لا بأس من الاعتراف. نعم قد يصدر عني بعض التأفف الصامت حينا، ويحدث أن أتلفظ ببعض العبارات الساخرة من الأفارقة. وفي حالات الضيق قد يجيش صدري بما تيسر من شتائم، لكن سرعان ما أتخلص منها بكتمها في نفسي، لأنني لا أُحسُّني عنصريا بالمرة، ولا أريد أن أكون كذلك البتة. مازلت قادرا على أن أقنع نفسي بأن «الانزعاج» من الأفارقة أو عدم الارتياح إليهم اللذين يبديهما البعض ويكتمه آخرون، لم يرق بعد عندنا إلى مرتبة العنصرية البارزة للعيان، ولكن أعرف كذلك أنها مرض صامت مثل داء الكبد الفيروسي، يعرف كيف يتسلل بهدوء وسلاسة إلى الذات في غفلة عنا ودون أن يصدر عنه ما يزعج تلك الطمأنينة الخادعة التي نستسلم لها. وحتى إن طفت بعض الأعراض على سطح الذات، فإن خوفنا العميق من الإحساس المؤلم بالمرض، يدفعنا إلى الانشغال عنها أو تجاهلها آملين أن تتبدد من تلقاء نفسها. ولا ننتبه أو نأخذ الأمر مأخذ الجد سوى بعد أن يكون المرض قد تمكن من الجسد، ويصعب استئصاله. ولعل من حسنات حملة «أنا ماسميتيش عزي» أنها ستنبهنا إلى ضرورة فحص ذواتنا للانتباه إلى كل نتوءات غير عادية فينا، كما تفعل حملات التحسيس بسرطان الثدي. والأهم، بالنسبة إليّ على الأقل، أنها تُحفزنا على مواجهة ذلك السؤال الحارق: لماذا يستثيرنا الإفريقي بهذا الشكل؟ ربما يعود الانزعاج من هذا الإفريقي، إلى كونه يضعنا أمام سؤال مؤلم آخر حول الهوية والانتماء. فهناك من يحس أن هذا الوافد الذي يشترك معنا الهواء والمقهى والشارع، و»يزاحمنا» في العمل وفي التسول يشكل «خطرا» علينا ويجب الاحتماء منه من خلال بناء أسوار غير مرئية بيننا وبينه، وهذه أخطر أنواع الأسوار لأنها «تقطن أدمغتنا وعقولنا» على حد تعبير المفكر المغربي عبدالسلام بنعبد العالي، وتسجننا في «الخصوصية»، وهي هوية منغلقة جامدة تحب النمطية وتنبذ الاختلاف. والهوية التي تميل إلى التشابه والتوحد تلد، مع مرور الأجيال، كائنات تعاني من التشوهات الخِلقية مثل زنى المحارم والإفراط في زواج الأقارب. ولعل عدم الارتياح الذي يشعر به البعض نحو هذا الوافد المختلف - والذي قد يتطور إن لم ننتبه إليه إلى «عنصرية» لا تخجل من نفسها- مرده إلى كونه يمثل صفحة الماء التي تعكس صورتنا. ولكننا، على عكس «نرجس» في الميثولوجيا الإغريقية، لم نسقط في حبها هذه الصورة، بل نميل إلى كرهها لأنها تتحدانا باختلافها. بيد أن الآخر، المهاجر، سواء أكان إفريقيا أو آسيويا ومهما يصدر عنه من سلوكات قد تبدو مثيرة للغضب، فإنه يظل مصدر غنى مثل الرياح اللواقح التي قد تكون مزعجة، ولكنها تحمل في هباتها بذور التخصيب التي تُعطي ثمارا طيبة، على خلاف ريح العنصرية التي لا تنتج سوى تلك «الثمار المرة»، التي تتحدث عنها المغنية الأمريكية الزنجية الكبيرة «بيلي هوليداي» في أغنتيها الرائعة «strange fruit»، تلك «الثمار»/ الأجساد التي تقطر دما والمعلقة على أشجار الجنوب.