- بما أنك متشبع بالثقافة الصوفية وتهتم بالمخطوطات و نوعية كتابتها الغرافيكية، وبفن الكهوف rupestres لمنطقة طاسيلي بالجزائر، كيف تتعامل مع كل هذه المكونات في عملك التشكيلي؟ ما أنا متأكد منه أنني أشتغل على نصوص صوفية إسلامية، وهذا بالنسبة لي ليس صدفة، لأنني أتيت من عائلة صوفية على الطريقة التيجانية، تحدرت من الجزيرة العربية. ولهذا عشت بين المخطوطات القديمة وكذلك بين الكتابة والرسم على الجدران، بما فيها الخطوط المتعلقة بالأحاديث النبوية أو بالنصوص القرآنية، التي يتخذ فيها الخط أشكالا متعددة. وفيما يتعلق بجيلي، فإن عائلتي كانت تصر على أن أتعلم اللغة العربية في سن مبكرة، فكانت الزاوية هي محطتي الأولى، التي تعلمت فيها الكتابة والخط، من خلال تقنيات قديمة كانت وسيلتها القلم واللوح والصلصال والمداد (السمق)، وعند كل نهاية حزب من القرآن كنت أقوم بكتابته على اللوح وزخرفته بالألوان والتوريقات الهندسية في غياب تام للتشخيص، ولهذا كانت اللغة بالنسبة لي نتاجا جماليا متكاملا، فكنت أهتم بشكل الكتابة فقط بمنأى عن المحتوى الموضوعي أو البلاغي.. وبما أن المنزل الذي كنت أقطن به كان يحتوي على تحف من مواد مختلفة من خزف وجلد.. فقد كان يمنع علينا لمسها، فنقتصر فقط على مشاهدتها باعتبارها أشياء مقدسة. وقد كانت والدتي، التي تتحدر من تونس، والتي كان أبوها أول جنرال عربي بالجيش الفرنسي، تعشق كثيرا الرسم والألوان، وكانت ثقافتها فرنسية أكثر منها عربية، وأحرزت على الجائزة الأولى للرسم بفرنسا في عهد حكومة الماريشال فيليب بيتان، لكن عندما تقلد الحكم الجنرال شارل دوغول ودخل الجزائر، أحرقت الشهادة التي تسلمتها من الحكومة السابقة، فعاتبتها على ذلك قبل موتها باعتبار أن تلك الشهادة لا تمت بصلة إلى الفرنسيين أو سياستهم بحكمها عربية، وكان عليها أن تعتز بهذه الشهادة. - يعني أنك ولدت في مناخ ثقافي إسلامي وهو ما عزز موهبتك لقد ولدت في بيت كان يحتوي على زخرفة غنية بأشكالها، إلى جانب عدد من الأيقونات الخزفية والتحف الفنية، وكنت أتوهم في سن مبكرة بأن هذه الأشياء ليس لها وقع، لكن العكس هو الصحيح، فكل هذه المشاهدات المتكررة يختزنها الباطن إلى أن يحصل الوعي فيتم تناولها بعمق من زاوية مختلفة، وعندما مات أبي تعرضنا للإفلاس بسبب انتماء والدي إلى المقاومة، فصودرت كل ممتلكاتنا، وكان على والدتي أن تضمن صيرورة مادية للعائلة، فامتهنت الخياطة والطرز وصنع الزرابي، وكانت تعتمد في إلهامها على بعض المجلات الفرنسية الخاصة بالأزياء. لهذا كانت جل هذه العوامل لها تأثير على اهتماماتي الفنية. ورغم أن والدتي لم تستطع متابعة الرسم لظروف تتعلق بمسؤولية الزواج وظروف المعيشة والحرب، فأنا أعتقد بأنني قمت بضمان هذه الصيرورة الفنية، فكانت تراقبني وتتابع مسيرتي الإبداعية بتوجيهاتها منذ صغري، فأصبحت ترى في هذا الاهتمام تحقيقا لذاتها ولطموحاتها التي لم تتحقق. - اشتغلت على الرموز لأحد أكبر الفنانين العالميين المعاصرين، هو الهولندي كارل آبل المعروف بتقنيته وبأسلوبه الذي ينتمي إلى مجموعة «كوبرا» أو إلى التشخيصية التعبيرية. أين تكمن مساهمتك الفنية في هذه المجموعة؟ لا أدري من أين حصلت على هذه المعلومة، لكن فاتني فيما قبل أن أتحدث معك عن مسألة الأثر والرمز فيما يخص منطقة طاسيلي بالجزائر، التي يصل طولها إلى 700 كلم من الرسومات القديمة، والتي يرجع تاريخها إلى حوالي 50 ألف سنة قبل الميلاد، أي في نفس الفترة الزمنية التي وجدت فيها كهوف شوفي وألطاميرا ودولاسكو. ورغم التباعد الجغرافي فإن الرسومات كانت متشابهة. إذن كل المشاعر المحفورة والمرسومة على الجدران كانت بالنسبة لي حافزا لصياغة مشروعي الشخصي، وكنت أقول دائما إنه قبل أن تسلم أي شهادة فنية لطلبة الفنون بالجزائر، يجب عليهم الاستفادة من تقنيات هذه الكهوف والاعتكاف داخلها شهورا لفهمها وكشف أسرارها. أما علاقتي باتجاه كوبرا فلم تكن إلا إضافة. لقد كان هناك رواق بحي سان جيرمان بباريس يسمىABCD ، وكان يعرض للفنانين كارل آبل، ليستروم، أليشانسكي وآخرين، وهذه المجموعة كانت معروفة عالميا وتساير التطور الفني بامتياز في تلك الفترة، التي كنت أبحث فيها عن شغل، فوجدت عملا بهذا الرواق، الذي كلفني صاحبه بالحفر والنقش على قطع من الخشب لعمل هؤلاء الفنانين من أجل استنساخه بتقنية الحفر، وهكذا تعرفت على مجموعة «كوبرا» ولا زلت لحد الآن أحتفظ ببعض أعمال أعضائها الموقعة. - اشتغلت في مسيرتك الإبداعية على أشكال وتقنيات فنية متعددة وعلى أسندة مختلفة كالحرير والزربية والخزف والحجر والفولاذ، مستعملا الحرف محركا أساسيا لتجربتك، فما الهدف من هذا التنوع؟ كنت دائما أعتمد في عملي على الثقافة الإسلامية، وأستمد تجاربي مما هو يومي ومتداول كالأواني النحاسية أو النافورات أو الزرابي أو الحلي. ولهذا السبب لا أشتغل بقطيعة مع الأشياء، بل أحافظ على صيرورتها. وهؤلاء (السحرة)، أي الصناع التقليديين، يجب أن يستمروا في الإبداع، باعتبارهم شركاء لنا كفنانين حرفيين. لذلك أي مشروع شخصي أشتغل عليه لا يخلو من تقنيات أستوحيها من الصناعة التقليدية، كما هو الحال بالنسبة للعمل الذي أقوم بإنجازه حاليا بمركز الفنون المعاصرة في إفيتري بالصويرة، إذ اعتمدت على توظيف الخشب والخزف، واستعنت بصناع من الدارالبيضاء وآسفي، وبصانع متمرس في تقنية الزرابي من سان فرانسيسكو، لأجل إنجاز عمل متكامل بتقنيات توفر إمكانية الإتقان القريبة من الجودة العالية لعرضه بالمغرب. - كان حضورك الفني ملفتا للنظر، عربيا ودوليا، كما كانت زياراتك للمغرب متعددة. فما هو سر انجذابك و ترددك على المغرب باستمرار في الآونة الأخيرة؟. أولا، علاقتي بالمغرب ترجع إلى فترة قديمة. ثم إن قبور أجدادي موجودة به، مثل سيدي أحمد التيجاني، الذي يوجد ضريحه بفاس. كما أن بدايات اشتغالي كانت مع رواق (المعمل) بالرباط، الذي كانت تشرف عليه بولين دومازيير، حيث ربطت من خلاله علاقات جيدة مع الصديقات والأصدقاء المغاربة، الذين عرضت معهم كالمرحومة الشعيبية، وطلال، وفريد بلكاهية، والمرحوم محمد القاسمي، وحسن السلاوي. وقد وجهت، في إطار مشروع جماعي يتعلق بإنقاذ مدينة تونس، دعوة للمشاركة إلى فنانين مغاربة وعراقيين وسوريين ومصريين وإيرانيين..أي ما يقرب مائة فنان، مما زاد من توطيد علاقتي بهم. لذلك لم يتوقف ارتباطي بالمغرب في أي لحظة، وهذا العمل الذي أحاول إنجازه هنا يعد بمثابة هدية وتكريم لوالدتي لأنها كانت تتمنى بكل صدق زيارة ضريح سيدي أحمد التيجاني قبل موتها. - اشتغلت طيلة مسيرتك الإبداعية على الحرف بكونه علامة ورمزا للصوفية في إطار تقنيات متباينة كالنحت والحفر والصباغة. أين يتجلى تشكيليا في عملك العنصر الصوفي؟ فيما يخص الخط العربي، أولا، أنا لست خطاطا، فكما تعرف أن الخط بطبيعته وتكوينه هندسي وحسابي، بشتى أنواعه، مثل الكوفي والمغربي والنسخي والفارسي. لقد تعلمت الكتابة فوق اللوح القرآني في طفولتي، وبعد ذلك التحقت بالمدرسة في المرحلة الاستعمارية، ولهذا اشتغلت بالكتابة كشكل غرافيكي فقط، لكنني كنت شغوفا بفن الخط، خاصة أعمال محمد هاشم البغدادي، محمد سعيد الصكار، حامد الآمدي، كمال ابراهيم وحسن المسعودي...، فكانت الكتابة بالنسبة لي شكلا بمنأى عن المحتوى الدلالي للكلمات المكتوبة، حيث اشتغلت عليها بطريقة انعكاسية من خلال المرآة كدلالة على الصورة image، والتي ليست لها علاقة بسحر (الدمياطي)، رغم أنني صادفت كتابا بالمغرب من هذا النوع يحمل غلافه بعضا من رسوماتي، لكن عملي في الواقع منفصل ولا يمت بصلة إلى هذه الاعتقادات. ثم إن كتابتي بطريقة معكوسة، كما ذكرت، وهي ليست إلا من أجل حجب النص الروحاني، حتى لا يعتقد المشاهد بأن الكتابة جاءت فقط لتملأ الفراغ، بل لكي ترى من جانبها الجمالي بالنسبة لكل المشاهدين من جميع الأجناس، وعندما قمت بتجربة على الحروف المعكوسة بالقاهرة ودمشق، وجدت صعوبة في الاشتغال مع الحرفيين نظرا لاحتجاج المارة على استعمال الخط بهذه الطريقة باعتبارها سحرا، إلى أن صحبتهم معي يوما للصلاة عندما كنت بمصر بجامع الأزهر، وعند انتهائنا من الصلاة بقيت متأخرا معهم إلى حين خروج كل الناس من المسجد، وطلبت منهم مشاهدة ما كتب على الجدران فاكتشفوا بأن بعض الكتابات الزخرفية للنصوص القرآنية معكوسة مثل كلمة (هو)، وأنهم لم ينتبهوا إليها طوال فترة صلواتهم بالمسجد، فاقتنعوا بذلك وباشروا عملهم. واشتغالي بهذه الطريقة هو بالنسبة لي مفتاح للصوفية، لأن الإنسان يعيش ويموت دون أن يعرف حقيقته، ولا يمكن أن ترى ذلك إلا عبر المرآة، التي تكشف حقيقة وجهك، وغالبا ما نفاجأ في بعض الصور بغرابة وجوهنا، وفي هذه اللحظة بالذات أراك حقيقة كما تراني، لكننا، نحن الاثنين، لا نرى نفسينا. وكما هو معروف روحيا فأنت تحتاج إلى الآخر لتبرهن على وجودك، والعكس صحيح في إطار التسلسل الوجودي الإنساني. - قمت في أكثر من مناسبة بالمزاوجة بين القصيدة والتشكيل، ووظفت نصوصا لجلال الدين الرومي، ومحمود درويش.. وأخيرا ميشيل بوتور. ما هي النتيجة أو الخلاصة التي توصلت إليها في هذه التجربة المشتركة؟. لقد أشرت في البداية إلى أنني عشت بين الوثائق والمخطوطات، ولهذا لا أفرق بين حياتي الفنية وكتابة النصوص باعتبار أن الحرف مقدس مهما حصل، ولو كتب به كتاب كارل ماركس، لأن الحرف العربي قد يشكل تركيبا إذا جمعناه بطريقة متسلسلة لكلمة الله والرسول، ولهذا لا يمكنني الدوس عليه أو رميه، لكون الحرف يحمل دلالة رمزية قوية في اعتقادي. إن تجربتي مع الشاعر محمود درويش سببها مجاورتي لسكناه بتونس عندما غادر بيروت، حيث اكترى منزل الفنان التونسي علي بلاغة، وكان يعشق الطبخ ولا يعرف السياقة، والعكس بالنسبة لي صحيح، أي أننا كنا متكاملين، فتوطدت العلاقة بيننا. وقد اقترحت عليه بأن ننجز عملا مشتركا، فحبذ الفكرة، وبما أنه شاعر كوني فقد كان من الصعب أن تنقص أو تضيف إلى عمله شيئا آخر، رغم اشتغال بعض الموسيقيين على قصائده، لكن أعمالهم كانت فقط ديكورا لشعره، ولهذا اقترحت عليه بألا أشتغل على قصائده، بل على اللحظات الخاصة التي يبدع فيها بطريقة موازية، فأنا من طبيعتي العملية ألا أبحث عن كاتب لأجل ترجمة كتاباته إلى صور لأن ذلك لا يهمني بقدر ما تهمني الروح الكامنة في وجدانه لحظة التأمل والكتابة. أما الشاعر ميشيل بوتور فقد اشتغلت معه سنوات طويلة عندما كان أستاذا بجامعة نيس ثم جنيف، وكنا نشتغل مع نفس الناشر، وأنجزنا كتبا جمعت بين الكتابة والرسم سميت ب»الأيادي الأربع»، وقمنا بإنجاز معرض تحت عنوان «سالومي».
قررت أن أقيم بفرنسا للبحث عن آفاق إبداعية جديدة
- كيف ترى حاليا تطور الفن التشكيلي الجزائري مقارنة بالتشكيل المغربي؟. أعتقد بأننا مرتبطون بحكم موقعنا الجغرافي، لكننا اتخذنا اتجاهات مختلفة تماما. في فترة معينة كان أصدقائي المغاربة يحتجون على المخزن الذي كان سببا في إهمالهم وعدم مساعدتهم على الاشتغال، فكنت أجيبهم بأن الحظ إلى جانبهم بحجة إمكانية اشتغالهم في هدوء دون أي مضايقة. كما أن هذه الفترة عرفت تكتلات، سواء ضمن جمعيات تشكيلية بتوجهات سياسية أو فنية، أما في الجزائر فقد كان اتحاد الفنانين الجزائريين، ومنذ الاستقلال، بمثابة ميليشيات أو اليد اليمنى لجبهة التحرير الوطني، على شاكلة الدول الشرقية، وكانت تتعرض لنوع من المضايقات على يد بعض المسؤولين، من بينهم خاتم بوفاس وحقار، وكأننا نعيش فترة ستالين، وقد كانت بحوزتهم ميزانية وزارة الثقافة، التي سخروها لإنجاز جداريات شبيهة بالرسومات الثورية أو بالواقعية الاشتراكية لأشخاص بمعاول ومطارق ومناجل ومسدسات، باستثناء البعض منهم كالفنان محمد سياخم، محمد خدة، مسلي، وعدان. وأنا شخصيا لم أنخرط في اتحاد الفنانين، إذ كنت دائما مستقلا. في الحقيقة كان هذا الجيل مشتتا فكريا، إلى حين مجيء الشاذلي بن جديد، وظهور ليبرالية متوحشة، مع فوارق طبقية متباعدة بسبب الغنى الفاحش الذي كان يقابله الفقر المدقع. كما أن مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر تطورت بشكل غريب، بعد أن كانت في بداية الاستقلال فضاء جميلا يستضيف أساتذة منفتحين، ويحتوي على منحوتات بجميع أشكالها الفنية، لكن للأسف توفي الكثير من هؤلاء الأساتذة، ومنهم أستاذي علي خوجة، الذي كان يحضر بفخر معظم معارضي، والأستاذ مسلي، فأصاب المدرسة عقم على مستوى إنتاج الفنانين، وهي يتخرج منها الكثير سنويا في جميع الشعب، لكن لا علم لي بوجهاتهم، ولهذا السبب قررت أن أقيم بفرنسا للبحث عن آفاق إبداعية جديدة.