكري وأسباب القوة والشوكة قانونه الخاص وسلطته بدون أن يقيم أي اعتبار للحق والقانون والعدالة. في «معركة غزة» يتواجه ميدانيا مقاتلو حركة حماس أساساً وبعض الفصائل الأخرى أيضاً مع الجيش الإسرائيلي. هذه المواجهة لا تترك لنا أي مجال للاختيار، فالمنطق يفرض أن نساند كل من يذود عن أي شبر من التراب الفلسطيني، والأصل أن الحق الفلسطيني في بناء الدولة وإقرار عودة اللاجئين واعتماد القدس عاصمة، ثابت بمعايير وأحكام الشرعية الدولية. حماس حركة مناضلة تقدم قوافل من الشهداء والتضحيات، وهذا العنصر في حد ذاته، وبغض الطرف عن حيثيات واعتبارات أخرى، يستحق منا الاحترام والتبجيل. وهي أيضاً حركة إسلامية، تأسست على قاعدة شعار ديني، ويُخشى دائماً أن يقود هذا الشعار إلى السقوط في منطق أصولي، لا عقلاني ومنغلق، وأن يؤدي إلى وضع الصراع في سياق غائية تاريخية، فيتم خوضه من أجل هدف انتصار ديانة على ديانة أخرى وليس كرقم في معادلة تصفية الاستعمار. لا يمكن أن نحكم من الآن على مآل وتطور المواجهة الدائرة رحاها اليوم في غزة، ولا أن نصدر تقييما إجمالياً لطريقة إدارة المواجهة من طرف حركة حماس والمنطلقات التي بنت عليها خططها، فقد تكون هناك مفاجآت وعناصر خفية يمكن أن تظهر فيما بعد، وتقيم توازنا مع ما يمكن أن نعتبره الآن أخطاء مرتكبة في التقدير والتدبير ووضع تصورات الصراع، وقد لا تكون. وانتظار زمن التقييم الشامل لا يعني ركوب الانتظارية، بل يتعين بذل العون لغزة وأبنائها بكل الوسائل المتاحة لنا كشعوب، وإبداع كل أشكال التحرك التي من شأنها أن تعزز صمود حماس وكافة سكان غزة ومقاتليها. الماضي القريب، يثبت لنا من خلال معركة لبنان أن حزب الله حركة نشأت في الأساس بمنطلقات دينية شبه متطرفة، ونكلت بأعدائها من الشيوعيين، لكنها نجحت بعد ذلك في خوض الصراع في إطار عقلاني يأخذ المتغيرات الدولية بعين الاعتبار، ويضع صراعه في إطار الحقوق المعترف بها دولياً، ويتفادى العزلة واستعظام دوره ونفي الآخرين، ويتحول إلى رقم داعم للشرعية الديمقراطية الداخلية. يضع حزب الله مواطنين مسيحيين ضمن لوائح مرشحيه للانتخابات، ويحرص في معركة 2006 على حماية شرعية الدولة اللبنانية وعدم إيذاء رموزها، ويقبل أن تكون مؤسسات الدولة نافذته على العالم للحوار مع الخارج ومراعاة إكراهات «المنتظم الدولي»، ويطالب بحكومة وحدة وطنية، ويسهر على بقاء القطاعات السيادية كالجيش والأمن في خدمة كل اللبنانيين، ويؤسس معركته على مرجعية وطنية متوافق عليها متمثلة في بند الأسرى في البرنامج الوطني الذي على أساسه دخل الحكومة. في رده على العدوان الإسرائيلي، بادر حزب الله بإطلاق صواريخ شديدة الأثر في العمق الإسرائيلي ووفق يومية تصعيدية، فضرب البارجة، وأعلن عن استهداف حيفا، ثم ما بعد حيفا، وأظهر أنه كان على أهبة حرب الشوارع في مواجهة الهجوم البري، وتعامل بعد ذلك بإيجابية مع الهيئات الرسمية اللبنانية وتعاون معها في إعادة الإعمار وتوزيع المساعدات. طبعاً مازال حزب الله كقوة مسلحة يحتفظ بوضع خاص، قد نعتبره امتيازاً في الأحوال العادية، ولكنه في جميع الأحوال وضع قابل للمعالجة ضمن صيرورة الحوار الوطني وداخل الأسرة اللبنانية. كان حسن نصر الله أحياناً يلقي خطبا طويلة، نعثر فيها على مواقف وخطط ورسائل، وقد لا نعثر على آية قرآنية واحدة، ليس لأن الحزب حاد عن انتمائه الإسلامي، بل لأنه اختار ألا تكون الآيات القرآنية بديلاً عن الخطاب العقلاني الهادئ والمقنع وألا تعطي وحدها الشرعية لكلام لا قيمة له، يدغدغ المشاعر فقط بدون نتائج على الأرض. حذر حزب الله من ضرب منطقة العاصمة السياسية متوعداً بضرب تل أبيب، فأخذت إسرائيل تحذيره مأخذ الجد ولم تضرب المنطقة، وعد بتحرير الأسرى، فعانق سمير القنطار الحرية مع رفاقه. وعلى العموم، فلقد شاهدنا أداء سياسيا وعسكرياً يعيش عصره، ولا يستهين بخصمه، ويعرف حدود قوته ونقاط ضعفه، ولا يستسلم للأوهام والأساطير، ولا يهرب إلى الأمام ويخفي عجزه عبر تخوين الآخرين. هل إسرائيل تريد اليوم عبر الهجوم على غزة الانتقام لسمعة جيشها التي مُرِّغت في التراب، ولتسترجع المبادرة الكاملة في المنطقة ومحو أثر الحرب على لبنان من ذاكرة جنودها وذاكرة جيرانها، واعتبار ما حصل في تلك الحرب كحدث عابر وحادث سير لن يتكرر؟ وهل عرفت حركة حماس في بنية تفكيرها واشتغالها نفس التطور الذي عرفه حزب الله؟ وهل أصبحت قادرة على صنع حدث تحقق به تراكما يقوي رصيد الحرب اللبنانية الأخيرة ويعمق أثرها في المنطقة؟ لا نستطيع الآن الجزم بأي شيء، ولا نعرف بالضبط هل تعتبر حماس أنها اختارت بمحض إرادتها وبوعي كامل هذه الحرب القائمة، أم إن الحركة وفي جميع الأحوال تقدر أنه لم يكن هناك مناص من هذا الهجوم الإسرائيلي، ولم يكن هناك في نظرها مفر منه، وأن أقصى ما يمكن أن نحاسبها عليه هو درجة الصمود والتصدي لهذا العدوان الغاشم والحتمي، والذي قد يكون جرى في ظروف لم يكن بوسعها أن تعمل على تحسينها لصالحها؟ وفي جميع الأحوال، لاحظنا كيف أن الشعب المغربي لم يتخلف عن الموعد وكان حاضراً لنصرة سكان غزة ومقاتليها في مواجهة الهجوم الإسرائيلي الوحشي. ولعل أشد محطات التضامن إشراقا، تلك المسيرة الوطنية التي عرفتها مدينة الرباط والتي قارب عدد المشاركين فيها المليون. إن مسيرة الأحد الماضي، هي في النهاية، حدث نضالي إيجابي، تمكنت خلاله جميع الأطياف والانتماءات أن «تتساكن» في حظيرته رغم بعض الصعوبات. في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، نزلت الجماهير في «حرب شوارع» من أجل إسماع صوتها المناهض للوحشية الإسرائيلية وللتواطؤ والصمت، ونظم المواطنون المغاربة أيضاً في طول البلاد وعرضها وقفات ومسيرات تضامنية، ورغم أن شعوبنا حتى الآن لا تتوفر على أدوات قارة لفرض رأيها وتغيير استراتيجيات الحاكمين جذريا، فإن هؤلاء يضطرون لمراعاة مشاعر شعوبهم ولو ظاهرياً، ولهذا فإن هيئات التأطير الشعبي المختلفة مدعوة إلى تكثيف الضغط لاستصدار مواقف تحرك عملية للتضامن والإسعاف والمساندة والتماس طرق ردع العدوان الصهيوني. وإذا كانت إسرائيل لم تحسم بعد صيغة الهجوم البري النهائي خوفا من كلفة عالية لحرب شوارع، قد تقلب المعادلات السياسية الداخلية، فإن الحكومات في منطقتنا مشغولة أيضاً بالتداعيات الممكنة لحرب الشوارع التضامنية، فلم يسبق مثلاً أن استقطبت مسيرة وطنية كل الاهتمام الأمني الذي رُصد لمسيرة 4 يناير، وذلك بسبب التخوف من أن تنعكس عليها آثار الزيادات في الأسعار، وقمع العدل والإحسان، والحرب على تنظيمات «السلفية الجهادية»، ونزعات الانفلات الأمني الشبابي غير المسيس الذي بدأت تظهر هنا وهناك في المحافل الرياضية... إلخ. وكما علينا أن نعتز بمسيرة 4 يناير، وبمظاهرها الإيجابية، فإن علينا أيضاً ألا نستهين بالسلبيات التي طبعتها، ومن ذلك مثلا عودة الشعار المناهض لليهودية «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سيعود»، وسيطرته طول الوقت على مفاصل أساسية من المسيرة، رغم اتفاق الهيئات المنظمة على استبعاد هذا الشعار الذي كان الخلاف حوله في الماضي أحد أسباب انسحاب العناصر المنتمية إلى جماعة العدل والإحسان من مجموعة العمل الوطنية لدعم العراق وفلسطين. ينطلق الشعار السابق من خلفية واضحة: فالصراع في فلسطين، العدو فيه هم اليهود كديانة، والمشروعية فيه سابقة على احتلال فلسطين، وتعود إلى صراع المسلمين الأوائل مع اليهود، وهناك تصور مسبق لمآل هذا الصراع الذي نكمل به حلقات الماضي بحلقة حاسمة، بغض الطرف عن وجود شرعية دولية واجبة الاحترام من طرف الجميع، وما سيجري في المستقبل بيننا وبينهم خاضع لقدرية تاريخية تعدنا بنصر مكين. إن مظاهر التعدد التعبيري في المظاهرة الواحدة ممكنة، وربما كانت محمودة، لكن كل مشارك مطالب بالانتباه إلى أن المسؤولين عن التصريح الرسمي بالمظاهرة، ملزمون بالتقيد بنصوص القانون الذي يمنع التحريض على الكراهية بسبب الانتماء الديني (الفصل 39 مكرر من قانون الصحافة). إن مثل هذه الشعارات المناهضة لليهودية والمناهضة للسلام في حد ذاته (لا سلام لا استسلام لا دعاية صهيونية)، ونقصد به السلام العادل والشامل، تسيء إلينا ولا تخدم القضية. وعلى أحزابنا في فترة تعبئة جماهيرية ومشاعر غضب، ألا تتخلى عن دورها في تنوير شبابنا وفتياننا وتذكيرهم بأن الاعتزاز بالانتماء إلى هذا الدين العظيم والحنيف الذي أضاء أوروبا في فترة ظلامها، لا يجب أن يُترجم إلى أفكار متنافية مع حقوق الإنسان.