لقد جاءت هذه اللوحة بدون خلفية ، وبلون أزرق غامق لتعكس عمقا إنسانيا بليغا. فالفنانة التشكيلية ليلى الشرقاوي ، ذاكرة تمشي على الأرض، تلاحظ و ترصد ، و تنحت كل شيء مستفز ، يخلق التواصل ، لتقدم لنا تصوراتها لعالم تراه بعين ثالثة ، ونظرة خاصة فيها الكثير من التساؤلات ، من خلال أشكال تحلم بها ، لكن تقذفها على القماش بتغيير ألوانها، وتأويلها حسب المزاج ، ولذلك تجدها غالبا ما تشتغل على تدرجات اللون ليعزز أسلوبها الذي يزاوج بين التجريد والتجسيد ، يبعث على التفكير ، ويطبع جل أعمالها بشيء من سريالية أرخت سدولها خاصة على هذا الفضاء الفني الموحش الذي يبدو أمامنا غارقا في العتمة والبرودة بفعل لون داكن يضفي على الأجواء نوعا من الهالة ، يستمد هيبته وقوته من أعماق الكون ، مما يجعل أطيافا تبدو داخله وكأنها تتلاشى تلقائيا ، وتنسحب من هذا العالم الذي لايوجد إلا في مخيلة فنانة عصامية تعيش في الدارالبيضاء ، شكلته بطريقة عمودية بواسطة لون واحد ، جعلته يتمثل شلالا يتدفق بالانفعالات ، دون أن يجرف معه ذلك الجسر الذي يجمع بين الواقع والخيال ، ويضفي خصوصية على لوحة أفرغت فيها شعورها عبر خطوط لونية تتموج تلقائيا ، تبدو في كل زاوية وكأنها تنبض بالحياة. كل هذه الأشياء تساهم في تعميق الشكل منظور الذي وظفت فيه مفردات منحتها بعدا تعبيريا مُستلهما من أقواس تحيل إلى الهوية والانتماء ، تنحو مناحي عمودية داخل مربع يخلق المساحة، ويحقق الثبات والتوازن لعناصر تتواجد داخله و تتكرر لترسيخ بعدها التاريخي ، وتتوحد في انسجام تام لتشكل بساطا يحملنا إلى تلك البنايات العتيقة المشحونة بنفحات روحية ، و المنفتحة عبر بواباتها على اللانهائي ، مثلما في لعبة المرايا المتقابلة ، حيث التيه وارد داخل متاهاتها ، لكنه تيه فيه مكان للعطر وعبق التراث أيضا ، ولا يشبه ذلك الذي قصده أدونيس "لامكان للعطر في التيه". إن هذا التيه يوقظ الذاكرة ، و يبعث على الانفعال ، و التفاعل مع هذه الأشكال المجردة من التفاصيل الصريحة ، ويدعو لإيجاد تفسيرا لهذا العمل بنظرة خاصة ، من خلال استحضار تجربة فنانة عصامية تعيش بالدارالبيضاء ، بدأتها بتجسيد يحاكي الواقع ، تطبعه الانطباعية ، لكن مع مرور الوقت ، اختارت أن تخطو على إيقاع العصر ، نستشعر ذلك ، ونحن ننظر إلى قماشة تم عرضها لأول مرة ضمن سلسلة من الأعمال بباب الرواح ، حيث وقف عندها الكثير من المهتمين ، لما تحمله في طياتها من أبعاد إنسانية ، خصوصا وأنهم وجدوا فيها تلك الزرقة التي ميزت أعمال بيكاسوا التي أنجزها في المرحلة الزرقاء. وإن تغيرت ملامح هذا الفضاء مع الزمن ، فإنه يبقى يؤجج مشاعرها ، ويذكي فيها الحنين إلى الماضي ، مما جعلها تتخذه كوسيلة للتعبير ، حيث تراه يحكي قصصا عميقة عن أناس عاشوا بين أحضانه ، ولم يبق منهم إلا أشباحهم ، تمثلت أمامنا ظلالا تؤكد تواجدهم في زمانهم ، وقد أبت الفنانة إلا أن تستحضرهم امامنا بطريقتها الخاصة وبلغة بصرية تعتمد على الإشارات، و من أجل الوصول إلى البصيرة عبر البصر ، حرصت على صناعة ضوء يخترق العتمة ، ويمنح البعد الرابع المتعلق بحركية الإيقاع ، وسيرورة الزمن ، و ذلك بهدف خلق وعي متسع ، و تقليص من حجم الكآبة التي يفرضها لون أزرق قوي يبعث على الظلام ، يهيمن على فضاء اللوحة ويغرقها في سكون مطلق ، يعكس مهارة مبدعة سعت إلى الجمع بين اللون والإنارة لتسلط الضوء على أجساد تأخذ حيزا معتبرا من خلال تموقعها في هندسة مكان ، شبيه بالأطلال ، دون إبراز ملامحها ، وكأنها ترسم المجهول ، وتنزع عنها هويتها دون إفراغها من قيمتها الإنسانية، مما يعكس الحس الرقيق ، المنعش للمشاعر الدفينة ، والمترجم لرؤية فنانة تجمع بين الحداثة والمعاصرة ، مما جعل هذه اللوحة، ينبعث منها وهج ملفت وجذاب ، يمنح المتلقي متعة ساحرة ، بحكم مصدر وينابيع مفرداتها التي استقتها الفنانة من البيئة المغربية، و لكنها أعادت صياغتها بشكل جديد، دون السقوط في النقل الحرفي للواقع الذي تعتبره أداة تعبير عن رؤيتها وأفكارها الأكثر عمقا واكتشاف دقيق لمواطن الخلل بين الحلم والواقع الذي يفرز حقيقة تكون احيانا أكثر مرارة ، سيما عندما يتعلق الأمر بالأنثى التي تعيش وتموت في الظل ، بينما الرجل يبقى في الواجهة على الدوام ، يستعرض جسده بنرجيسية هوجاء ، يظهر ذلك بالواضح وبدون تحايل في مشهد جاء ليعاتب عقليات بقيت متحجرة و لم تتغير مع الزمن ، وذلك من خلال ضربات فرشاة عنيفة ، نقشت صورة صادمة بظلالها البشرية التي تؤثث رواقا يتحدى الزمن ، يكشف عن القوة الهادئة، و شاعرية مبدعة توازي بين الرسم والشعر ، وتأبى إلا أن تلقي نظرة داخلية على الجذور وعلى مصادر الانتماء بلغة بصرية غنية ، تغوص في عمق اللون، وتلامس حياة الاشكال ، فهذه الملامسة تكاد تكون تعبيرا عن قلق انتابها حتما في لحظة استحضار بعض الأماكن والأحداث التي ترسخت في ذاكرتها وألهمتها لوحة لم تكتمل إلا بعدد الأجساد الثلاثة التي تظهر بقوة وجلاء على حساب شبه أجساد أخرى ، تكاد لا تظهر للعيان ، سيما وأن "القدر ، حسب العرب ،"لايركب إلا على ثلاث "، وترسيخ فكرة عند بعض الفلاسفة لايتم إلا بتكرارها ثلاثة مرات ، فالفنانة إذاً لم تقدم أمامنا فقط صورة بمفهومها الفني، ولكنها حاولت أن توصل رسالة من خلال لون فيه سواد وغموض، يعكس هوس تداخل الشعر والتشكيل في تصوير الواقع بعين تجريدية ، وإعطائه عمقا دلاليا ، ومساحة بروح لبقة وشاعرية.