"الذاكرة الجماعية هي تجديد متواصل وإحساس بالحرية، ولهذا كان التذكر -ولايزال- مقاسمة اجتماعية تريد التمسك والتشبث بمجالات مكانية، فالذكريات الفردية تبقى رهينة ذاكرة الآخرين المحيطين بنا الذين يمنحون التذكر اليقين والإثبات". موريس هالفاكس لا يمكن كتابة تاريخ المغرب المعاصر بدون تخصيص الكثير من الجهد ومن العمل المتواصل لتجميع المصادر والمظان الأساسية للدراسة، مصادر تشكل مركز الانطلاق في كل الاهتمامات العلمية والأكاديمية لأجيال الباحثين المتخصصين في إحدى أبرز فترات التاريخ الوطني التي وسمت المسارات الكبرى لمغرب النصف الثاني من القرن ال20، بامتداداتها على جل الوقائع اللاحقة، يتعلق الأمر بتجربة المقاومة المسلحة والحركة الوطنية السياسية التي جابهت مشاريع الغزو والاحتلال الاستعماريين في الظروف التاريخية المعروفة، ثم بأبرز أشكال التدافع الحزبي والمصلحي والفئوي التي ارتبطت بحدث الاستقلال السياسي. لقد قيل الشيء الكثير حول هذا الموضوع، وكتبت حوله صفحات طويلة من الأعمال مختلفة الأهواء والمنطلقات، وتدافعت حوله الآراء والتأويلات، وارتبطت به نزوعات متباينة تراوحت بين سقف الانشغال العلمي الرصين في حالات قليلة، وبين ظلال الكتابات الوظيفية المرتبطة بالانزياحات الكبرى التي خلفها رحيل الاستعمار وبالتطلعات التي أفرزها الواقع السياسي لمغرب ما بعد الاستقلال. وبين هذا وذاك، ظل الموضوع يستقطب اهتمام قطاعات عريضة من الباحثين المتخصصين الذين ظلوا يصطدمون بمآزق الكتابة التاريخية المفتقرة إلى ثوابت التأهيل الأكاديمي للاشتغال على الموضوع، وعلى رأسها ضعف المادة الوثائقية واستمرار ظاهرة إقبار أصولها أو تحريف مضامينها أو تأويل خلاصاتها وفق ما يخدم إكراهات الراهن، ووفق ما يستجيب لضرورات اختلاق الزعامات وافتعال الوقائع واكتساب الشرعيات التاريخية المفتقدة. ومن جهة أخرى، ظل الموضوع يثير شهية كتاب ينتمون إلى حقول مختلفة وبعيدة عن مجال الكتابة التاريخية المتخصصة. ونتيجة لذلك، وقع فيض في الكتابات الصحافية التي تجاذبت الموضوع، تحت هاجس الإثارة أو بدافع من الإسقاطات المتشابكة التي يفرزها تداخل مختلف أشكال التدافع التي تطغى على المشهد السياسي الراهن. لذلك، لم يكن من الغريب في شيء أن يصبح للموضوع "رواده" بعد أن أضحى مرتعا للكثير من ممتهني الكتابة الموجهة والأعمال النمطية الجاهزة والتوظيفات الانتخابوية الفاقعة. وتكفي للاستدلال على ذلك الإشارة إلى المنزلق الخطير الذي انحدر إليه عمدة مدينة فاس خلال الانتخابات الأخيرة، بشنه حروبا دون كيشوتية هوجاء ضد سيرة الزعيم الاتحادي المهدي بنبركة، بما عكسته هذه الحروب من ضحالة فكرية وأخلاقية غير مسبوقة... وبين هذا وذاك، اختلطت الوقائع وتداخلت التفسيرات وانحرفت التأويلات، فأصبح المجال حقلا مشاعا لكل التوظيفات الملتبسة التي دفعت بجهود التأصيل العلمي للبحث في الموضوع جانبا، وفتحت الأبواب مشرعة أمام موجة عارمة من الابتذال في الكتابة حول مخاضات مرحلة خمسينيات القرن ال20، سواء خلال مرحلة الاستعمار أو خلال مرحلة ما بعد حصول البلاد على استقلالها السياسي. ونتيجة لهذه الإفرازات، اتضح أن الذاكرة، ومكنوناتها المتشابكة، قد أصبحت ملاذا للجميع، فهي سلطة فوق السلط، ومعين لا ينضب لتنميق الشرعيات المختلقة، وآلية للاشتغال خارج ضوابط الرقابة العلمية ما دامت أسسها مرتبطة بفعل التذكر الشخصي وبتجسيداته المباشرة في مجال السرد الشفوي غير المتقيد بالأدوات الإجرائية الضرورية في البحث وفي التقصي وفي التشريح، ثم في إعادة التركيب والتقييم. وفي كل ذلك، ظل الدرس التاريخي الأكاديمي الوطني منزويا بعيدا عن ضوضاء "حرب المذكرات"، مفضلا انتظار تخصيب شروط العمل المؤسس على الرؤى العلمية البديلة. وقد حدد كتاب صدر مؤخرا ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحت عنوان: "الكتابات التاريخية في المغارب"، كيف أن الذاكرة ظلت حقلا مشاعا أمام الجميع لكي يمارس -عبره- شططه، بأشكال متعددة ولأهداف مختلفة، تستجيب لكي شيء باستثناء منطق النبش التوثيقي الرصين؛ فضاعت الحقائق، واختلطت التأويلات، واستنسخت المظان، وتكرس نهج "الانتقاء" في اختيار المادة المصدرية كأسلوب أحادي في التجميع وفي الاستخلاص. اعتبارا لكل ذلك، أصبح موضوع علاقة التاريخ بالذاكرة مجالا متجددا بامتياز، ليس فقط لأهميته في الحراك السياسي الراهن، ولكن -أساسا- لأنه حجر الأساس في كل مشاريع النهوض المجتمعي المنشود. ونظرا إلى هذه الأهمية، نرى لزاما تسجيل بعض الملاحظات التي نعتبرها نقاطا ارتكازية في جهود إعادة مقاربة الموضوع في إطاره العلمي البديل: أولا، سيكون من الخطإ الجسيم أن تستمر وسائل الإعلام وقنوات التواصل المختلفة في الخلط المطلق بين مفهومي "الذاكرة الجماعية" و"علم التاريخ"؛ فلكل مفهوم خصوصياته ومنطلقاته وآلياته وآفاقه التي تستلزم وضع حدود فاصلة تتحول معها مكنونات الذاكرة الجماعية إلى مجرد رافد من روافد المواد المصدرية المعتمدة في الكتابة التاريخية؛ فلكل ذاكرته ولكل حقيقته، في حين أن المعرفة التاريخية تسمو فوق الاستهلاك الشفوي ولا تطمئن لوثوقية السرد التذكري كيفما كانت مستويات يقينيته. ولقد لخص المفكر موريس هالفاكس هذا الفصل بدقة في كتابه "الأطر الاجتماعية للذاكرة"، عندما قال: "إن الذاكرة تتميز عن التاريخ من حيث أن الذاكرة حية وتحمل بصمات الخصوصية والحميمية والذاتية وتمنح مجموعة بشرية ما إمكانيات حقيقية للتواصل مع ما فيها؛ فيبدو في لحظات استحضارها للذاكرة وكأنها تتجلى في فترات تجلٍّ مع الحقيقة، في حين كان التاريخ ومازال مكونا معفيا، متعاليا، كونيا، ومتخطيا لحدود الحيز الخصوصي والخاص والمحلي والذاتي للأفراد والجماعات"؛ ثانيا، بموجب هذا التحديد النظري، يبدو أن غالبية ما يكتب من مذكرات وحوارات يظل مجرد استيهامات شخصية، يغلب على أكثرها الطابع الوظيفي.. فكل من بدأ يصنع "مجده" السياسي في المغرب الراهن، إلا واستنجد ب"ماضيه" لكي يسعفه في خلق الإطار العام المؤسس لتطلعاته ولمواقفه. ولم ينحصر هذا النزوع في النخب، بل وجد امتدادا له لدى الدولة التي سعت إلى كتابة تاريخها وفق منطلقات نسقية نمطية، هي تجسيد لسلطة الدولة على المؤرخ وعلى إواليات الحقل الذي يشتغل فيه؛ ثالثا، نتيجة لهذا المعطى، أصبحت الذاكرة الجماعية حضنا "آمنا" لجميع سلط السياسة والمجتمع، فكانت "الشهادات" و"المذكرات" التي تتضخم فيها الذات لكي تحجب ما سواها، مستعملة كل الوسائل المفضية إلى صنع "الزعيم" وإلى اكتساب عناصر الريادة. أقول هذا الكلام مع التأكيد على استثناء بعض الكتابات التي اكتست الكثير من عناصر المصداقية التاريخية والنزاهة الفكرية التي أهلتها لكي تتحول إلى مواد مصدرية أساسية في البحث وفي التوثيق، مثلما هو الحال مع كتابات محمد بن الحسن الوزاني، ومذكرات الأستاذ محمد بن سعيد أيت إيدر، ومذكرات المناضل محمد الفقيه البصري،... رابعا، من المؤكد أن الكتابة التاريخية قد أصبحت سلطة معرفية قائمة على الإقصاء والتهميش والاستبعاد، بل أصبح المؤرخ -في عدة حالات- وصيا على الدولة القائمة وحاميا لها ومشرعا لها، وأصبحت توظيفات الذاكرة الجماعية إحدى أذرعها الفاعلة والموجهة. لذلك، بدأ التاريخ الحديث يركز على دراسة المهمشين والمسكوت عنهم والفقراء والحالات البشرية المنسية بعيدا عن مراكز صنع النخب التي برزت خلال مرحلة النضال من أجل الاستقلال، وخاصة بالمراكز المعروفة للعمل الوطني الحزبي. ويقينا فإن الأمر لن يكتسب قوته إلا بإعادة رسم الحدود الواضحة والصارمة، بين فعل الاستذكار وبين "صنعة" كتابة التاريخ، بأدواتها التي لا تنضبط إلا لسلطة العلم، ولمناهج الفحص والتشخيص والاستقراء، القادرة -لوحدها- على إبراز العيوب والأخطاء، وعلى تقييم الوقائع والأحداث. استنادا إلى كل ذلك، يبدو أن مجمل ما راكمناه من معطيات حول الماضي التحرري للمغرب، وحول مختلف أوجه صراعات فجر الاستقلال السياسي، تظل أمورا في حاجة إلى إعادة تقييم إجمالي يراعي المنطلقات العلمية التي حددنا أهم مرتكزاتها أعلاه؛ فلا يمكن تصديق "رواية" شخص ما أو "دوره" في صنع وقائع معينة، لمجرد أنه يحتل وضعا اعتباريا داخل المجتمع، أو لأنه معروف بعطائه في حقل النضال الوطني ضد الاستعمار. ولا يمكن الاطمئنان للمبررات الرسمية في ما يتعلق بالقضايا الملتهبة من ماضينا القريب، مثل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وملفات الاختطافات السياسية وقمع حرية الرأي والتعبير والاختلاف، لمجرد أن الدولة قد أنشأت "هيئة الإنصاف والمصالحة" كجهاز لتحقيق المصالحة مع الماضي؛ فالمصالحة لا تتحقق إلا بالإقرار بالحقيقة، كل الحقيقة التاريخية التي أصبحت ملكا للمغاربة، ضحايا وجلادين وباحثين متخصصين، لا ولاء لهم إلا لصدقية البحث العلمي ولإجرائية أدواته في البحث وفي التحقيق وفي التحليل. أسامة الزكاري