لفتيت يذكر باللوائح الانتخابية للغرف    أمطار متفرقة وثلوج بالمرتفعات .. تفاصيل طقس الأيام المقبلة في المملكة    سقوط غامض يُنهي حياة طالب كونغولي بإقامة سكنية بطنجة    الأمطار تعزز حقينة السدود بالمغرب.. نسبة الملء 38% وتصريف 80 مليون متر مكعب في البحر    أكثر من 200 طن..زيادة قياسية في مشتريات الحبوب بالصين    رياض مزور ل"غلوبال تايمز" الصينية: مبادرة "الحزام والطريق" عززت الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والصين.    الإثارة تبلغ ذروتها في "كان المغرب".. أربع مباريات ترسم ملامح المتأهلين    بين كأس افريقيا و"كَاسْ حياتي".. هل استعد المغرب لسيناريو الاصطدام بالواقع؟    هبوط الذهب من مستويات قياسية والفضة تتراجع بعد تجاوزها أكثر من 80 دولارا    مرصد حماية المستهلك يندد باستغلال المقاهي لكأس إفريقيا لرفع الأسعار    هذه مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    حصيلة عمل رئاسة النيابة العامة ل 2024 في تنفيذ السياسة الجنائية    مشاريع تنموية واتفاقيات جديدة مرتقبة في دورة مجلس مقاطعة سيدي البرنوصي    بنعلي ينتقد النموذج الفلاحي في بركان    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي            هيئة حقوقية تطالب بالتحقيق في ادعاء تعنيف المدونة سعيدة العلمي داخل السجن    هدم نصب تذكاري صيني عند مدخل "قناة بنما"    ترامب يعلن إحراز "تقدم كبير" في سبيل إنهاء الحرب بأوكرانيا    القوات الروسية تعلن السيطرة الكاملة على بلدة ديبروفا في دونيتسك واسقاط صواريخ وطائرات مسيرة    تصدير الأسلحة يسجل التراجع بألمانيا        مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تعقد جمعها السنوي العادي    المنتخب المغربي يضع نفسه أمام حتمية الانتصار ضد زامبيا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    "فيدرالية اليسار": سياسات التهميش حولت المحمدية ومناطق مجاورة إلى "تجمعات تفتقر للتنمية"    الصين تطلق مناورات عسكرية وتايوان ترد بالمثل    حريق يخلف قتلى في دار للمسنين بإندونيسيا    تنظيم "داعش" يعطب أمنيين في تركيا    رياض محرز يتصدر ترتيب الهدافين في كأس الأمم الأفريقية 2025    وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما    أمريكا تتعهد بتمويل مساعدات أممية    الإحصائيات تعترف للركراكي بالتميز    اتباتو يتتبع "تمرحل الفيلم الأمازيغي"        روسيا ‬وجمهورية ‬الوهم ‬‮:‬علامة ‬تشوير جيوسياسي‮ ‬للقارة‮!‬    بوصوف: المخطوطات "رأسمال سيادي"    المهدي النائر.. ريشة تحيي الجدران وتحول الأسطح إلى لوحات تنبض بالجمال    عبد الكبير الركاكنة يتوج بجائزة النجم المغربي 2025    السينما والأدب: الخصوصية.. والحوار الممكن    كرة القدم نص مفتوح على احتمالات متعددة    نشرة إنذارية.. زخات رعدية محليا قوية وتساقطات ثلجية وهبات رياح أحيانا قوية يومي الأحد والاثنين        مدفوعة ب"كان 2025″ وانتعاش السوقين المحلية والأوروبية.. أكادير تقترب من استقبال 1.5 مليون سائح مع نهاية السنة    "جمعية هيئات المحامين بالمغرب" ترفض مشروع القانون المتعلق بتنظيم المهنة وتدعو إلى جمع عام استثنائي    الصين تفرض حد أقصى إلزامي لاستهلاك الطاقة للسيارات الكهربائية    الخدمة العسكرية .. الفوج ال40 يؤدي القسم بالمركز الثاني لتكوين المجندين بتادلة    علماء روس يبتكرون مادة مسامية لتسريع شفاء العظام    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    علماء يبتكرون جهازا يكشف السرطان بدقة عالية    روسيا تبدأ أولى التجارب السريرية للقاح واعد ضد السرطان    الحق في المعلومة حق في القدسية!    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التصوف في خضم الربيع العربي المغرب نموذجا
نشر في الرهان يوم 02 - 01 - 2012


الخمالي بدر الدين
لا يختلف اثنان على أن التصوف عنصر أصيل في الشخصية المغربية ، طبعها على مر التاريخ ولازال حتى أن عددا من العادات والممارسات الاجتماعية المغربية تجد لها جذوراً صوفية بحتة ، بحكم أن الذوق المغربي العام ميال نحو الروحانية في ممارسته الدينية و الاعتقاد الراسخ لكثير من المغاربة في المظاهر الغيبية المرتبطة بالتصوف ( الكرامة البركة ) مما أهل بلاد المغرب الأقصى لأن تصير أرض الأولياء و الشرفاء خصوصا و أن آل البيت ( الأدارسة و العلويين ) وجدوا فيه مستقرهم ومقامهم الآمن بعد الاضطهاد الذي لاقوه بالمشرق من طرف الأمويين و العباسيين.
وبالتالي لم يكن مستغربا انتشار التصوف و الطرقية في المغرب خاصة إذا علمنا بأن كبار الصوفية كانوا ينتمون إلى آل البيت ، كالقطب مولاي عبد السلام بن مشيش الذي تعتبر الطريقة التي أسسها تلميذه أبو الحسن الشاذلي الطريقة الأم لأغلب الطرق والزوايا المنتشرة اليوم بالعالم الإسلامي، كما لم يكن مستغربا أن يلعب التصوف ذلك الدور التاريخي الكبير الذي لعبه في تشكيل البنى الاجتماعية و السياسية المغربية منذ تأسيس الدولة الادريسية ، وضبط نسق الاعتقاد الديني و المذهبي وتوجهاته الأساسية عبر منظومة الزاوية الطريقة ( الإطار التنظيمي للتصوف الجماعي ) و الرباط ( الإطار التنظيمي للتصوف الجهادي ) و عبر الايديولوجيا الصلحاوية ( الأولياء و الصالحين و المجاذيب ) التي وجدت لها أنصارا و امتدادا داخل النسيج القبلي الامازيغي فأنتجت بالموازاة مع الشرفاوية ( الأدارسة و العلويين ) ، النسق الثقافي للسلطة والعناصر الأساسية لنظام الحكم في المغرب عبر اثنتا عشر قرنا لم تكن فيه الدولة سوى التعبير السياسي عنها في مستوياتها الأفقية.
و رغم ذلك فقد عرفت علاقة الزاوية الطريقة بالسلطة السياسية مستويات مختلفة من التفاعل تراوحت ما بين الصراع و القرب، تبعا لقوة الزاوية الطريقة و مواقفها من سياسة الحكم و هوية السلطة السياسية و اختيارات الدولة المذهبية واحتياجاتها لضبط المجالات الترابية و القبلية وضمان الولاء السياسي وتبعا كذلك للظرفية التاريخية التي كان يمر منها المغرب في العصور الوسيطة
ولازالت هذه العلاقة التقليدية بين الزاوية و الدولة قائمة إلى اليوم في مغرب المؤسسات والحق و القانون ، إلا أن صبغتها الأساسية هي التبعية شبه المطلقة لأغلب الطرق و الزوايا لسياسة الدولة ومخططاتها الرامية بالأساس إلى التحكم في المجال الديني وضبط مستوياته في إطار خطة هيكلته و إعادة رسم وظائفه ، من خلال الهبات و العطايا والذبائح التي تمنح للشيوخ و الشرفاء الساهرين على تسيير الزوايا و الطرق و الأضرحة ، و من خلال تنظيم المواسم الصوفية و الملتقيات الوطنية و الدولية للتعريف بالتصوف و الموسيقى و السماع الصوفي ، مع العلم أنه لا توجد أي نصوص قانونية تؤطر تدخل الدولة في المجال الصوفي وتعيين شيوخ الطرق سوى مؤسسة إمارة المؤمنين التي كرسها الفصل 41 من دستور 1 يوليوز 2011 باعتبارها الجهة الشرعية العليا القائمة على تدبير الحقل الديني.
بعد أن شهد المشهد الديني المغربي في العقود الأخيرة نزوعا مذهبية نحو تيارات أصولية تعتمد في استقطابها الشعبي على خطاب متشدد تجاه نظام الحكم باعتبار مسؤوليته في تراجع القيم الإسلامية وتطبيقها في المجتمع كجماعة العدل و الإحسان أو كتيار السلفية الجهادية الذي يعتمد على العنف و الإرهاب من أجل تمرير مواقفه من الشأن العام ورفضه للدولة الحديثة التي تطبق القانون الوضعي بدل الشريعة الإسلامية ، وهذا التوجه الرسمي لدعم التصوف لم يقتصر فقط على المقاربة الأمنية فيما يسمى بصيانة الأمن الروحي للمغاربة ضد المذاهب الدخيلة و المتشددة خاصة بعد تولي السيد أحمد التوفيق لوزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية ، أو ما يصطلح عليه بالأمن السياسي فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب و التطرف الديني ، فامتد ليشمل مجالات أوسع منها السياحي والثقافي من أجل تسويق صورة المغرب المنفتح و الحداثي في العلاقة مع العالم الخارجي من خلال مهرجانات الموسيقى الصوفية و الروحية و ملتقيات سيدي شيكر
كما أن الدولة تستدعي التصوف كلما عنت الحاجة إليه سواء محليا أو على المستوى الدولي ، من أجل ضبط التوازنات الاجتماعية و السياسية و خدمة الأغراض المختلفة للشأن السياسي و العلاقات الخارجية ، وأبرز مثال على ذلك هو التعامل التفضيلي الذي توليه الدولة للزاويتين التجانية و البودتشيشيه لما لهما من ثقل اجتماعي وتأثير شعبي بحكم كثرة أتباعهما .
لذلك سنحاول في هذه القراءة البسيطة رصد أهم سمات التوظيف السياسي للتصوف من قبل الدولة المغربية على ضوء تداعيات الربيع العربي و الحراك الاجتماعي الشعبي ، و أثر ذلك على التصوف كمنهج تربوي و أخلاقي في بناءه المعرفي وامتداده الاجتماعي و في علاقته بالآخر من خلال محورين أساسين : 1 التوظيف الدبلوماسي للتصوف ؛ 2 التوظيف الاستقطابي والتعبوي للتصوف ثم في محور أخير نتائج هذا التوظيف السياسي على التصوف 3
1 التوظيف الدبلوماسي للتصوف
فبالنسبة للطريقة التجانية التي تتوفر على كم هائل من المريدين و الأتباع في إفريقيا ، حافظت الدولة المغربية على منهج واحد في التعامل معها منذ مقدم شيخها سيدي أحمد التجاني إلى فاس نهاية القرن الثامن عشر ، حيث لاقت العطف والدعم الكامل من المخزن السليماني الذي اعتمد على توجهها السني من أجل محاربة البدع و الطقوسية التي كانت منتشرة بشكل كبير في المجتمع المغربي ، فوجدت المجال الرحب لاستقطاب الأتباع و تأسيس الزوايا ليس في المغرب فقط ، بل امتد إشعاعها الصوفي إلى تخوم السودان الغربي وما وراء نهر السنغال وهو ما جعل كلمة شيوخها اليوم مسموعة حتى في أعلى هرم السلطة في عدد من دول الساحل الإفريقي ، وهذا ما دفع الدولة المغربية إلى الاستمرار في دعم الطريقة عن طريق الهبات و العطايا و تنظيم ملتقيات دولية لأتباعها بفاس من أجل توطيد علاقاتها الدولية بتلك الدول و ضمان دعمها للسياسة الخارجية المغربية ، التي لاقت صعوبات عدة على المستوى الإفريقي خصوصا في مسألة الوحدة الترابية ومشكل الصحراء بسبب دعم الجزائر و ليبيا في عهد القذافي للتوجهات الانفصالية للبوليساريوووقوفهما وراء اعتراف الاتحاد الإفريقي بجمهورية الصحراء الوهمية انطلاقا من مرجعيتهما الاشتراكية العالم ثالثية و أموال النفط والغاز التي كانت تصرفانها بسخاء على بعض الدول الإفريقية من أجل نيل الزعامة في القارة السوداء
وقد أدى تفعيل الدور الدبلوماسي للتصوف من أجل تحقيق الأهداف الإستراتيجية للسياسة الخارجية المغربية على الصعيد الإفريقي إلى لفت انتباه كل من الجزائر و ليبيا اللتين عمدتا بدورهما في السنوات الأخيرة إلى محاولة اللعب بنفس الورقة لتقليص حجم الانجازات المغربية في هذا المجال ، فحاولت الدولة الجزائرية في البداية أن تستميل شيوخ الزاوية التجانية وتستقطبهم للعب الدور المعاكس للسياسة المغربية عبر عقد الملتقيات بعين ماضي مسقط رأس الشيخ التجاني لإضفاء نوع من الشرعنة للاستخدام السياسي للطريقة ، إلا أنها اصطدمت بالروابط المتجذرة بين الدولة المغربية و أتباع الطريقة التجانية التي عبر عنها شيخ الطريقة بنيجيريا في كلمته التي ألقاها خلال ملتقى فاس بأن أمير المؤمنين في المغرب هو أمير المؤمنين لجميع التجانيين في العالم بحكم البيعة التي في عنق الشيخ المؤسس سيدي احمد التجاني للسلاطين العلويين.
وعدم قدرتها على الاستقطاب الكبير لممثلي الطريقة عبر العالم عكس ما سجلته ملتقيات فاس ، كما أن غياب الوفد المغربي عن الحضور بعين ماضي شكل ضربة قاسية للجزائر التي كانت تراهن على أن يكون مقر الخلافة العام للطريقة بأرضها بدل المغرب حيث ضريح الشيخ سيدي أحمد التجاني.
ويبدو من الواضح أن الربيع العربي و الحراك الاجتماعي غير كثيرا من معادلات التوازن الاستراتيجي الإقليمية في المنطقة المغاربية بعد سقوط نظام بن علي و القذافي ، إلا أنه لم يستطع أن يؤثر على ميكنزمات التصريف السياسي للتصوف في معجم الدبلوماسية المغربية و تأويلات علاقاتها الخارجية التاريخية مع بلدان الساحل الإفريقي أو في تغيير ملامح جغرافيا التصوف ، حيث لا زالت السياسة المغربية الرسمية تضبط المحددات الأساسية لمجال الاشتغال السياسي الصوفي و توجه خطابه بما يخدم الأمن القومي و تحدد طبيعة التعاطي مع الأطراف الفاعلة في مجاله داخليا وخارجيا ، عكس الأنظمة التي تهاوت بفعل الربيع الثوري
الحالة الليبية
لقد كانت الحالة الليبية هي الأكثر إثارة للاهتمام خاصة بعد أن توج القذافي نفسه ملك ملوك إفريقيا و زعيم زعماء العالم الإسلامي و قيامه بتوجيه بوصلة الفاتح الوحدوية نحو القارة الإفريقية حيث بدأ هو الأخر يبدي اهتماما متزايدا بالتصوف والطرق الصوفية بعد أن كان يكن لها العداء الشديد لانتماء ملك ليبيا السابق إلى الطريقة السنوسية الذائعة الصيت ، كان آخرها المؤتمر العالمي للتصوف بليبيا الذي عقد من 8 إلى 15 فبراير 2011 أي قبل يومين من اندلاع الثورة الليبية ، حيث تدخلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من أجل منع الوفد المغربي من حضوره وهو ما فسر في حينه بأنها ردة فعل على عدم نجاح ملتقى سيدي شيكر ، إلا أن الأمر في نظرنا لم يكن سوى إجراء سياسيا طبيعيا هدف إلى عدم إضفاء الشرعية على التوجه الذي سلكه القذافي في جعل التصوف مدخلا جديداً لعلاقاته مع إفريقيا وهو ما يعتبر منافسة للمغرب على عنصر تاريخي يصعب التفريط فيه على مستوى الصيغة الإفريقية لخطابه الدبلوماسي خاصة مع دعم القذافي لجبهة البوليساريو الانفصالية أو ربما كان قراءة رصينة للوضع المتوتر الذي كانت عليه ليبيا واستشرافا لما كانت ستؤول إليه الأحداث لاحقا ، فداخليا جاء رهان القذافي على التصوف من أجل مجابهة التيار السلفي متأخراً جدا مقارنة مع جيرانه المغاربيين حيث لم تفلح جهوده في إحياء الزوايا و المواسم الصوفية وزيارة الأضرحة إلى جانب القمع الدموي الرهيب ، في كبح جماح التيار السلفي و انتشاره ، وهو ما ظهر جليا إبان الثورة الليبية حيث انضم اغلب السلفيين إلى الكتائب الثورية وشكلوا نواتها الأساسية ، ولم تنجح سياسة الولاءات القبلية في ليبيا واستجلاب المرتزقة الأفارقة و التهديدات باستخدام العنف الشامل في وقف انهيار نظام القذافي خاصة بعد تحالف الغرب مع الثوار من أجل إسقاطه، وقد كان المغرب من أوائل الدول العربية التي شجعت على تدويل القضية الليبية و دعم المجلس الانتقالي الليبي.
2 التوظيف الاستقطابي والتعبوي للتصوف :
الحالة المغربية:
كان من الطبيعي جدا في سياق الأحداث المتسارعة في المشهد العربي أن يتفاعل الشباب المغربي مع كل الحراك الاجتماعي والانتفاضات العربية ضد الأنظمة الاستبدادية و أن تعلو الأصوات المطالبة بالتغيير و الإصلاح و محاربة الفساد و القضاء على الاستبداد ، حيث تشكلت وفي وقت وجيز عدد من المجموعات على مستوى المواقع الاجتماعية الافتراضية تدعو إلى النزول إلى الشارع من أجل التعبير عن مطالب الإصلاح وحددت لذلك يوم 20 فبراير كموعد للاحتجاج ، و انضم سريعا إلى الحركة عدد من القوى المعارضة كانت جماعة العدل و الإحسان الإسلامية من أبرزها.
و لم تنتظر الدولة طويلا للرد على مطالب الحركة ، فقد أعلن الملك محمد السادس في خطاب التاسع من مارس عن خطة شاملة للإصلاح السياسي و الدستوري في خطوة اعتبرها جل المراقبين السياسيين على أنها الوسيلة الناجعة لوقف احتجاجات حركة 20 فبراير ، إلا أن ذلك لم يلاقي تجاوبا كبيراً من القوى المشاركة في الحركة التي رفعت من سقف مطالبها السياسية من أجل اعتماد ملكية برلمانية لا تخول أي اختصاصات تنفيذية للملك ، وعاد الفصل 19 من الدستور السابق الذي يمنح الملك صفة أمير المؤمنين بالإضافة إلى اعتبار الدين الإسلامي دين الدولة الرسمي و دسترة مبدأ حرية المعتقد إلى واجهة النقاش العمومي خاصة بعد تكوين اللجنة المشرفة على تعديل الدستور التي بدأت تتلقى تباعا مشاريع و مقترحات التعديلات الدستورية من الأحزاب و الهيئات السياسية و الفاعلين الجمعويين ومكونات المجتمع المدني، في حين غاب المكون الصوفي وشيوخ الطرق الصوفية عن الإدلاء بمقترحاتهم الدستورية باستثناء الأستاذ علي الريسوني في فيديو على الشبكة العنكبوتية حيث طالب بالاعتراف بالرافد الأندلسي كأحد مكونات الهوية المغربية و دسترته .
إلا أنه مع اقتراب تاريخ التصويت على الدستور وتعالي دعوات المقاطعة من حركة 20 فبراير ، ستظهر الطرق الصوفية مرة أخرى على مشهد الأحداث خاصة الزاوية البودشيشية التي أصدرت مشيختها بيانا تعلن فيها دعمها لمشروع الدستور و مطالبتها بالتصويت الايجابي عليه كما دعت أتباعها للنزول إلى الشارع من أجل الدعوة للتصويت بنعم في استفتاء فاتح يوليوز 2011 ، الأمر الذي نال تعاطيا إعلاميا كبيرا بحكم الأهمية التي تمتلكها الطريقة البودشيشية وموقعها في المشهد الديني المغربي خاصة و أن وزير الأوقاف أحمد التوفيق لا يخفي انتماءه لها حيث اعتبر موقفها ترجمة لتوجيهات الإدارة التي لازالت تعتمد على البنى التقليدية ( الزوايا و الطرق و...) في الترويج لخطابها السياسي في تنافر صارخ مع ما يسمى بالمشروع الديمقراطي المؤسساتي ، ثم تتالت بعد ذلك بيانات الطرق الصوفية الأخرى و التي صبت كلها في نفس سياق التأييد و الدعم لمشروع الدستور دون إبداء أي رأي أو ملاحظة أو اقتراح.
ولعل ما يؤكده الربيع العربي في سياق رصدنا لدور المكون الصوفي في صناعة الأحداث السياسية ، هو أن تدخل الطرق الصوفية لم يأتي سوى في ذيل الأحداث ليخلق بشكل سلبي بعض المشاكسة الإعلامية الموجهة كما في الحالتين المصرية و المغربية رغم الاختلاف الهيكلي الشاسع بين النموذجين ، حيث يمتلك الصوفية بمصر منذ وقت طويل مجلسا أعلى للطرق يمثل جميع المنتمين إلى الحقل الصوفي وينظم علاقتهم بالدولة بل و عمد بعض الصوفية مؤخراً بعد نجاح الثورة المصرية إلى تأسيس عدد من الأحزاب و الهيئات السياسية التي استطاعت بالفعل خوض المعركة الانتخابية في مواجهة الأحزاب ذات التوجه السلفي التي رفعت شعارات معادية للمواسم والتصوف الشعبي الطقوسي و تمثيلها في الحوار مع المجلس العسكري الحاكم ، وهو ما يفتقده المكون الصوفي المغربي الذي لا يمتلك إطارا أو مؤسسات حديثة تمثله أمام الدولة حيث بقي إلى الآن حبيس الاستخدام السياسي الرسمي في إطار الدور الذي أريد للتصوف أن يلعبه على مستوى الاستقطاب في مواجهة الحركات الإسلامية المعارضة خاصة بعد تولى أحمد التوفيق تدبير ملف إعادة هيكلة الحقل الديني ، كما هو الشأن بالنسبة للزاوية البودشيشية مع جماعة العدل و الإحسان التي خرج مرشدها العام عبد السلام ياسين من كنف شيخها ليمارس معارضة شديدة للسياسة المخزنية وهو ما يفسر بالملموس المنطلقات الموضوعية لمساندة مشيخة الطريقة لمشروع الدستور مادامت جماعة العدل و الإحسان توجد في الجانب المناقض الداعي إلى رفضه و مقاطعة الاستفتاء عليه.
و الحقيقة أن السياسة الرسمية المتبعة في توظيف التصوف لأغراض سياسية لاقت نقدا شديدا ليس فقط من قبل الحركات الإسلامية ذات التوجه السلفي و منابرها الإعلامية ، بل حتى من قبل بعض المتصوفة أنفسهم الذين وجدوا أنفسهم في ظل السياسة التوفيقية الجديدة خارج السياق خصوصا بعد عودة ظاهرة تعيين شيوخ الزوايا بظهائر ملكية سامية ، حيث وجه الدكتور يوسف الكتاني شيخ الطريقة الكتانية سابقا نقدا شديدا لسياسة التوفيق في مقدمة كتابه الطريقة الكتانية تراث الشيخ وتلاميذه الجزء الثالث بقوله ( من المعلوم أن الزوايا مؤسسات دينية اجتماعية فكرية تعتبر جزءاً أساسيا من المجتمع المدني وظيفتها تأطير المواطنين دينيا وتوجيههم روحيا وقيادتهم سلوكيا وتربويا فهي مرشدة الأمة وموجهة المجتمع أفرادا وجماعات وخاصة في المجال الأخلاقي و الجهادي دفاعا عن كيان الأمة و استقلالها ووحدتها ....فهي كالأحزاب لا يمكن التدخل فيها وتعيين شيوخها أو رسم سياستها كي تقوم بتأطير المجتمع وتربيته و تهذيبه ....ناهيك و أن تدخل الدولة أو الحكومة فيها يعرقل عملها ويجعلها تابعة لها متوجسة منها وخاصة إذا كانت ترفدها بالأموال و الهدايا كما بدأ يظهر في التعامل معها اليوم دون مراعاة أو تفكير أو تقدير للعواقب ... إذ كلما تدخلت الدولة في الأحزاب و الطرق الصوفية فقدت هذه وتلك ميزتها ووظيفتها ومصداقيتها التي تتنافى مع مهمتها الأساسية وهو التوجيه الديني و الروحي للأمة بكل استقلالية وتجرد ) وفي نقد لاذع لسياسة وزارة الأوقاف في عهد أحمد التوفيق يقول ( وأخيرا بالنسبة لتدخل الأوقاف السافر في أمر الزوايا و التصوف والذي تبث خطله وفساده ويكاد يجرف التيار الصوفي ويفسده كما هو شأن الوزارة في كل أمر تدخلت فيه مما ينذر بالشرور وبالزوابع سواء في أوساط الزوايا ومشيخاتها أو في المجالس العلمية و أعضائها ....)
3 نتائج الاستغلال السياسي للتصوف
لقد كشف الربيع العربي عمق الانتقادات الموجهة لعلاقة الدولة الملتبسة بحقل التصوف والطرق الصوفية و اختلال بنية توزيع الأدوار بينهما في مجال الممارسة السياسية حيث أصبحت الطرق منفذا طيعا للتعليمات بدل أن تكون فاعلا مستقلا في محيطها الاجتماعي ، خاصة وأن الشفافية و المسؤولية وتخليق الحياة العامة تمثل شعار مرحلة الإصلاح الدستوري بالموازاة مع غليان شعبي يدعو لإسقاط الفساد و الاستبداد .
فلم يكن التصوف كمنهج أخلاقي ومعرفي سوى الخاسر الأكبر في معادلة استخدامه السياسوي من قبل بعض المنتسبين إليه النافذين أو من قبل الدولة في مقابل التصوف النفعي الارتزاقي إن صح التعبير ، خاصة بعد أن أصبحت العلاقة بين الشيخ و المريد في تصور الكثيرين هي الخطاطة المجسدة للنماذج الديكتاتورية والمنتجة في آن للتسلطية المتعددة الأوجه اجتماعيا وسياسيا ليس في المغرب فقط بل في العالم العربي كما جسدها عبد الله حمودي الذي أراد أن يجعل من جدلية الشيخ والمريد الديالكتيك الجديد المفسر للتاريخ التسلطي العربي ، بناء على مشاهدات وتفسيرات لا تعدو أن تكون سطحية لبعض العادات المعقدة في المجتمع المغربي و الانحرافات السلوكية المرصودة في ممارسات بعض من يسمون زورا بشيوخ و المستقاة أساسا من دراسات المستشرقين ك ويستيرمارك و الاستخدام التعسفي لبعض المصطلحات الصوفية كاللدنية للتعبير الاسقاطي لنظرية الحق الإلهي القروسطوية وتعميمها المغلف بأدوات المنهج الانتربولوجي على مفاهيم السلطة في الحالة العربية ، فاللدنية كما يفهمها عبد الله حمودي لا تعدو أن تكون تشويها لمفهوم الكشف الصوفي حين ربطها بأنساق أخرى كالشرف الذي هو بالأساس عنصر قبلي ( بنو هاشم ) و بالظواهر الخارقة وتمثلاتها في الفلكلور الشعبي أو في ربطها بالحاكم في ممارسته التسلطية للحكم و هي أمور تخالف كليا الاصطلاح الصوفي السليم لوظيفة الشيخ التربوية المحكومة قطعا بنصوص الشريعة و بالمريد في طلبه المعرفي المنبني على الإرادة الحرة السليمة لا على الخضوع و الإذلال و الخنوع كما تصور حمودي و غيره في تحليله المستند على الانحراف السلوكي.
إن الاستغلال الإيديولوجي والسياسي للتصوف أصبح اليوم يطرح أكثر من علامة استفهام بشأن مستقبله كمنهج تربوي ، بل و أفضى إلى تشويه التصوف و تاريخه المعرفي و بناه التنظيمية في شكله الجماعي حيث لم يعد من المقبول أبدا هذا العبث سواء أكان سياسيا أم أكاديميا خصوصا مع ظهور عدد من التيارات التغريبية المتخفية في عباءة بعض الطرق و التي تفصله عن أصوله القرآنية النبوية السلفية أو بعض الأطروحات و الدراسات التي توظفه في حقل الدلالات كنموذج للروحانية المنفلتة و رمزاً للتنميط الشعبي أو التسلطية ، فالتصوف مدرسة تربوية أخلاقية معرفية إسلامية ربانية محضة ، والمكون الصوفي عنصر أصيل في الثقافة الإسلامية بعيدا عن الانحراف العقائدي و الطقوسي و التلبيس الذي مارسته بعض الأطراف عبر التاريخ ولازالت تمارسه إلى اليوم تحت مسميات متعددة خدمة لأغراض لا تمت للتربية الروحية و القيم الأخلاقية الإسلامية بصلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.