"سفيان ولدي.." - ماما عْتقينا، رَا دْرْنا كْسِيدة فْ الطريق.. هيتم حدايا كيتحرق!! لم تلبث أم "سفيان ولدي" أن نبعت لها، خارج إرادَتِها، أجنحة عظيمة هبت بها إلى حيث الحادث قبل أن يستبد سلطان الحريق ويستتب. هبت لتُعتق هيتم من النار قبل أن تُتلِفَ لحمَه الغض وعظمَه الطري، أما "سفيان ولدي" فهيهات أن تدعَ اللهيبَ يمسُّه أو يقاربُه أو يحاذيه. بردا وسلاما على كل الأطفال وعلى "سفيان ولدي" الوحيد. الولد في حالة خطر يصير كالولد الوحيد، ولو بين ألف ولد. كل ولد في الوطن وحيد فريد غالٍ ونفيس. سفيان وهيتم وابراهيم واسماعيل ويوسف ويونس وإلياس والآخرين... وكل من حضر هناك وقتَ السفر، وليته ما حضر ولن يشكوَ فوات تلك الحافلة.. حسبت أم "سفيان ولدي" نفسها الوحيدة التي نبعت لها أجنحة من دون الأمهات الأخريات. لكنها ما إن أقلعت من سطح البيت صوبَ مكان الحادث المفترض حتى لقيت في الطريقِ الطيَّار كلَّ الأمهات قد صِرن مثلها، ذواتِ أجنحة مثنى وثلاث ورباع يسْتبقْنَ المكان. يزيد عدد أجنحتهن على حسب الرعب والجزع. فرحن بلقاء بعضهن. إذا عمت هانت.. ربما. وهل يهون هكذا فقدان؟ تحلقن واجتمعن في جو السماء. كن كسِرب حمام زاجل يشم رائحة المكان، ويمسحُ طوله وعرضا حتى إذا حدد الوجهة انطلق حيث أشارت بوصلة ناصيته الصغيرة حيث تركزت نسبة عالية من حديد ممغنط. انطلقن هن كذلك. السباق والمنافسة ستحرق المسافات. الدخان في الأفق سيدُلهم على المكان كنار الهنود الحمر حين تنبئ عن خطر محتمل، أو كنيران الاندلس حين كانت تبلغ المغرب عن حلول شهر الصيام إن أهل هلاله في ضفة قبل ضفة. الأمهات ذواتُ الأجنحة على صيامهن. لن يُفطِرن إلا هناك، على لذة إغاثة الأبناء وطيبتها.. سيصلن المكانَ ويحلقن حوله، وبأجنحتهن الضخمة سيُخمدن الحريق الذي لن يتمَّ لهُ أمر ولن تنفُذَ نيته القاتلة. سيعاجلنَه بمَراوح من ريش ضَخْمِ القوادِم. سيُعتقن مَن هناك من النار. الأطفال عتقاء. لن يموت أحدهم محروقا. لن يُؤذى أحد. النارُ بالكَادِ ستكون قد أحرقت بقايا النعاس في الجفون الغضة الطرية، أو أحرقت بعض أطراف من ثياب، أو بعضَ أمتعة، أو بعض أوراق.. أو أثارت بعضا من رعب طفولي وصراخ..وفقط! وإن يكنْ حِمامُ الموتُ قابَ قوسين، فإنه عند رؤية حَمام الأمومة العملاق الرفراف سيعود أدراجَه وينصرف من حيث أتى. الكل بخير. حتى من أوذي ستكون أقصى أذِيته آثارُ وَكْتِ النار على الجلد، سيضع عليها قرصا من معجون أسنان بالفليور فور العودة إلى البيت على جناح أمه، فإذا هي قد برَدتْ.. في الطريق وأثناء تحليقِهنَّ الخاطف لقين المروحيات المرصودةِ لمثل هاته الحالات كما قال الناطقون. لقد هبت هي كذلك من كل صوب وحدب. ما إن أبصروهن حتى أطل الربابنة من قمْرَات القيادة يعاتبن الأمهات ذوات الأجنحة على انزعاجهن من مضاجعهن دون استغراب شكلهن. الهبَّة الانسانية أنست العادة ونقضَتْها. لا مستحيل عند الخطر الداهم. هلا بقين في بيوتهن يهيئن لمن سيأتي ولمن بقي وجبة الإفطار. "خُبْزَ طاجين" سَخِين بزُبْدٍ وشهد مُذاب على نار صديقة غير عدوة، وكوب شاي بنعنع عبق، ريثما يعودون. سيعودون سالمين غانمين مُوَشَّحِين بميداليات رمزية مبشرة بغد بطولي جميل. عاتبوهن وعاتبوهن. المروحيات أوْلى بالإغاثة منهن. الدولة أولى بالهبوب لرعاياها وأطفالها. هي شخص المجتمع القانوني الاعتباري، الفرق فقط في مجال المفهوم. الدولة هي ولي أولئك الأطفال ووصيهم. ستحمل بردا وسلاما لسفيان وهيتم وإبراهيم واسماعيل ويوسف ويونس وإلياس وأترابهم وأصدقائهم من الركب المسافرين الواثقين ثقة تامة في الحافلة والسائق ومساعد السائق والطريق والرفيق. الواثقين حتى في الشاحنة الآتية على عجل لتصدمهم أنها لن تفعل، أنها ستتوقف في آخر لحظة، أنها ليست في وضع مخالفة، أنها لا تحمل بنزينا ولا محروقات مُهَرَّبَة، أن أصحابها ليسوا أشرارا، أنهم مواطنون مثلهم وأن المواطنين إخوة إذا مست أحدَهم نار فكأنما مستهم جميعا.. دون فرق أو استثناء.. لكن الأمهات لم يعبأن بعتاب الربابنة وأتممن الطيران. من يملك أن يصْرفَ أما عن إغاثة بضْعَةٍ منها. قد يجوز لو لم تكن الاستطاعة. أما وقد ساعدتها أجنحة لم تدْرِ أصلا أنها كامنة فيها، وأنها تظهر عند حالات الخطر الداهم وتكبر تبعا لحجم الخوف فلا.. لا عودة إلى البيت رغم وجود قوات الإغاثة والمطافئ هناك. ليهب الكل هبة أم واحدة. الوطن أم. الطفولة الغضة الطرية ثمينة، الطفولة غالية، نفيسة على شغبها وشقاوتها ومشاكساتها. رغم كل ذلك لن تحرقها النار. لن يدخل النار طفل صغير. النار يدخلها الكبار ممن أجرموا وأصروا واستكبروا استكبارا.. في الطريق كانت قلوب الأمهات كقلوب الطير. رغم الأجنحة القوية السريعة. لا تهدأ. تنبض في فراغ، طارت وحلقت قبل الأجساد هناك. مكثت غير بعيد تبحث عن نبأ يقين. أين موقع الحادث؟ أين الحافلة؟ أين الشاحنة؟ أين الركب؟ لا يبدو شيء في الأفق. حتى الطريق المعبدة لم تعد تظهر بالعين المجردة. لحقت الأجساد بالقلوب المعلقة هناك. هل ضلوا الطريق أم الطريق ضلتهُم؟ لكن المروحيات لها بوصلة ورادار ولوحة قيادة خارقة. لئن اجتمعت الأمهات على ضلالة الطريق ولم تسعف إحداهن الأخرى بفعل الرعب والذهول، فكيف بالمروحيات تضل هي كذلك الطريق وتبدو أطقمها حائرة عاجزة يائسة. كانت المروحيات تحلق ذات اليمين ثم ذات الشمال ولا تعود بشيء. الكل ضل الطريق.. أين هم؟ أين نحن؟ أين الدخان؟ أين طانطان؟ أين معجم البلدان.. على مد البصر كثبانٌ من رمال لا تبدو معها أثَارَةٌ مِنْ حياة. لقد زحف الرمل. زحفت الصحراء. وهل يجوز. بين فجر وضحى. كم يا ترى سرعة الكثبان؟ وهل تتحرك اصلا بدون رياح بادية للعيان؟ تصرم الضحى ولا خبر. زالت الشمس ولا أثر لحافلة ولا شاحنة ولا أطفال. تلاشوا. ربما لم يقع شيء أصلا. ربما كان حلما مزعجا ألم بجنوب الروح. حبذا لو كان حلما. يا رب اجعله كابوسا وكفى. سيُقيد ضد مجهول ويُحفظ. أو يُقيد في ذمة القضاء والقدر. لم يقع شيء. لا يقع شيء هنا أبدا. مجانا تنزعج الأمهات. انزعجن حين فاضت السدود بفعلٍ مبني للمجهول. دائما. وشبت لهن الآن أجنحة وشابَ ريشُها ولم يقع شيء.. وغِيضَ الماء وخبت النار وزحفت الرمال واستوت الشمس في كبد السماء وانشقت الأكباد بحثا عن فلذاتِ أكباد موءودة.. إنه التصحر! أو ربما كثبانُ الرمل كانت أكثرَ انسانية ورحمة. سارعت لقتل الرأفة. سارعت لستر ما تبقى من أجساد صغيرة متفحمة كيلا لا تهتز لها السماء. ليتها فعلت. ليتنا سمعنا أنهم فقط في عِداد المفقودين.. كيلا يُفقَد الرجاء والأمل، كي تعود الأمهات لعِمَارة الدار، لكن.. هل تعود القلوب سيرَتها الأولى..