الجهد الذي أقدمت عليه مصالح ولاية أمن الدارالبيضاء ليلة الجمعة والسبت لمواجهة الجريمة على الأرض، يستحق كل التنويه، ففي ليلتين فقط، تم توقيف 691 شخصا مشتبها به من بينهم 554 شخصا كانوا متلبسين باقتراف جنايات وجنح مختلفة ابتداء من الاعتداءات الجسدية وترويج المخدرات وانتهاء بحيازة السلاح الأبيض والاعتداء على الممتلكات، كما نجحت حملة التمشيط الأمنية في توقيف 137 شخصا كانوا موضوع مذكرات بحث على الصعيد الوطني، من أجل جرائم مختلفة. والحقيقة أن هذا العدد الكبير من الأشخاص الذين تم توقيفهم لتورطهم المباشر أو اشتباههم في ارتكاب جرائم وجنح مختلفة، يؤشر على أن الجريمة في الدارالبيضاء أصبت تمثل معضلة حقيقية لم يعد بالإمكان التغطية عليها أو الاختفاء وراء الجهود الأمنية المشكورة لتبرير التهرب من المسؤولية عن إنتاج هذه الظاهرة أو تغذيتها أو التساهل في مواجهتها. لا نحتاج هنا أن نذكر، بأن مسؤولية الحفاظ على الأمن، وإن كانت منوطة بالأجهزة الأمنية، إلا أن المواجهة الحقيقية لأسباب الجريمة ومحدداتها النفسية والفكرية وعوامل تغذيتها الاقتصادية والاجتماعية هي مسؤولية السياسات العمومية ذات الأبعاد التربوية والثقافية والإعلامية والفنية والدينية، كما أنها وبنفس الدرجة مسؤولية المجتمع وقواه المدنية. المؤسف أن هناك اليوم من يتصور أن تكثيف النقد والرفع من درجة اللغة الاحتجاجية ضد مصالح الأمن واتهامها بالتقصير في محاربة الجريمة، يعفيه من مسؤوليته الذاتية في مواجهة الجريمة. رصيد المعارف العلمية المفسرة للسلوك الإجرامي، من كل التخصصات النفسية والسوسيولوجية، يؤكد بأن للجريمة محددات نفسية وفكرية واجتماعية عميقة في الوجدان والأفكار والتمثلات، وأن عوامل البيئة والمحيط، ليست سوى عناصر تغذية للسلوك الإجرامي، ومعظم النظريات التي حاولت نسبة الفقر لعوامل الفقر والتهميش والحرمان، لم تستطع أن تبرر مقولاتها من الناحية العلمية، إذ أثبتت الإحصائيات والبيانات الأمنية في كثير من البلدان أن الجريمة لا جغرافية مجالية أو اجتماعية لها ، فالجريمة تقع في الأحياء الراقية وفي الأحياء الشعبية، ويتورط فيها الفقراء والأغنياء على السواء. لا ينبغي اليوم أن نتهرب من الواقع، ولا من تطور نسبة الجريمة وتناميها والتحولات التي بدأت تعرفها والأشكال المخيفة التي بدأت تأخذها، فهذا هو الواقع الذي نعيشه، ولا ينفع معه إخفاء الظاهرة ولا التغطية عليها، بل ينبغي الانطلاق من الواقع كما هو، ومحاولة الوعي المشترك بدواعيه وأسبابه، وبناء منطق تشاركي في مواجهته. البعد التسييسي للجريمة خطير، لأنه ينتج أسلوبين ضارين لا يقدمان أي شيء في مواجهة الجريمة، الأسلوب الاحتجاجي ضد الأجهزة الأمنية والذي يصل إلى حد بعث صورة سيئة عن أمن المواطنين وسلامتهم، والأسلوب المقابل الذي يسعى إلى التغطية على ما هو واقع خشية من أن يتهم بالتقصير في أداء الواجب. الموضوعية والإنصاف، تقتضي وضع النقاط على الحروف: التربية والفكر والتوجيه الذي يصنع الجريمة لا يمكن أن يتحمل رجل الأمن لوحده مسؤولية مواجهته، حتى ولو تضاعف عدد رجال الأمن، وتم تأهيلهم بمختلف الأدوات المتطورة، فالجريمة التي يصنعها الفكر المنحرف، لا يمكن أن يواجهها إلا الفكر السليم، والجريمة التي تصنعها التربية المنحرفة في البيت والمدرسة وعبر وسائل الإعلام لا يمكن أن تكافحها إلا تربية سليمة، تنطلق من نفس هذه المحاضن وأوعية صناعة الذوق والاختيار والأفكار لدى الرأي العام. لقد تابعنا بكثير من الاهتمام احتجاج الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني على الأجهزة الأمنية بسبب تنامي الجريمة، وما يسمى بظاهرة "التشرميل"، بل حتى وسائل الإعلام لم تتردد في ممارسة هذا اللون من الاحتجاج، لكن، لا أحد طرح سؤال الذات في الموضوع وماذا صنعت لمواجهة الجريمة. المقاربة الأمنية في مواجهة الجريمة ضرورية، لكنها أشبه ما تكون بسيارة المطافئ التي تبقى على استمرار تطفئ النار المنتشرة في المحيط، دون أن تقوى على الوصول إلى المصدر الذي تنطلق منه، ويمكن في لحظة من اللحظات أن تستبد بها الحرائق، فلا تتمكن من إطفاء إلا جانب يسير منها، ما لم يتم التفطن إلى الأصل الذي منه يأتي الخطر. بكلمة، مواجهة الجريمة هي مسؤولية المجتمع أولا، ثم هي مسؤولية السياسات الحكومية التي لم تستطع إلى الآن أن تخفف من وطأة العوامل المغذية للجريمة، ولم تستثمر إمكاناتها الإعلامية والتواصلية والتعبيرات المجتمعية الدينية والفكرية والفنية في محاصرة الظاهرة، وهي بعد ذلك مسؤولية الأجهزة الأمنية في الحرص على توفير الأمن والسلامة للمواطنين.