أثار طلب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي بإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير ردود فعل متباينة. فمقابل مظاهر الاحتجاج في السودان والالتفاف حول القيادة حتى من قبل المعارضين؛ جاءت ردود الجهات الغربية مؤيدة لطلب الادعاء؛ تأييدا صريحا أو محتشما. وحدها الحكومة الأمريكية التي كانت دائما تدفع من طرف خفي في هذا الاتجاه طالبت الجميع - كعادتها- بالتزام الهدوء. بينما دعت فرنسا وبريطانيا الحكومة السودانية إلى التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. ولا ندري ما مدى التعاون الذي تطالب به الدولتان؛ هل هو تسليم الرئيس السوداني؟ أم رئاسة الاتحاد الأوروبي ببروكسيل، فقالت معقبة إنه: من المهم وضع حد لحالات الإفلات من العقاب. طلب الادعاء مساندته ودعمه من طرف الدول الغربية الكبرى يعيد إلى الواجهة مسألة الكيل بمكيالين لدى هؤلاء في القضايا الدولية. بحيث تصدر الأحكام، ويكون الحماس لتطبيقها حسب هوية المحكوم عليه والمحكوم له. وإلا فأين كانت هذه الجهات المطالبة اليوم بالحد من الإفلات من العقاب عندما لزمت الصمت، وهي تشاهد أكثر من أربعمائة ألف مدني أعزل من قبيلة الهوتو، التي تمثل الأغلبية في منطقة البحيرات الكبرى، وهي تباد من طرف التوتسي الذين لا يمثلون أكثر من خمس عشرة في المائة سلحتهم (إسرائيل) بأحدث الأسلحة ودربتهم أحسن تدريب؛ لماذا صمتت باريس وبريطانيا وأمريكا على هذه الجريمة الإنسانية النكراء؛ لمجرد أن المجرمين ينتمون في أغلبهم للهيود الفلاشا؛ الذين تسعى الدول الاستعمارية السابقة إلى مساعدتهم على إقامة دولة التوتسي الكبرى في البحيرات العظمى؛ والشعب المعرض للإبادة تقترب بعض فصائله من مسلمي شرق إفريقيا؟ وأين كانت هذه المطالبة اليوم بالحد من الإفلات من العقاب، والشعب الفلسطيني يتعرض يوميا للإبادة الجماعية، وللحصار الجماعي، ولأبشع اعتداءات إرهابية تمارسها دولة على شعب أعزل؟ أين كانت عندما كان مسلمو البوسنة يتعرضون للإبادة الجماعية، وأين كانوا وشعب الشيشان يباد يوميا؟ هذا مع أن هذه الحروب الإبادية جرت على مرأى ومسمع من العالم؛ وباعتراف من المراقبين الدوليين. فأين كانت المحكمة الجنائية الدولية؟ بينما ما جرى في دارفور لا دليل فيه على تورط الحكومة السودانية مباشرة إلا ادعاءات واشنطن وباريس ولندن؛ التي لا ترقى لدرجة الشهادة المقبولة لأنه لا يمكن أن يكون الشاهد خصما وحكما وشاهدا في نفس الوقت. لقد زارت دارفور عدة لجان أممية وإفريقية وعربية؛ لم تثبت إحداها بالدليل القاطع تورط الخرطوم في أي إبادة. يقول السفير سمير حسني مدير إدارة التعاون بالجامعة العربية الذي سبق أن ترأس بعثة الجامعة العربية إلى دارفور؛ إن البعثة قد رصدت بالفعل بعض الانتهاكات لحقوق الإنسان في إقليم دارفور؛ سواء من قبل الحركات المسلحة المتمردة أو من قبل الجيش السوداني، إلا أنها انتهاكات لا تصل إلى درجة أن توصف بأنها جرائم حرب. ولقد وضعت البعثة تقريرا صادقت عليه بعثة الاتحاد الإفريقي والبعثة الدولية الأممية التابعة لهيئة الأممالمتحدة، واتفقت جميعها على ما قاله سمير حسني بأن الانتهاكات لا تصل إلى جرائم الحرب؛ وحدها بعثة الكونغرس الأمريكي كان لها رأي مغاير بسبب أهداف لا ترتبط بقضية دارفور؛ ولكن بطبيعة العلاقات الداخلية الأمريكية أكثر من غيرها. وترتبط بالخصوص بالعداء بين حكومة واشنطن وحكومة الخرطوم. المحكمة الجنائية الدولية التي تفتخر بكونها لا تتبع لأي دولة؛ وأنها فقط تتبع لهيئة الأممالمتحدة أبانت بطلبها هذا الذي لم يعر اهتماما للتقارير الدولية؛ التي أكدت عدم ملاحظة ما يصل إلى جرائم الحرب، ولكنه يستجيب فقط لرأي واشنطن الشاذ بأنها، كما الهيئة التي تتبعها، أصبحت أداة في يد واشنطن تكبح بها من تشاء كما تشاء وكما يشاء لها الهوى.