هذا العنوان الذي اخترناه، ينير لنا الجوانب غير اللامعة لعاصمة قيل عنها كل شيء ولا شيء، لأنها تستحق كتابات عديدة ومتنوعة؛ فحين تخطر لنا على الباب باريس عاصمة الأنوار، تُذكرنا ولا شك عن عمق فينا، بقي عالقا في الحنجرة؛ فتتبادر إلى أذهاننا على سبيل المثال لا الحصر، صور برج إيفل المتلألئ، سواء وقفت أمام عظمته الإنسانية الخالدة، أو نتأملها من خلال نافذة بيت أبنائي في حي بورغون، وحين اكتب معجبا عن هذه المعلمة الفرنسية- الإنسانية، سريعا ما أتذكر بعضا من شوارعها، مرورا بشارع الشانزليزيه النابض بالحياة. وكما نكون أمام عاصمة تُقدم للعالم على أنها مدينة النور، والثقافة، والرومانسية، ومهد التنوير الأوروبي.. هي التي جعلت العظماء من المبدعين الفرنسيين والعالمين، ومنهم العرب، يكتبون عنها الكثير، ولعلنا فعلنا على غرار الكتابة ما جعل المبدعين العرب وغير العرب يكتبون كثير عن مدينة طنجة المغربية؛ بل كثيرا ما الهمت البعض منهم يقيمون فيها، بل ويدفنون بها وصية منهم. ولعلنا ندرك خلف هذه الواجهة البراقة، التي الهمتنا ونحن نسائل الذاكرة الموشومة، عما يكمن وجه آخر قلّما يُسلّط عليه الضوء، نقصد لم ينتبه إليه الكثيرون من الكتاب؛ ذلك الوجه الذي وبكل تأكيد، يجعلنا ننتبه إلى ما يروي قصص التفاوت الاجتماعي، انطلاقا من زيارتنا للأحياء الغنية وأخرى المتوسطة وصولا إلى العادية الشعبية، ومدى التمييز بينها، دون نسياء أحياء مهمشة، لم ينتبه إليها هؤلاء المبدعون، وعدسات السياح، وعدسات الإعلام، لكن للأحداث التي شهدتها بحكم أنها شعبية؛ تناولتها بعض الأغاني مثلما فعل الفنان عبد الوهاب الدكالي في أغنيته الشهيرة حول المهاجرين؛ نقصد أغنية "مونبارناس"، وتفاصيل أحداثها الحزينة. وإن كتبت اللحظة، ومنذ اقامتي في حي راق من أحياء باريس، فهذا لا يمنع زيارتي لبعض ضواحي باريس، حيث يعيش ملايين من المهاجرين وأحفادهم، وما يطلق عليهم " أقليات"، هذه التي تُقابل أحلام الاندماج بجدران اللامساواة والتهميش. إنها مناطق، معروفة ب"البانليو"، وهي في الغالب يربط تاريخها القريب بأحداث عنف أو شغب، ولا زال الأمر كذلك حين شدة الاحتكاك بين الاجناسية التي تسكن العاصمة، مرورا بالإحتكاك الذي تكون السياسة العنصرية سببا من أسباب ما نسميه عوض السياسة مهد السياسوية المفتعلة، وأخرى تمهيدا لما هو استحقاقي وانتخابي؛ وهكذا، كثيرا ما يغفله الكتاب لسبب ولآخر، كما تُغفل معها حقيقة تكشر وتكشف عما تعانيه من نقص في الخدمات الأساسية، وارتفاع نسب البطالة، وتدنٍ في جودة التعليم. ولعل هذه الأسباب المسكوت عنها، سيما من قبل الكتاب المناضلين والذين يدعون الإنساني كشعار تحرري ديموقراطي؛ يكونوا كمن ساهم بشكل من الأشكال في هذا التهميش الذي بني عليه شعور بالغربة داخل الوطن، وكما أفرز بالمقابل حالة من الغضب لدى شباب نشأوا في مجتمع لا يمنحهم فرصًا متكافئة. وكما يجدر بنا إلى إظهار ملامح من الوجه الآخر لباريس في التوترات الاجتماعية، الناتجة عن سياسات الهوية والهجرة ، ولعل هذه الظاهرة بدت وكأنها الوجه الحقيقي لفضح الشرخ الموجود بين الاروبيين عامة، والبارسيين خاصة، سيما فيما يتعلق بالمساواة والديموقراطية والحريات العامة التي يتغنى بها الفرنسيون وبقية العالم الاروبي. فبينما يُرفع شعار الحرية والمساواة والأخوة والخطوة الى الوراء، يجد حقيقة الكثيرون أنفسهم في مواجهة خطاب إعلامي وسياسي، يعكس واقعا مهزوزا، حيث ينعت المهمشون من العرب وغير العرب ويتهمون في آخر المطاف، بالانعزالية أو التطرف لمجرد تمسكهم بجذورهم الثقافية أو الدينية. إنها حقا مفارقة تطرح تساؤلات حول مدى شمولية القيم الجمهورية الفرنسية، ومدى صدقها في احتضان التنوع. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فلا يمكن لنا إغفال الجانب الاقتصادي من هذا الوجه الآخر. فباريس تُعد وكما يعلم العالم من أغنى العواصم الأوروبية، لاحتضانها تفاوتًا صارخًا في الدخل ومستوى المعيشة بين مناطقها. وهذا ما يجعل الفجوة بين الأحياء الراقية تظهر للعيان ولا تحتاج لدراسة معمقة، في هذه الأحياء البرجوازية تتراكم الثروات، بينما في الأحياء المهمشة، تعاني العائلات من الفقر، ترسم خريطة غير متكافئة للمدينة، تتناقض مع صورتها النمطية. فباريس وقياسا مع غيرها من المدن الكبرى، فهي حقا مدينة متعددة الوجوه. ومع ذلك لا يمكن إنكار سحرها الثقافي والحضاري، وحين نضع الاصبع وندرك الوجه الآخر منها فإننا أمام شيء ضروري لفهم واقعها المعقّد والسعي نحو عدالة اجتماعية حقيقية. فمدينة الانوار لا يمكن أن تكتمل إنارتها ما لم تصل أضواؤها إلى كل زواياها، بما فيها تلك التي ظلت طويلاً في الظل.