الخط : إستمع للمقال جاء الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش المجيد ليزفّ للمغاربة بشرى طالما انتظروها: انتقال المملكة المغربية رسمياً إلى مصاف الدول ذات التنمية البشرية العالية، حسب تصنيف برنامج الأممالمتحدة الإنمائي. إنه إنجاز تاريخي يُحسب للوطن، وللدولة، ولقيادتها، ولجميع القوى الحية التي انخرطت، على امتداد سنوات، في مسار طويل من الإصلاحات والتضحيات. لكن، وكما أشار جلالة الملك في أكثر من مناسبة، فإن ما تحقق ليس نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة من التحديات، ومن أهمها ضمان استدامة هذا التقدم وترجمته إلى مكاسب ملموسة لكافة فئات المجتمع، وعلى رأسها النساء. منذ مطلع الألفية الثالثة، عرف مؤشر التنمية البشرية في المغرب تطوراً تدريجياً وملحوظاً. ففي سنة 2000، كان المغرب يصنف ضمن الدول ذات التنمية البشرية الضعيفة، بمؤشر لم يتجاوز 0.5، وهو ما كان يعكس آنذاك تحديات كبيرة على مستوى التعليم والصحة والدخل. بحلول عام 2010، تحسّن المؤشر إلى حدود 0.56، ليلتحق بفئة الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة، مدفوعاً بتحسن نسب التمدرس وتوسيع التغطية الصحية الأساسية. لكن التحول الأبرز بدأ بعد سنة 2018، حيث ارتفعت وتيرة الاستثمار الاجتماعي، وتوسعت برامج الدعم المباشر، وانطلقت ورشات هيكلية كبرى. ومع تعاقب الإصلاحات، خاصة مع إطلاق النموذج التنموي الجديد، تمكن المغرب في سنة 2023 من بلوغ مؤشر تجاوز 0.70، أي العتبة الفاصلة بين التنمية المتوسطة والعالية، وهو ما جعل برنامج الأممالمتحدة الإنمائي يصنّف المغرب، لأول مرة، ضمن الدول ذات التنمية البشرية العالية. هذا التحول ليس فقط ثمرة مجهود ظرفي، بل نتيجة تراكم سياسات عمومية طويلة النفس، وتعديل في بوصلة التدبير السياسي نحو مزيد من الواقعية والفعالية. هذا المنعطف الإيجابي لم يكن معزولاً عن التحول في منطق تدبير الشأن العام. فقد عرف المغرب في السنوات الأخيرة دينامية جديدة تمثلت في الانتقال من منطق التردد والانتظارية إلى منطق الفعل والإنجاز. فالمغرب اليوم تبنّى مقاربة واقعية، بعيدة عن الشعارات، قائمة على تنزيل مشاريع اجتماعية مهيكلة، مثل "أوراش" و"فرصة"، وتعميم الحماية الاجتماعية، وإطلاق إصلاحات طموحة في مجالات التعليم والصحة والتشغيل، كما خطا خطوات جبارة في اتجاه الإصلاحات التشريعية الكبرى كإصلاح مدونة الأسرة والقانون الجنائي، مع اعتماد قانون العقوبات البديلة كعلامة مفصلية في تحديث منظومة العدالة وتطوير لمفهوم العدالة الجنائية في المغرب. ورغم هذا التقدم، لا يمكن الحديث عن تنمية بشرية شاملة ومستدامة دون إدماج فعلي وكامل للنساء في النسيج الاقتصادي. فمؤشر التنمية البشرية لا يقيس فقط نسب التعليم والدخل ومتوسط العمر، بل يتأثر أيضاً بدرجة كبيرة بمؤشر ولوج النساء إلى سوق الشغل ومساهمتهن في الإنتاج الوطني. وللأسف، ما زالت مشاركة النساء في الاقتصاد الوطني دون الطموح الحقيقي، بفعل معيقات بنيوية ومجتمعية ومؤسساتية. وهنا تبرز الحاجة إلى سياسات عمومية أكثر جرأة، تنطلق من مبدأ تكافؤ الفرص، وتترجم إلى برامج تأهيل وتمويل ومواكبة، خاصة لفائدة النساء في وضعية هشاشة أو في العالم القروي. إن التمكين الاقتصادي للنساء ليس مطلباً حقوقياً فقط، بل ضرورة اقتصادية وتنموية. فكل الدراسات تؤكد أن رفع نسبة مشاركة النساء في سوق العمل ينعكس إيجاباً على الناتج الداخلي الخام، ويُسهم في تحسين مؤشرات المعيشة، ويُعزز مناعة المجتمعات أمام الأزمات. لذلك، فإن مرحلة "ما بعد التصنيف" يجب أن تكون فرصة لإعادة ترتيب الأولويات، ووضع سياسات النوع الاجتماعي في صلب النموذج التنموي الوطني، ليس فقط من منطلق العدالة، بل من منطلق الكفاءة والاستدامة. أن نصعد في سلم التنمية البشرية، فتلك خطوة مباركة؛ وأن نجعل هذا الصعود شاملاً لكل المواطنين والمواطنات، فتلك مسؤوليتنا الجماعية. الرهان اليوم هو على مغرب الإنصاف، مغرب التمكين، مغرب لا يُقصي نصفه النسائي من المساهمة في بناء مستقبله. الوسوم التنمية الاقتصادية المغرب الملك محمد السادس عيد العرش