قد لا تكادُ تمر مناسبة دون أن يصرح فيها بعض المسؤولين المغاربة بأنهم يعملون جاهدين على الحد من الفساد الاقتصادي ومجابهة اقتصاد الريع. وفي ذات السياق تَضَمّن البرنامج الحكومي مجوعة من الاجراءات التي تهدف إلى أجرة مطلب "محاربة الفساد" من قَبِيل الحد من استغلال أملاك الدولة، وتشجيع المنافسة، ومجابهة اقتصاد الريع. حيث صرّح وزير النقل والتجهيز أكثر من مرة بأن الحكومة ماضية في مسعاها الرّامي إلى الحد من تناسل "الرّخص" وترشيد هذا العمل. ولأن الحكومة عجزت عن تحرير الاقتصاد من "الريع"، فإنها عادت لتؤكد على لسان أكثر من مسؤول بأن المسألة صعبة، وأنه لا يمكن نزع "الرخص" من أصحابها، لكن الحكومة ستعمل على وقف منح رخص إضافية في سبيل "التدرج" من أجل الحسم مع هذا النوع من الاقتصادات. لكن هل هذا فعلا ما يحدُث؟ هل توقف مسلسل منح "الكريمات"؟ ألم تُمنَح أية رخصة منذ تولي الحكومة الحالية؟ ألم يُمنَح بعض لاعبي فريق الرجاء "رخص" النقل؟ ألا يتداول المغاربة اليوم حكاية منح كريمات لمواطنين لم يفعلوا شيئا باستثناء أنهم وُجدوا بالصدفة في مسجد معين؟ إن التعريف البسيط ل "الرّيع" يمكن تلخيصه في الكلمات التالية "هو المدخول المادي المتحصَّل عليه من خلال وسيلة غير متاحة للجميع، كما أن الرّيع هو كل ربح مادّي لم يَنتُج عن عملٍ أو مشقّة". وإذا ما أردنا إسقاط هذا التحديد على الموضوع الذي نحن بصدده، وهو ما يتعلق بالرّخص الممنوحة لبعض المواطنين لاستغلال سيارات الأجرة أو الصيد أو مقالع الرمال، فالنتجية هي أن مَنح بعض المواطن هذه الرّخص التي تسمى في اللغة العامية ب "الكريمات" يدخل ضمن دائرة اقتصاد الريع، الذي رامت العديد من الدول الديمقراطية القضاء عليه وتشجيع روح العمل والتنافس الحر كبديل عنه. ورغم الملاحظات الكثيرة على الدستور المغربي، إلا أن قراءة متمعّنة لبنوده تُظهِر بأنه في الوثيقة الدستورية ما يجرّم "الرّيع"، فكثيرا ما تحدّث الدستور عن المساواة بين المواطنين، وعدم استغلال النفوذ، وتشجيع المبادرة الحرة، والحفاظ على التنافسية. ويمكن الاقتصار لتوضيح ذلك على الفصلين 35 و36 من الدستور اللذين ينصّان بشكل صريح على منع أي عمل من شأنه التّعارض مع مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق كما في الواجبات. جاء في الفقرة الثانية والثالثة من الفصل 35 ما يلي: "تضمن الدولة حرية المبادرة والمقاولة، والتنافس الحر. كما تعمل على تحقيق تنمية بشرية مستدامة، من شأنها تعزيز العدالة الاجتماعية، والحفاظ على الثروات الطبيعية الوطنية، وعلى حقوق الأجيال القادمة؛ تسهر الدولة على ضمان تكافؤ الفرص للجميع، والرعاية الخاصة للفئات الاجتماعية الأقل حظا". وهذا ما يفيد بأن أي تصرّف يتعارض مع مسألة العدالة الاجتماعية، والحفاظ على ممتلكات الدولة، يكون فاعله مخالفا للدستور ومنتهكا لحقوق المواطنين من الفئات الاجتماعية الغير محظوظة، كما أن من شأن أي خطوة تضرّ بالمساواة في الفرص بين المواطنين للحصول على دخلهم، أو مَنح بعضهم امتيازا على حساب البعض الآخر، تبقى مبادرة فاقدة للقانونية ومكرّسة لاقتصاد الريع، ونشر روح الاتّكال والتّكاسل. وللمزيد من الإلحاح في الموضوع، وحتى لا يبقى مضمون الفصل 35 عبارة عن كلمات إنشائية، جاءت الفقرة الثالثة من الفصل 36 من الدستور لكي تحسم في الموضوع، وتُحوِّل المبدأ إلى قانون "يعاقِب القانون على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة، وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية". الواضح من هذه الفقرة، أنها تَمنع على أي مسؤول عموميّ - لأن الدستور فوق الجميع - بأن يَستغِلّ منصبه، لكي يُقدِم على أي عمل من شأنه المساس بحرية المنافسة. الواقع، أن إفراد بعض المغاربة بمِنح ريعية، يخالف مبدأ التنافسية، ويُدخل العملية ضمن دائرة الوصولية واستغلال علاقات القرب، سيما أن أغلب الذين يتحصّلون على تلك "الكريمات" هم بالقطع ليسوا أسوأ حالا من كثير من المغاربة، والدليل على ذلك أن البيانات التي نشرتها وزارة النقل في ما يخص مالكي تلك الرخص، أظهرت بأن جل من يتوافر على رخص النقل مثلا، هم ضمن الأوساط الميسورة، من قبيل ممثلين يعيشون في رفاهية، أو برلمانينن تقاضوا أجورهم طيلة مدة انتدابهم، أو لاعبي كرة قدم يملكون مقاهٍ ونوادي رياضية، أو شركات مجهولة الاسم. إن مبدأ التنافسية الحرّة الذي ينصّ عليه الدستور، لا يقتضي منح المزيد من "الرخص" وتشيجع المواطنين على الربح الرّيعي، وإنما يقتضي تحرير قطاع النقل والصيد في أعالي البحار، وجعل إخضاع استغلال مقالع الأراضي المملوكة للدولة لقوانين الصّفقات العمومية. دون أن يمنع ذلك الناس أو المسؤولين من الإقدام على فعل خير، لكن لا ينبغي أن يكون فعل الخير على حساب ثروات البلاد، التي أمر الدستور بحمايتها، وإنّما يكون عمل الخير من الأموال الخاصّة. كما أن التدرّع بقضية الخدمات التي قدّمها من تحصّلوا على "الكريمات"، يُعتبَر أمرا متهافتا من عدة نواحٍ؛ فهل ما يقدّمه الريّاضيون للمغرب، أفضل مما يقدّمه عاملو المناجم والمستخدمون في قطاع الفوسفاط مثلا؟ فإذا ما أردنا أن نضمن التقاعد المريح للمواطنين المغاربة فيجب أن يكون ذلك بالنسبة للجميع، لا أن يقتصر على أولئك الذين كانت لديهم فرصة لطلب الرّخص، أو شاءت الصدف أن يصلوا "الفجر" جماعة، وإلا فإننا سنحوّل جميع المغاربة لمطاردِين للسيارات التي لا تحمل لوحات، أو نُعلّمهم النفاق بأن "يواظبوا" على صلاة الفجر في المساجد الصغرى كلما سمعوا بحلول الملك بإحدى المدن، علّهم يجدون من يمنحهم رخصة لسيّارة أجرة أو حافلة نقل، أو بقعة سكنية، أو كم هكتار من أراضي صوديا وصوجيطا. إن السؤال القائل: أُعطيك سمكة وتعيش ليوم واحد، أم أعلّمك صيدها لكي تعيش باقي أيامك، يجب أن تؤول الاجابة عنه لصالح الشقّ الثاني منه، إذ ينبغي أن يسود أي اقتصاد يروم التطوّر، مَنطق مراكمة الانتاج، وصيانة الثروات، وتكريس مبدأ المال لمن يعمل عليه. أما استدامة "الريع" والتشجيع عليه، فهو لن يزيد التدهور إلى تدهورا. الملاحظ أن المقالة لم تعرض لعلاقة الدين بالموضوع، والسبب هو أن كاتب السطور ليس فقيها دينيا، ولا يمكنه أن يفتي في هكذا أمور. لقد عرضت لموقف الدستور والسياسة والاجتماع في الموضوع. وأتوجه بهذا سؤال إلى المجلس العلمي الأعلى: هل يجوز أن يستفيد بعض المواطنين من مال دون أن يعملوا عليه؟