"من يريد أن يصبح رئيسا لفرنسا عليه أن يكون مثالا في النزاهة"، هكذا كان يردد فرانسوا فيون، مرشح اليمين إلى الرئاسيات، الذي بدأ فوق الشبهات وانتهى تحت الأقدام، في الدرك الأسفل، بعد أن اكتشف الفرنسيون أنه أدخل المال الحرام إلى بيته، في حساب زوجته وجيوب أبنائه، وتبخرت أحلامه في الوصول إلى قصر الإيليزي. المرشّح استثمر كثيرا في "النزاهة" و"النظافة"، وعندما تُفرط في استعمال مواد التنظيف، من السهل أن تزلق على صابونة وتسقط على قفاك. هذا بالضبط ما حدث لفرانسوا فيون. الديمقراطية لا تمزح مع المحتالين والمخادعين والكذابين، و"اللي فرط يكرط". على بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية، يعيش اليمين الفرنسي كابوسا حقيقيا. لعلها أسوأ حملاته الانتخابية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة على يد الجنرال دوگول، أو من أيام "أستريكس وأوبيليكس". الفاجعة أن كل شيء كان يسير على ما يرام بالنسبة إلى ورثة الجنرال: شعبية اليسار في الحضيض، والرئيس فرانسوا هولاند تخلى عن الترشح لولاية جديدة، تاركا أبواب الإيليزي مفتوحة على مصراعيها لحزب "الجمهوريين". الكل كان مقتنعا أن الفائز بالانتخابات التمهيدية لليمين والوسط هو رئيس فرنسا المقبل. رغم تقدم اليمين المتطرف في استطلاعات الرأي، لم تكن مارين لوبان تملك أي حظ للفوز بالرئاسيات، لأن اليسار مازال وفيا لما يُسمى ب"الجبهة الجمهورية" أي التصويت على مرشح اليمين التقليدي في الدور الثاني لمنع اليمين المتطرف من الانتصار، كما جرى عام 2002 حين فاز جاك شيراك على جان- ماري لوبان بفارق كبير بفضل أصوات اليسار، وكما حدث مؤخرا في الانتخابات الجهوية، التي خسر فيها اليمين المتطرف كل الجهات، بفضل "الجبهة الجمهورية"، رغم احتلاله المرتبة الأولى في الدور الأول. في نونبر المنصرم، كللت الانتخابات التمهيدية لليمين والوسط بنجاح منقطع النظير: أربعة ملايين ونصف مليون فرنسي دفعوا 2 يورو للواحد وسلموا شهادة وفاة للرئيس السابق نيكولا ساركوزي ولرئيس الوزراء السابق ألان جوبيه، المرشح الأوفر حظا وفقا لاستطلاعات الرأي. ربح فرانسوا فيون هذه الانتخابات، الأولى من نوعها في تاريخ اليمين، وسط دهشة الجميع. الفرنسيون وضعوا ثقتهم في مرشح لم تنتبه إليه استطلاعات الرأي، بنى حملته على نزاهته السياسية وبرنامج صارم، يتعهد فيه بإرجاع التوازن للاقتصاد، عبر تضحيات جسيمة، على رأسها تسريح خمسمائة ألف موظف وإعادة النظر في نظام التغطية الصحية. عندما كان السباق على أشده مع نيكولا ساركوزي، الذي تلاحقه العدالة في أكثر من قضية، لم يتردد فيون أن "يحك له على الدبرة": "من يتصور الجنرال دوگول أمام المحاكم؟".. لا أحد طبعا، لذلك كانت السقطة مدوية عندما انقلب السحر على الساحر، ورأينا القضاة الذين لاحقوا ساركوزي، يداهمون مكتب فيون بحثا عن حجج تبرر تحويل الملايين إلى حساب زوجته. المرشح النزيه لم يطلع نزيها ولا هم يحزنون. يريد أن يحذف خمسمائة ألف وظيفة لإعادة التوازن للاقتصاد ويلهف مليون يورو لفائدة العائلة… لا شك أن ساركوزي يتأمل مصير من كان يسميه "مساعده" ويستلقي على قفاه من شدة الضحك. كل شيء كان على ما يرام. إلى أن جاء الأربعاء الأسود، حيث اكتشف فيون غسيل بيته منشورا على صفحات "لوكنار أونشيني". الأسبوعية الساخرة حصلت على وثائق تثبت أن مرشح "النزاهة" ظل يدفع لزوجته راتبا سمينا في إطار وظيفة وهمية، كمساعدة برلمانية، طوال السنوات التي شغل فيها منصب نائب في الجمعية الوطنية أو في مجلس الشيوخ، رغم أن لا شيء يثبت أنها اشتغلت معه في يوم من الأيام، ماعدا في تربية الأولاد وكيّ الملابس وتحضير الأكل. المال الحرام دخل إلى البيت والمبلغ مخيف: أكثر من 800 ألف يورو. الجريدة كشفت، أيضا، أن أحد رجال الأعمال كان يدفع لپينيلوپ فيون راتبا محترما مقابل وظيفة أخرى وهمية في مجلة يملكها، وحرصت الأسبوعية على تحري الدقة والمهنية قبل نشر الملف، لذلك اتصلت بالمعني بالأمر كي يقارع الحجة بالحجة، لكن الكبرياء دفعه للهروب إلى الأمام، ورفض الرد على أسئلة الصحافيين. في العدد الموالي اكتشفنا أن ابني فيّون تعاقبا أيضا على منصب "مساعد برلماني" وتقاضيا أكثر من 80 ألف يور، وهما لازالا بعد طالبين في الجامعة، مما يرفع أرباح العائلة من أموال دافعي الضرائب إلى أكثر من مليون يورو.. وعاش المرشح النزيه!
إذا كان الأربعاء يوما أسود بالنسبة إلى اليمين، فإنه عيد الصحافة الحرة في فرنسا. النهار يبدأ بصف طويل أمام أكشاك الجرائد، للتعرف على مستجدات فضيحة "الوظائف الوهمية"، التي حطمت مستقبل فيون السياسي. طوابير طويلة لاقتناء الأسبوعية الحرة، التي يمولها القراء وحدهم، لا إشهار ولا دعم ولا مستثمرين. الأخبار الموثوقة والأسلوب الساخر والرسوم الكاريكاتورية تضمن لها الحياة وسط التقلبات الحادة التي تعرفها سوق الجرائد. في مسيرتها الطويلة، التي تمتد لقرن كامل، خلفت "لوكنار أونشيني" وراءها أكثر من جثة سياسية، أشهرها جاك شابان- ديلماس، الذي اضطر إلى الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء بعد أن كشفت الجريدة أنه لا يدفع الضرائب، والرئيس جيسكار ديستان الذي فشل في انتخابات 1981 بعد فضيحة الجوهرة التي أهداه إياها ديكتاتور إفريقيا الوسطى بوكاسا، وپيار بوروگوڤوا، والأمر يتعلق بجثة حقيقية هذه المرة، إذ اضطر رئيس وزراء فرانسوا ميتران إلى الاستقالة من منصبه عام 1993 بعد أن كشفت الجريدة أنه حصل على قرض بلا فائدة، واكتشف في النهاية أن الحياة نفسها بلا فائدة… وأنهاها بطلقة مسدس!