كثر الحديث منذ أيام عن "الخرجة" الجديدة لرئيس الحكومة بن كيران و "تبوردته" من تحت قبة البرلمان حين تطرق إلى قضية شقق وزيرة الصحة السابقة ياسمين بادو و وجود أموال مهربة إلى الخارج بالملايير. الأمر طبعا ليس بالجديد على المغاربة، لكن أن يصدر تأكيد رسمي من طرف رئيس الحكومة فهذا يستدعي وقفة تأملية سواء اتفقنا مع بن كيران أو اختلفنا معه حول الطريقة التي عالج فيها قضية نهب المال العام. أجد من الطبيعي أن يطالب كل من الأستاذ و المهندس و الحرفي و العاطل و عامة الشعب من رئيس الحكومة الكشف عن أسماء هؤلاء المفسدين و الناهبين للمال العام و أتفهم مطلبهم هذا الذي هو حق شعبي، لكن لا يمكنني أبدا أن أتفهم كيف لصحافيينا أن يجلدوا رئيس الحكومة و يحثوه على الإفصاح عن معلومات مع العلم أنها مهمتهم الأولى و من صلب أولويات مهنتهم. فالصحافي "الحقيقي" هو الذي يبحث على المعلومة و لو بمشقة الأنفس ليوصلها إلى الرأي العام، لا أن يقضي ساعات عمله وراء شاشة حاسوبه ينتظر أن تصله الأخبار ليسوقها بأسلوب أدبي فصيح. حيث إذا انحصر دور هذا الأخير في حسن السرد و بلاغة المقال فلا أجد صراحة فرقا بينه وبين الروائي و القصاص. كثيرة هي الأمثلة من عالم الإعلام و الصحافة في الدول العريقة ديمقراطيا و التي توضح لنا الدور البارز الذي يلعبه هذا المجال في مراقبة مؤسسات الدولة و تنوير المجتمع. و لنقف على مثال من ألمانيا، حيث استطاعت جريدة يومية أن تسقط رئيس الجمهورية الاتحادية في بضع شهور بعد أن كشفت عن وثيقة تثبت حضوره حفلا و الإقامة في فندق على حساب صديق له، الأمر الذي يتناقض مع الأعراف القانونية للرئاسة هناك. هذه المعلومة لم تطالب جريدة بيلد "تسايتونغ" من أحد مسئولي الدولة الكشف عنها بل قام صحفيوها بدورهم الطبيعي و و حصلوا عليها استطاعوا بذلك أن يكونوا فعلا السلطة الرابعة. أما عندنا فيتخلى أغلب صحافيونا عن أدوارهم و يتجنبون الخوض في قضايا حساسة رغم أنهم يعرفون حقا منابع الفساد و محركيه، لكن خوفهم من العقاب أو من الحرمان من حصة الاشهارات يجعلهم يبتلعون ألسنتهم و يغلقون أعينهم. و مقابل ذلك يطالبون غيرهم باتخاذ المبادرة مطبقين المثل القائل "أش داني للقرع نمشط ليه راسو". و هنا نأسف لجزء كبير من إعلامنا المنضوي تحت رحمة لوبي فاسد أي أنه هو الآخر ضحية الاستبداد و التسلط لنقف أمام معادلة صعبة ينتظر فيها كل فرد مبادرة الآخر في فضح ماهية المفسدين. أتعجب كيف سالت أقلام بعض الصحافيين مستغربة تحالف حزب العدالة و التنمية ذو المنهجية الإسلامية مع حزب التقدم و الاشتراكية الشيوعي الأصل، واصفين ذلك بازدواجية المواقف و ضعف الرؤيا السياسية. و ليسمح لي هؤلاء الزملاء الصحفيين أن أذكرهم أنه في دولة كألمانيا يتحالف الحزب المسيحي المحافظ مع الحزب الاشتراكي، و على صعيد الجهات يتحالف اليمين مع اليسار و لا نسمع استغرابا من أحد، صحفيا كان أو مواطنا عاديا، لأن ما يهم الرأي العام الألماني بالأساس هو برنامج هذه الأحزاب و حصيلة تلك التحالفات. و مثال آخر عشناه حين انتقد بعض سياسي المعارضة من خلال بعض المنابر الإعلامية طول المدة الزمنية التي استغرقها تشاور رئيس الحكومة مع الأحرار لتشكيل النسخة الثانية من الحكومة المغربية والتي تجاوزت الشهرين. و لنعد إلى ألمانيا و أذكر -و لمحاسن الصدف- أنها نفس تلك المدة الزمنية هي التي احتاجتها السيدة ميركل لتشكيل تحالف مع الحزب الاشتراكي. فلماذا لم نسمع من سياسي المعارضة هناك و لا من منابرهم الإعلامية أي انتقاد؟ و لماذا لم ينفذ صبرهم و لم يبدوا تخوفا على السير العادي لمؤسسات الدولة خلال فترة التشاور؟ السبب بسيط، لأن أغلب الممارسين للسياسة و جل المنتمين إلى عالم الصحافة هناك يقدسون الموضوعية و يحللون الوضع السياسي من باب المسؤولية المهنية، لا من باب "كيفاش نزيد من المبيعات أو من الكليكات" و لا حتى من باب تقديم خدمة جليلة لجهة بعينها مقابل "هدية". نحن هنا لا نعمم و هناك طبعا فئة -وهي بنسبة قليلة للآسف- من الصحافيين و الإعلاميين (خاصة الجيل الجديد منهم) الذين يتعرضون بشكل يومي لإرهاب فكري و ضغوط ابتزازية و مع ذلك يكافحون في سبيل مد المواطن بما يحتاجه من معلومة و من حدث. و هذه الفئة الصغيرة من الصحافيين هي التي نريد. صحافة تقود مرحلة الإصلاح و تفضح المفسدين و الرافضين للبناء الديمقراطي. و نحن هنا لا ندعي أن المسئولين غير معنيين بفضح الفساد، بل نوصي الاثنين معا إعلاميين و سياسيين بضرورة تحمل المسؤولية كاملة و كل من موقعه. فإن انعدمت جرأة بعض مسئولينا فرجاء لا تجعلوا جرأتكم تنتحر. لنكن واثقين أن قوة إعلامنا من قوة مجتمعنا، و حين ترتقي صحافتنا فلن نتسول المعلومة من المسئولين مهما عظمت مرتبتهم و مكانتكم، بل الأكثر من ذلك سيكون هؤلاء المسئولون مجبرين على حسن التسيير و التدبير، لأن السلطة الرابعة تراقب تحركاتهم ما ظهر منها و ما خفي. لا نريد صحافة تسرد لنا الوقائع التي نعرف، لكن نريدها قوية بمواقفها، بمصداقيتها، برقي تحاليلها و أكثر من هذا و ذاك نريدها قادرة على القيام بدورها الأساسي المتمثل في إخراج المعلومة من الظلمات إلى النور. أعلم أنها ليست بالمهمة السهلة و أن معركة فضح المفسدين هي حرب ضروس سيكون لها ثمن غال لابد من تأديته، و لكن متى كان الإصلاح من دون تضحية؟ لنرتق من أجل هذا الوطن. باحث في الإعلام السياسي بجامعة زيغن الألمانية