عندما وصفنا تساقط المدن والقرى والمعابر الحدودية أمام قوات تحالف قوات الدولة الإسلامية في العراق والشام بأنه تسونامي يجتاح المنطقة ويغير معادلاتها اتهمنا البعض بالمبالغة، وتضخيم قوة هذا التحالف ودولته، ولكن مواصلة هذه القوات زحفها وتعاظم مكاسبها على الأرض وحالة الرعب السائدة بسببها يثبت كم كنا «متحفظين» في وصفنا هذا. جميع المعابر الحدودية بين العراق وسورية، وبين العراقوالأردن باتت كلها تحت سيطرة الدولة الإسلامية ورجالها، وهي دولة لا تعترف بهذه الحدود أساسا ولن تكون لها «وزارة داخلية» أو بالأحرى «إدارة للجوازات» لها أختامها وقوانينها وإجراءاتها المتعلقة بالدخول والخروج، ونشك في أنها ستصدر جوازات سفر، ولكن قوائمها السوداء للممنوعين والمطلوبين قد تكون أطول من نظيراتها الأخرى، فلا مكان لمن يختلف معها أو يخرج عن طاعتها. رقعة الدولة الإسلامية تتسع بما يؤكد أنها عابرة للحدود والجنسيات، وسط حالة من الارتباك غير مسبوقة، تتساوى فيها الدول العظمى والدول الصغرى، حيث القاسم المشترك هو العجز حتى الآن على الأقل. سيطرة قوات تحالف «الدولة الإسلامية» على محافظتي نينوى والأنبار ومدن أخرى بالسرعة التي تمت بها كانت مفاجأة صاعقة ولكنها متوقعة، لأن الجيش العراقي الرسمي، الذي ولد من حاضنة الفساد، لا يملك الدوافع الوطنية أو الأخلاقية للقتال، وبالتالي الموت من أجل حكومة طائفية النهج وإقصائية الممارسة، ويظل السؤال الذي يطرح نفسه بقوة على ألسنة الكثير من الزعماء والمسؤولين «المذعورين» في المنطقة وخارجها هو أين تكون المفاجأة المقبلة؟ زيارة جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، الخاطفة لعمان، وتصريحات رئيسه باراك أوباما لمحطة «سي إن إن» التي حذر فيها من إمكانية توسع «الدولة الإسلامية» باتجاه الأردن وزعزعة أمنه واستقراره، ربما تجيبان عن الجزء الأكبر من هذا السؤال. الأردن الآن في قلب شاشة رادار تنظيم «الدولة الإسلامية»، وخوف الرئيس أوباما وقلقه ليس على الأردن وأمنه واستقراره، وإنما على إسرائيل وأمنها واستقرارها، ومن يقول غير ذلك يغالط نفسه، فمتى اهتمت أمريكا بالعرب والمسلمين؟ وربما يفيد التذكير هنا بأن أبا مصعب الزرقاوي هو القائد المؤسس لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وهو الذي وضع الأطر الرئيسية لإيديولوجيتها الحالية والتعاطي دون رحمة أو هوادة مع خصومها، ويتضح هذا بكل جلاء في الفيديوهات والأشرطة التي تعرض حاليا على شبكة «يوتيوب»، وهي أشرطة تتطابق في معظمها مع نظيراتها التي كان يبثها في حينها زعيمها الزرقاوي لبث الرعب في قلوب خصومه وأعدائه. ولعل الشريط الذي ظهر فيه أحد نشطاء الدولة الإسلامية على شبكة «اليوتيوب» مرتديا حزاما ناسفا، ويمزق جواز سفر أردنيا ويهدد السلطات الأردنية بالمفخخات والأحزمة الناسفة ينطوي على معان كثيرة في هذا الصدد. أدبيات «الدولة الإسلامية» ومواقعها على وسائل التواصل الاجتماعي لا تعكس أي ود للأردن وحكومته، وتردد في أكثر من شريط ومقالة دور هذه الحكومة في اغتيال «الشيخ» أبي مصعب الزرقاوي من حيث تقديم المعلومات الاستخبارية إلى القوات الأمريكية حول تصريحاته والمكان الذي آوى إليه ليلة الإعدام، وهذا أمر يجب أن يبعث على القلق، قلق السلطات الأردنية طبعا. الأردن يعيش وضعا صعبا ويسير وسط حقل ألغام شديدة الانفجار، فهو محاط بجبهات ودول فاشلة يسيطر عليها الجهاديون وتسودها الفوضى، ونسبة كبيرة من هؤلاء من أبناء الأردن، بعضهم جرى تشجيعه بشكل رسمي غير مباشر، وتسهيل مروره، للانضمام إلى خيمة «الدولة الإسلامية» أو «جبهة النصرة» في ذروة الحماس العربي الرسمي والشعبي لدعم الجماعات الجهادية في سورية والعراق وليبيا، فهل نسينا الفتاوى التي صدرت عن مرجعيات جهادية معروفة تحرض على الجهاد؟ فهناك الجبهة السورية، وهناك الجبهة العراقية، ولا ننسى جبهة سيناء، وقبل هذا وذاك الجبهة الفلسطينية التي قد نفاجأ قريبا جدا بالإعلان عن فتح فرع للدولة الإسلامية فيها، في ظل تصاعد السخط على السلطة الفلسطينية ورئيسها وتصريحاته المخجلة عن «قداسة» التنسيق الأمني مع إسرائيل، فالأردن يظل واحة استقرار في وسط هذا المحيط المضطرب. خطورة «الدولة الإسلامية» لا تنحصر في إيديولوجيتها الإسلامية المتشددة وحرص جنودها على الشهادة أكثر من حرصهم على الحياة، مثلما يؤكدون في كل أدبياتهم، وإنما في ضعف الآخرين الذين يقفون في الخندق المواجه لها واختلال بوصلتهم أو بعضهم الوطنية، ورأينا انهيار القوات العراقية المدربة والمسلحة بشكل جيد أمام زحفها مثل انهيار أحجار الدينمو، البلدة تلو البلدة، والمدينة تلو المدينة، والمحافظة تلو الأخرى. الأردن وأوضاعه الاقتصادية المتردية، وحالة الإحباط التي تسود معظم أوساطه الشبابية، والميول المتصاعدة إلى التشدد الإسلامي في صفوفهم، وهو يشاهد الإذلال الإسرائيلي وتغوله على بعد كيلومترات في الأرضي المحتلة، كلها عوامل تشكل تربة خصبة لتنظيمات مثل «الدولة الإسلامية»، وقاعدة جذب لشبابه للانضمام إلى صفوفها. افتقاد تنظيم «القاعدة» الأم للدعم المادي بسبب تجفيف الموارد والمنابع والبعد الجغرافي عن الحاضنة العربية حيث مركز الثقل، وتحالف معظم أجهزة الاستخبارات العربية والعالمية ضده، كلها ساهمت في شل حركته بطريقة أو بأخرى، ولكن تنظيم الدولة الإسلامية، وريثه الشرعي، استطاع سد غالبية هذه الثغرات، من حيث تحقيق الاكتفاء الذاتي ماليا (استولى على 500 مليار دولار من بنوك الموصل وحدها) والاكتفاء الذاتي عسكريا عندما قدم إليه الجيش العراقي الهارب من المدن الشمالية هدية ضخمة من الأسلحة والعتاد الحربي الحديث جدا تركها في مخازنه، وبهذين الاكتفاءين بات أكثر قدرة على تجنيد الآلاف من الشباب وضمهم إلى صفوفه، وأفادت تقارير إخبارية غربية غير مؤكدة بأنه يدفع 600 دولار للمجند الواحد، رغم أن الرغبة في الشهادة هي الأولوية وقمة المنى لهؤلاء المتطوعين. صحيح أن الأردن يملك جيشا قويا وأجهزة أمنية متطورة، ولكن الصحيح أيضا أن الأخطار المحيطة به من كل الجهات تبدو أكبر من قدراته وإمكانياته، بل وقدرات وإمكانيات دول عظمى، إذا وضعنا في الاعتبار وجود أكثر من مليون لاجئ سوري على أرضه، ونصف مليون لاجئ عراقي، وذوبان حواجزه الحدودية مع الدول المحيطة مثل سورية والعراق لأول مرة منذ اتفاقات «سايكس بيكو». فإذا كانت الدول الأوربية تتحدث حاليا عن كشف مخططات لتنفيذ العائدين من سورية أعمال عنف وتفجير في بعض بلدانها، مثل مفجر الكنيس اليهودي في بروكسيل، فإنه من الأولى أن يقلق الأردن الأكثر قربا. السلطات الأردنية تتحدث عن حضانة الجبهة الداخلية الأردنية، وتؤكد أنها ستواصل فتح معبر «طريبيل» الحدودي مع العراق رغم سيطرة قوات تحالف «الدولة الإسلامية» عليه، وأرسلت تعزيزات كافية، عسكرية وأمنية، إلى الحدود لمواجهة أي اختراقات، في محاولة لطمأنة الرأي العام، وهذه خطوات مهمة، ولكن هذا لا يعني أن الأردن غير مستهدف وكل الاحتمالات والمفاجآت غير مستبعدة، ولذلك فإن الحذر والقلق له مبرراته. لا نعتقد أن السلطات الأردنية تقبل نصائحنا أو غيرنا، لكننا لن نتردد في القول إن أي محاولة أمريكية لجر الأردن إلى الدخول في تحالف لحماية أمن إسرائيل الذي هو محور الاهتمام الأكبر للغرب حاليا، ستكون نتائجه كارثية جدا، ونكتفي بهذا القدر. عبد الباري عطوان