طيلة السنوات والعقود الأخيرة، ظلت القنبلة النووية الخطر الداهم والشبح المخيف الذي يهدد امتلاكها الأمن والاستقرار العالميين، ولكن من يتابع المشهد الاقليمي منذ الفوضى التي اندلعت في العديد من الدول العربية في عام 2011، يدرك بسهولة أن الإعلام ربما يوازي في تأثيره وخطورته تأثيرات القنبلة النووية على أمن الدول واستقرارها. أحد الاستنتاجات المقنعة بالنسبة لي من واقع تحليلي لما جرى في السنوات القليلة الفائتة أن الإعلام، بأدواته ووسائله القديم منها والجديد، تم توظيفه بشكل فاعل ليصبح رأس حربة الفوضى الخلاقة التي عمت أجزاء عدة في المنطقة العربية؛ حيث يزخر الفضاء العربي بآلاف القنوات الفضائية، التي يمكن معرفة مصادر تمويل القليل منها، في حين يبقى معظمها ضمن سجلات "مجهول المصدر"، وهذا أمر محير وغريب في الوقت ذاته، إذ يبدو أن الشركات التي تدير أقمار البث الفضائي تتعاقد أحيانا مع "أشباح" من دون أي اعتبار للمحتوى أو الرسالة والهدف الذي تسعى إليه القناة الفضائية، بدليل أن هناك عشرات القنوات التي تروج للتحريض الطائفي والمذهبي والعرقي من دون أدنى رقابة أو حتى لوم أو عتاب!!. ربما يحلو للبعض أن يعتبر الاعلام الجديد بوسائله الجذابة هائلة الانتشار مثل "فيسبوك" و "تويتر" وغيرهما بات يتصدر نقاشات التأثير الاعلامي، وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن يبقى للاعلام التقليدي تأثيره وجمهوره ووسائله التي تجذب شريحة عريضة من الجمهور، لاسيما في ظل شيوع الأمية الالكترونية بشكل كبير في دول عربية وإسلامية عدة، ومن ثم يصبح من المجازفة نقل دفة النقاشات وحصرها في الاعلام الجديد وتجاهل دور الاعلام التقليدي أو القديم. يسمع الكثيرون عن مفهوم "الاغراق" التجاري الذي يندرج ضمن المنافسات غير الشريفة بحسب معايير التجارة الدولية وقوانين منظمة التجارة العالمية، حيث يعد نوع من التحايل على القوانين والقواعد والمعايير الهادفة إلى ضمان حرية التجارة وتطبيق قواعد الشفافية والمنافسة العادلة بين الاقتصادات، والآن ظهر مايمكن تسميته ب "الاغراق" الاعلامي الذي يستهدف السيطرة على العقول والقلوب بشتى الطرق وبغض النظر عن الوسائل والأدوات، حيث يمكن لدولة ما إيواء او احتضان قنوات أو شبكات تتبع جماعات او تنظيمات معادية لدول وشعوب أخرى مع ترك الحابل على الغارب لهذه القنوات كي تبث سمومها الدعائية ليل نهار من أجل تعميق الفرقة ونشر الفوضى في دول أخرى تحت عنوان حرية الرأي والتعبير. لاشك أن استضافة أو إيواء القنوات الفضائية الموجهة ضد الدول والشعوب الأخرى لا يقل خطرا عن استضافة قواعد عسكرية تحمل صواريخ ومقاتلات تهدد امن دول أخرى، باعتبار أن الأمن بات مفهوم متكامل وواسع وامتد ليشمل الأمن والاستقرار الاجتماعي ولم يعد محصوراً في أبعاده التقليدية المتعارف عليها. وحتى لا يبادر احدهم باتهامي بالسعي إلى مصادرة الحريات وتكميم الأفواه، أقول أنني مع القواعد والوضوح والشفافية ومنحاز بشدة لكل ما يضمن حرية الإعلام في إطار حدود المسؤولية ولست مع الفوضى وغياب القواعد والمعايير حتى وإن صنفت ضمن المعادين للحريات العامة، فخطورة الإعلام في المرحلة الراهنة تتجاوز أي حديث عابر عن هذه الحريات غير المنضبطة، فليس هناك قوانين او أعراف تنص على ان يقوم أي تنظيم او جماعة أو أفراد بالنيل من أمن المجتمعات واستقرارها بدعوى التعبير عن الرأي، فالإعلام ليس ثرثرة في فضاءات خاوية، وإلا ما وجدنا هذه الاستثمارات المالية الهائلة تضخ بشكل مستمر في قنوات إعلامية تنتشر مثل الفطر ولا ينافسها في حجم الانتشار عبر أرجاء عالمنا العربي سوى الأمراض والاوبئة المتفشية ومعدلات البطالة والفساد والأمية العالية وغير ذلك من أمراض مجتمعية يقتات عليها أصحاب هذه الاستثمارات بل يوظفونها لمصلحتهم وأجنداتهم الطائفية والسياسية والدينية. لست من أعداء الإعلام المؤدلج الموجه للتخريب ونشر الفوضى فقط، بل أيضا أقف بشدة ضد إعلام تغييب الوعي والتخدير المجتمعي الذي يمارس نشاطه بكثافة عبر قنوات تفسير الأحلام والعب الحظ ونشر الجهل والخرافات التي تعمق جراح البسطاء وتمهد، هي الأخرى، التربة لنشر التطرف والتشدد. الفضاء الاعلامي بات ساحة صراع كما الساحات العسكرية في دول عربية عدة، فهناك قنوات سنية وشيعية وهناك قنوات تتحدث باسم أفراد وزعماء عصابات وتنظيمات دينية ارهابية مثل تنظيم "داعش" والقاعدة والاخوان المسلمين وغيرهم، وهناك أيضا قنوات مناطقية كما هو الحال في ليبيا والعراق وسوريا واليمن وغيرها، وفي ظل انتشار الجهل وغياب خرائط وبوصلات المستقبل وتشوش الهويات الوطنية والتدخلات الخارجية والخطط التآمريةوضعف عوامل الولاء والانتماء الوطني بفعل الفوضى واختطاف الدين لمصلحة السياسة وعلو صوت المذهبية والعرقية والطائفية في دول عدة بالعالم العربي، يصبح الواقع العربي منذر بأخطار جمة. من هنا تنبع أهمية تصريحات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، التي أدلى بها مؤخرا حول ضرورة تصدي وسائل الاعلام لدعاة ومروجيالتطرفوالإرهابوالعنفوأيديولوجيةالكراهية، فالإعلام كما قال سموه هو بالأساس شريك في البناء لا الهدم والتخريب وعليه دور حيوي فيإبرازالأفكاروالرؤىالبناءةوالمستنيرةوالمحفزةللتميزوالإبداع، ناهيك عن أهميته في تحصينالشبابمنالأفكارالهدامةوالمتطرفةالتيتسعىإلى نشرها قوىالتطرفوالإرهاب.والمسؤولية الملقاة على كاهل الاعلام في هذه المرحلة لا تقل حساسية عن المسؤولية الوطنية الملقاة على كاهل الجنود في ميادين القتال، فالكل يدافع عن الأوطان بمفهومها الشامل، الذي تحاول جماعات التطرف والعنف والارهاب استباحته وتقويض سيادة الدول وتحويلها إلى ساحات للفوضى والخراب والدمار. الانتباه إلى دور الاعلام هو خطوة لازمة لانقاذماتبقى من عالمنا العربي والاسلامي، فالاعلام التحريضي والطائفي يساوي في تأثيراته الحقيقية القنبلة النووية، حيث يشوه فكر الأجيال الحالية والمقبلة ويغرس في تربة الأوطان بذور الفتن والاحتراب والصراعات الأهلية، والمطلوب أن يتمسك الاعلام برسالته الوطنية ويدرك طبيعة دوره الحقيقي في المرحلة الراهنة.