1. الرئيسية 2. المغرب الكبير السلطات الجزائرية تواصل احتجاز جثامين شباب مغاربة لفظهم البحر أثناء محاولة "الهجرة السرية".. وعائلاتهم تراسل السلطات الجزائرية دون جدوى الصحيفة - خولة اجعيفري السبت 26 أبريل 2025 - 12:00 على الضفة الأخرى للحدود الشرقية، حيث تغدو الجغرافيا خنجرا في خاصرة الوطن، ترقد جثامين سبعة شباب مغاربة لفظهم البحر ذات حُلم مكسور، وعانقت أجسادهم السواحل الجزائرية، فيما أرواحهم ما تزال معلقة بين سماء المغرب وحدود الانتظار الموجع، محرومة من وداع أخير ومن مأوى تحت تراب الوطن. هناك، تحتجز السلطات الجزائرية جثث عدد من المواطنين مغاربة من الشباب المرشحين للهجرة غير القانونية انطلاقا من السواحل الجزائرية أو الذين غرقوا في عرض البحر وألقيت جثتهم في سواحل الجارة الشرقية، في برادات المستشفيات والمراكز الطبية، بينما تتخبط عائلاتهم في متاهة الفقد والمساطر العقيمة، تتجرع مرارة الأيام وهي تنتظر عبثا. في هذا السياق، كشفت الجمعية المغربية لمساعدة المهاجرين في وضعية صعبة أن السلطات الجزائرية تواصل احتجاز جثامين سبعة مواطنين مغاربة، ضمنهم شابتان تنحدران من الجهة الشرقية للمملكة، فهؤلاء الشباب لفظهم البحر ذات حلم مكسور، بين السواحل الجزائرية ومياه المتوسط، قبل أن تنقل جثامينهم إلى مستودعات الموتى، في انتظار إجراءات تسليم لا تأتي رغم كل الوعود واستخلاص كافة الترتيبات اإلإدارية. وفي تصريح ل "الصحيفة"، أفاد الحقوقي والمحاضر في شؤون الهجرة، محمد عمراني بالقول: "لا نطلب المستحيل. نحن نطالب بحق بسيط وإنساني: أن تعود الجثامين إلى تراب الوطن، إلى أحضان العائلات المكلومة. لقد أكملت الأسر جميع المساطر القانونية: التصريحات، التوكيلات، شهادات الوفاة، الملفات الطبية.. كل شيء جاهز. ومع ذلك، ما تزال الإجراءات متوقفة بلا مبرر إنساني أو قانوني." وأوضح المتحدث بأسى: "كل يوم يمر، يتضاعف ألم هذه العائلات، أن تفقد ابنك أو ابنتك في عرض البحر كارثة، لكن أن تعجز عن منحه مثواه الأخير في وطنه، فهذه مأساة مضاعفة لا يتحملها قلب." أما فاطمة، الأم المكلومة الستينية، فقد تحدّثت ل"الصحيفة" بصوت متقطع وعينين غارقتين بالدموع، عن وجع لا تداويه الأيام ولا تسكّنه الليالي، بعد أن خطف البحر ابنها العشريني، المنحدر من ضواحي وجدة، إلى عالم آخر لا رجوع منه، وقالت بكلمات تخنقها العبرة: "كان حلمه بسيطًا... لم يكن يطلب الكثير. كان يريد فقط فرصة تحفظ كرامته، وتمنحه أملا في وطن ضاق به. رحل فجأة، دون وداع، وكأن البحر ابتلعه في لحظة عتب من الحياة.. اليوم، كل ما أتمناه أن أضمه إلى صدري، ولو مرة أخيرة، قبل أن يدفن في أرضه قبل أن يطويه الغياب إلى الأبد." وفي لحظة مريرة من المكاشفة، أوضحت فاطمة، خلال اتصال هاتفي مع الجريدة، أنها استوفت كل الإجراءات القانونية لاسترجاع جثمان فلذة كبدها، وأنها سلمت كل الوثائق المطلوبة منذ ثلاثة أشهر، من تصريحات رسمية وشهادات وفاة وأذونات نقل الجثمان، انتظارا للضوء الأخضر الذي لم يأتِ. وأوردت: "لم أدّخر جهدا، طرقنا كل الأبواب.. أنهينا كل ما طلب منا من أوراق ومحاضر وشهادات.. الجمعية مشكورة تواكبنا وتنسق معنا لحظة بلحظة، وتساندنا كي لا نبقى وحدنا في هذا الطريق الموحش. لكن الزمن يمر، وكل يوم إضافي بعيد عن جثمان ابني يزيد وجعي وجعا..." أنهت فاطمة كلماتها بانكسار عميق قائلة: "لا أطلب شيئا مستحيلا.. فقط أن يعود ابني إلى وطنه، أن يحتضنه تراب بلاده، أن تكون له جنازة ودمعة حقيقية فوق أرضه، لا أن يبقى عالقا هناك، غريبا حتى بعد الموت." أما محمد.ر، والد أحد الشباب العالقين في برّادات الموت بالجارة الشرقية، فقد تحدث إلى "الصحيفة" بصوت متهدج حمل نبرة يأس عميق، قائلا: "كل شيء جاهز.. أذونات استرجاع الجثمان، الشهادات الطبية، التعهدات القانونية، الملفات الكاملة التي استوفيناها قطعة قطعة وسط دوامات من الألم.. طرقنا كل الأبواب، المغربية والجزائرية على السواء.. صبرنا، انتظرنا، تبعنا كل المساطر كما طُلب منا.. لكن لا أحد يصغي لصوتنا ولا أحد يمد لنا يد الرحمة." يتوقف محمد.ر لثوانٍ وكأن الكلمات تخونه من شدة الغصّة، ثم يواصل بحرقة: "هل أصبح وداع ابني يتطلب معجزة؟ هل صارت الدموع والأوراق والمحاضر والعريضة ترفًا لا يسمع له أحد؟ نحن لا نطلب أكثر من حق بسيط هو أن ندفن أبناءنا بكرامة وسط أهلهم وأرضهم أن نضع فوق رؤوسهم شاهدا يقول إنهم مروا من هنا، وإن لهم وطنا يبكيهم ويذكرهم." ويتحدث الوالد المفجوع عن واقع أكثر قسوة مما يبدو من بعيد، قائلاً: "مات ابني غريبا، في أرض لم يكن يقصدها، غريبا فوق تراب ليس ترابه وإن كنا إخوة والآن، حتى موته تحول إلى معاناة مستمرة لا دفن، لا عزاء، لا قبر نلوذ به كلما ضاقت علينا الحياة بفقده نعيش بين مقابر الأمل الكاذب، بين صمت مريب وخذلان يجلدنا كل صباح ومساء." واختتم محمد.ر تصريحه بنداء قائلا: "نحن آباء وأمهات نحترق في صمت.. ننتظر أن تتحرك ضمائر المسؤولين هنا وهناك بالأكثر، أن يعلو صوت الإنسانية فوق كل الحسابات.. أبناءنا ليسوا أوراقا إدارية عالقة في مكاتب مغلقة، هم أحلام وذكريات وأرواح تنتظر أن تستقر في أرضها وتنام أخيرا بسلام." ولا تتوقف مأساة الهجرة السرية عند هؤلاء السبعة فقط، فبحسب معطيات الجمعية المغربية لمساعدة المهاجرين في وضعية صعبة، يتجاوز عدد ملفات المغاربة المفقودين والمحتجزين والموتى الذين لم تستعد عائلاتهم جثامينهم عتبة 500 ملف، توزعت بين سجون الجزائر، مراكز الاحتجاز، ومستودعات الأموات. وأمام هذا الوضع المأساوي، أطلقت الجمعية مبادرة مكثفة لعقد لقاءات مع مؤسسات وطنية ودولية، من أجل الدفع نحو حل عاجل لهذا الملف الإنساني. وفي هذا الإطار، كشف مصدر من الجمعية ل "الصحيفة": "نشتغل حاليا مع منظمات حقوقية دولية وأممية، ونراسل الهيئات الأممية المعنية بحقوق الإنسان، لتسليط الضوء على هذه الوضعية غير المقبولة.. نؤمن أن الضغط الدولي قد يكون مفتاحا لتحريك هذا الملف الذي ظل راكدًا لفترة طويلة." ويضيف: "ملف الجثامين ليس قضية سياسية، بل إنسانية بامتياز.. هؤلاء شباب كانوا ضحية الفقر والحرمان، وينبغي أن يعودوا إلى وطنهم ليُكرموا كما يليق بهم". في تصريح ل "الصحيفة"، قال سعيد السالمي، الفاعل الحقوقي وعضو الائتلاف المغربي لحقوق الإنسان، إن قضية احتجاز جثامين شباب مغاربة بالجزائر تمثل "أحد أبشع أوجه الانتهاك الصامت للحقوق الأساسية للإنسان، حيث تتحول الحدود الجغرافية إلى حدود للكرامة والمأساة معًا"، مضيفا: "حين يُحرم إنسان من حقه في الدفن بكرامة، فهذا ليس فقط اعتداءً على الضحية، بل هو اعتداء على القيم الإنسانية الكونية، فاحتجاز الجثث وعرقلة تسليمها لعائلاتها يُعد خرقا فاضحًا لاتفاقيات جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين في النزاعات المسلحة، رغم أن الأمر هنا ليس نزاعًا مسلحًا، بل موقف إنساني صرف يفترض أن تسمو فيه الاعتبارات الأخلاقية فوق كل حساب سياسي أو إداري." وأوضح السالمي أن الكارثة تتجاوز الأبعاد الفردية لتُفضي إلى جرح جمعي في الذاكرة المغربية، وقال: "نحن أمام ملف لا يتعلق فقط بسبعة شباب لفظهم البحر، بل أمام مئات العائلات المغربية التي تعيش بين ألم الفقد وغموض المصير، ذلك أن أكثر من 500 ملف لمغاربة مفقودين أو محتجزين أو متوفين في الجزائر دون أن تتم تسوية أوضاعهم القانونية، وهذه أرقام كارثية تعكس غياب التنسيق، وانعدام الرؤية الإنسانية في معالجة قضايا الهجرة واللجوء." وانتقد الفاعل الحقوقي ما أسماه ب"الصمت المزدوج"، قائلا: "هناك صمت مؤلم من الطرف الجزائري، حيث تُعرقل الإجراءات وتُؤجل المساطر دون أي مبرر قانوني أو إنساني مقبول، وصمت آخر يجب أن نعترف به هنا، يتمثل في ضعف التحركات الحقوقية والمؤسساتية لفرض حل لهذا الملف بالوسائل القانونية الدولية." وشدد السالمي على أن تسوية هذه الملفات لا تحتمل مزيدًا من التسويف، موردا: "الزمن هنا ليس بريئا كل يوم تأخير هو معاناة إضافية لأم تنتظر أن تحتضن عظام ابنها، وأب ينتظر أن يصلي صلاة الجنازة على فلذة كبده، نحن لا نتحدث عن ملف إداري عادي، بل عن حق مقدس في الوداع والدفن وإكرام الموتى، كما تنص عليه كل الشرائع والقوانين السماوية والوضعية." ودعا السالمي إلى تحرك وطني ودولي عاجل، عبر تفعيل الآليات الأممية الخاصة بحالات الاحتجاز غير القانوني والتعسفي، وقال: "يجب تقديم شكاوى عاجلة إلى مجلس حقوق الإنسان بجنيف، وإشعار اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، هذا الملف يجب أن ينتقل من خانة المناشدات إلى خانة الإجراءات الرسمية والقانونية الدولية، لأن احترام كرامة الموتى مسؤولية جماعية لا يجب أن تخضع لأي حسابات سياسية أو دبلوماسية." وختم تصريحه بتحذير صريح: "إذا استمر هذا الصمت، وإذا استمر احتجاز جثث المغاربة دون مبرر، فإننا سنكون أمام خطر تدويل القضية، بما يحمله ذلك من تداعيات قانونية وأخلاقية على صورة الجزائر أمام المجتمع الدولي نريد أن تعود هذه الأرواح إلى ترابها، أن يُغلق هذا الجرح المفتوح بكرامة، لا أن يبقى شاهدا صامتا على عصر ماتت فيه إنسانية البشر عند الحدود." ورغم مرارة الانتظار الذي تخوضه العائلات المغربية منذ شهور، تشير الوقائع إلى أن عمليات تسليم الجثامين بين المغرب والجزائر ظلت محدودة ونادرة، ففي سابقة قليلة، سلمت الجزائر، في دجنبر 2024، جثمان لاعب كرة القدم المغربي عبد اللطيف أخريف، بعد غرقه قبالة سواحل وهران، عقب مسار معقد من الإجراءات والفحوصات التقنية استمر أكثر من ثلاثة أشه، وهي العملية التي أثارت حينها آمالًا حذرة لدى عائلات مغربية أخرى، إلا أن الجمود سرعان ما عاد ليخيم على الملفات العالقة، وسط استمرار احتجاز جثامين العديد من المهاجرين المغاربة دون بوادر حل قريب. في المقابل، سلمت السلطات المغربية في مارس 2025، جثمان الشاب الجزائري إسحاق جعيجع، الذي توفي أثناء محاولته السباحة إلى مدينة سبتة، في عملية تمت بسلاسة وفي آجال زمنية قصيرة، مما عرّى المفارقة الحادة في تعاطي البلدين مع مثل هذه القضايا الإنسانية. ويأتي هذا التعثر في تسوية ملفات الجثامين ليعكس جزئيا طبيعة العلاقات المتوترة والمأزومة بين الرباطوالجزائر، حيث ظلت الأزمات السياسية والدبلوماسية بين البلدين تلقي بظلالها الثقيلة على أبسط الملفات ذات الطابع الإنساني، بما فيها حقوق المهاجرين والمفقودين وضحايا الهجرة غير النظامية. وفي ظل غياب قنوات حوار مباشر بين العاصمتين، تتراكم القضايا العالقة وتزداد مأساة العائلات المغربية التي تجد نفسها عالقة بين جدران الصمت السياسي والتجاهل الإداري، فيما تتعالى الأصوات الحقوقية مطالبة بتحييد هذا الملف الإنساني عن التجاذبات السياسية، والدفع نحو تفعيل الآليات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان، لضمان تسليم الجثامين إلى ذويها في احترام تام للكرامة الإنسانية وللقوانين الدولية ذات الصلة. وبين برادات الاحتجاز على الضفة الأخرى، وبيوت مغربية ينهشها الانتظار، تظل مأساة هؤلاء الشباب وصمة ألم معلقة بين وطنين، فيما تتسع المسافة يومًا بعد يوم بين منطق السياسة ومنطق الإنسانية.