عندما اقتحمت عليه «المساء» خلوته في باريس، كان يسند رأسه إلى رأس شقيقه بايزيد، يتحاكيان ذكريات يختلط فيها المجد بالمرارة. فوق كرسي اعتراف «المساء»، حكى مدحت «René» بوريكات عن والده التونسي الذي تعلم مبادئ الاستخبارات في الأكاديمية العسكرية بإسطنبول، فقادته إلى الرباط؛ وعن والدته العلوية، قريبة محمد الخامس؛ وعن نشأته وإخوته في محيط القصر الملكي واحتكاكه بالأمراء.. يتذكر مدحت يوم بعثه والده في مهمة خاصة إلى محمد الخامس في فرنسا بعد عودته من المنفى.. ثم اشتغاله في موقع حساس في باريس جعله يتنصت على مكالمات الأمراء والوزراء.. إلى أن سمع ولي العهد يتحدث إلى طبيب والده عن المرض الذي تسبب في وفاة محمد الخامس، والتي يقول بوريكات أنْ «لا علاقة لها بالعملية التي أجريت له على الأنف». في «كرسي الاعتراف»، نتعرف مع مدحت «René» على محيط الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، وعلى علاقة المال بالسياسة، وما يتخلل ذلك من دسائس القصور التي قادته، رفقة أخويه بايزيد وعلي، من قمة النعيم إلى متاهات الجحيم في تازمامارت، وجرجرت والدته وأخته بين دهاليز المعتقلات السرية. تفاصيل التفاصيل التي غابت عن كتابه «ميت حي - شهادات من الرباط 1973 إلى باريس 1992» يستحضرها مدحت بوريكات، الذي فقد 20 سنتيما من طوله خلال 20 سنة من الاعتقال، بقدرته المدهشة على الحكي الذي يجعله، يخرج من دور الضحية ليحاكم جلاده، بالسخرية منه طورا، وبالشفقة عليه طورا آخر. - يوم 30 دجنبر1991، وبعد 18 سنة من اعتقالكم (الإخوة بوريكات) في أشهر المعتقلات السرية المغربية، نظر الوكيل العام العسكري بالرباط إلى ملفاتكم وقال: «...لا نملك أي شيء ضدكم.. أنتم أحرار». قبل أن يعود، بناء على طلبك أنت، للاتصال بأحد أصهاركم، ليأتي لاستصحابكم. ما الذي حدث بعدها؟ حوالي الساعة التاسعة مساء، خرج الوكيل العام العسكري من مكتبه إلى الممر المجاور له، وقال لنا: ... لقد تمكنت قبل قليل من ربط الاتصال بصهركم محمد علي اليعقوبي، وهو قادم، الآن، من الدارالبيضاء لاستصحابكم. وما هي إلا دقائق معدودة حتى مر محمد علي، زوج أختي حليمة، من أمامنا، دون أن يتعرف إلينا. - هل عرفتموه أنتم؟ «عقلنا عليه»، كما أننا كنا ننتظر مقدمه، وعندما رأينا رجال الأمن يحيونه.. - لكونه كان يشتغل في وزارة الداخلية؟ هو كان يشتغل في «لادجيد».. لكن «لادجيد» كانت في مكتبه بالمنزل. لأنه كان دائما مريضا، قابعا في البيت، يكتب تقارير من خياله «وكيسيفط عباد الله للحبس» (سبق أن حكى في حلقة سابقة كيف أن محمد علي اليعقوبي كتب تقريرا بحارس «PF3» مولاي علي، الذي كان ينقل أخبار الإخوة بوريكات إلى والدتهم عندما كانوا في «PF3»، مما تسبب لمولاي علي في العزل والاعتقال ثم القتل رميا بالرصاص). هذا طبعا كنا نشاهده قبل أن يتم اعتقالنا. لقد كان لمحمد علي اليعقوبي ابن عم، وكان دائما يعاتبه على هذا الأمر. - على أي شيء يعاتبه؟ محمد علي كان قد أصبح مديرا في شركة للأجبان، بعد قانون المغربة، وكان يتلقى راتبه كمدير لها دون أن يؤدي أي عمل لصالح الشركة. وقد كان ابن عمه هذا يلومه على الجمع بين عملين: واحد سري والثاني علني، دون القيام بأي منهما. - لنعد إلى لحظة قدوم محمد علي اليعقوبي لاستقبالكم بعد 18 سنة من غيابكم. احك لنا عن تفاصيل هذا اللقاء؟ دخل محمد علي إلى مكتب الوكيل العام العسكري، وما هي إلا لحظة حتى خرجا معا، فقال لنا الوكيل: هذا صهركم، هل تذكرونه؟ أجبنا بالإيجاب، فأضاف: إنه الوحيد بين أقاربكم الذي تمكنت من الاتصال به، وأبدى استعدادا لاستقبالكم. «الله يتهناكم.. والله يعاونكم..»، ركبنا سيارته: شقيقي علي جلس إلى جانبه محمد علي، وأنا وبايزيد في الخلف. ما هو أول حديث دار بينكم، بعد ال18 عاما من العزلة، خلال المسافة الرابطة بين الرباطوالدارالبيضاء؟ أول أمر أخبرنا به محمد علي هو وفاة والدتنا. - لم يكن ذلك في علمكم؟ لا.. «كان فخبارنا» في تازمامارت، فذات يوم كان شقيقي بايزيد يدعو الله لأجل أمي، ويناجيها في خياله، ثم يتحدث إليها ضمن من كان يتحدث إليهم من أشباح.. فقال له شقيقنا علي: «غير تهنا.. أمي ماتت». لقد كنا نعرف أن أمي لن تصمد بعد كل التعذيب الفظيع الذي تعرضت له في «الكوميساريو سنطرال» بالرباط، وفي المعتقل السري درب مولاي الشريف وفي «PF3». المهم أن صهرنا علي اليعقوبي كان مضطربا وهو يسوق بنا السيارة إلى منزله، إلى درجة أننا عندما وصلنا إلى مدخل الدارالبيضاء، تاه عن الطريق المؤدية إلى بيته، لولا أن أرشده شقيقي علي (يضحك) والله. وهذا دليل على أنه «تفافى»، وإلا كيف تبرر أنه أخطأ الطريق، هو الذي داوم لسنوات على قطع المسافة بين الدارالبيضاءوالرباط. - كيف استقبلتكم أختكم حليمة بعد الوصول إلى بيتها؟ حليمة كانت في باريس. - لماذا؟ سافرت إلى هناك قصدا، بعد معرفتها بقرب موعد الإفراج عنا، حتى تكون هناك وتنجز تقريرا مفصلا عن الأشخاص الذين اتصلنا بهم، والتصريحات التي أدلينا بها.. - لفائدة من ستنجز هذا التقرير؟ في الغالب لصالح «لادجيد». فهي، في الغالب، كانت تعتقد بأنه سيتم نقلنا مباشرة إلى المطار لترحيلنا إلى فرنسا. - كيف استقبلكم أبناؤها في البيت؟ ابنتها كانت في مراكش، وابنها كان مسافرا بدوره إلى وجهة أخرى. لم يكن هناك سوى زوج أختي محمد علي. ليلتها طار النوم عن عيني، فقد كنت أشكو من آلام المفاصل. - كم بقيتم في ضيافة زوج أختكم؟ بضعة أيام. في الليلة الأولى اتصلنا بالقنصلية العامة لفرنسابالدارالبيضاء، وطلبنا مقابلة القنصل العام، وعندما سألونا عمن نكون، أخبرناهم بأننا الإخوة بوريكات. لقد كانوا ينتظرون اتصالنا. كان بيت محمد علي اليعقوبي قريبا من إقامة القنصل العام في منطقة أنفا، وفي صباح اليوم الموالي زارنا القنصل، وسألنا إن كنا نريد البقاء في المغرب أو الرحيل إلى فرنسا، فأخبرناه بأننا نريد الرحيل في أقرب وقت. قال لنا بأنه سيبعث لنا مصورا من القنصلية، لإنجاز جوازات سفر لنا، ثم غادر. بعدها جاءت عناصر من السفارة الفرنسية بالرباط، ومعها محمد زيان، الذي سيصبح وزيرا لحقوق الإنسان «ماعرفت شكون عيط لو» ومعه ممثل وكالة الأنباء الفرنسية «AFP»، وهو فرنسي كنت أعرفه عندما كنت أشتغل في الاتصالات السلكية واللاسلكية بالرباط، قبيل انتقالي إلى باريس.