يتم اليوم تداول مصطلح جديد في الخطاب السياسي المغربي و هو مصطلح " التحكم " وهو من إبداع الحزب الحاكم، حزب العدالة و التنمية بعد أن استعمل المصطلحات الشعبوية من عفاريت و تماسيح ،و هذا المصطلح المبتدع ليس جديدا من حيث المضمون عن كل المصطلحات التي استعملت من قبل مثل " قوى مناهضة التغيير " و " قوى الممانعة " و " الدولة العميقة " ، و هي المصطلحات التي انتعشت مع حكومة ما سمي بالتناوب التوافقي ، و يقابل هذه المصطلحات في خطاب اليسار في الستينات و بداية السبعينات كلمات من قبيل الحكم الفردي، و الحكم المطلق…إلخ لا يكتسب هذا المصطلح عندي مصداقيته لأن مضمون التحكم ليس جديدا على السياسة المغربية، بل هو المؤسس لها منذ إعتلاء الحسن الثاني العرش، وكانت دساتير 1962 و 1972 و 1992 و 1996 أكبر تعبير عن هذا التحكم…و كان القمع و التزوير الإنتخابي أكبر آلياته ، فالتحكم في اعتقادي أساس الحكم في مغرب الاستقلال، و منبع كل الصراعات بين منظومة الدمقرطة التي شكلتها الأحزاب الديمقراطية التقدمية و المنظومة المصالحية التي قادها المخزن مباشرة أو عبر ما سمي بالأحزاب الإدارية منذ الحركة الشعبية إلى الفديك الذي كان يضم الحركة الشعبية الدستورية للدكتور الخطيب التي ستشكل المعبر الذي دخل منه حزب العدالة و التنمية للحقل السياسي، إلى التجمع الوطني للأحرار و الإتحاد الدستوري وصولا إلى حزب الأصالة و المعاصرة . إن الحزب الذي يرأس الحكومة اليوم و يشتكي من التحكم، هو بالأساس منتوج من مصنوعات التحكم نفسها، و لا مجال للمغالطة و البحث عن الذرائع لتمرير خطاب صراعي بين الصانع و المصنوع ما يجب فهمه هو أن دستور 2011 جاء أولا لإجهاض حركة 20 فبراير لتصبح حدثا و ليس حركة لها إمتداد في الزمان، كي تبقى حارسة للمكاسب و متطلعة إلى المزيد من أسباب التحرر و الترقي، عن طريق الإتيان بحكومة من حزب مؤهل بحكم شروط نشأته، تكون مهامها تعطيل الإيجابيات التي جاء بها الدستور و تمرير ما لم تستطع حتى حكومات صاحب الجلالة السابقة المتحكم فيها تمريره . لا بد أن نفهم أيضا أن الفعل السياسي الحقيقي في بلادنا يصنع صنعا في دائرة الحكم الحقيقية و المغلقة التي تشكل ما يسمى بالدولة العميقة…و ما عداه ليسوا سوى فاعلين منفذين أو معارضين منفعلين أو مكونات مفعول بها وهي جميعها من منتوجات صناديق الإقتراع المتحكم فيها و في نتائجها بطرق حداثية و معاصرة تتجاوز التزوير الكلاسيكي الذي عرفته التجارب الإنتخابية السابقة على دستور 2011 ، مثل تنفير المواطن من السياسة مما يؤدي للعزوف، فبركة تقطيع إنتخابي للدوائر ملائم للنتائج المرتقبة، الحياد السلبي للإدارة الترابية، غض الطرف عن إستعمال المال، تشجيع الأعيان و جعلهم في موقع استقطاب كل الأحزاب….الخ الملكية الحالية برلمانية في الواجهة و تنفيذية في العمق وهو ما أملى قبل 20 فبراير سؤال من يحكم و جاء خطاب 9 مارس 2011 ليعلن تقاسم الحكم و لتأتي حكومة البيجيدي لتعلن رسميا أن الملك هو الذي يحكم . هذا الوضع ناتج و منتوج…ناتج عن إصرار الحاكمين على الإنفراد بالقرارات الكبرى. و منتوج لعوامل التفكيك السوسيوسيكولوجي إقتصادي (sociopsychoeconomique) الذي عرفته المكونات السياسية و النقابية التي كانت تملأ الساحة وتفعل في لجم القرارات المدمرة ( الإضرابات العامة و الحركات الإحتجاجية و الحركات الحقوقية) و التي تخلت عن مشروعها لعوامل ذاتية و موضوعية و انساقت مع المنطق الجديد للحكم القائم على الإغراء الغنائمي بدل القمع الوحشي الممنهج الذي لم يختف و لكنه دخل غرفة الاحتياط ، مما تسبب في إفراغ الساحة جماهيريا كي تملأها القوة الجديدة القابلة للإنصياع بدون مقاومة، لأنها في الأصل من مصنوعات النظام السياسي نفسه، بل شكلت تاريخيا ذراعه القوي في مقاومة اليسار . البام ليس حزبا كما لم تكن جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية حزبا (الفديك) بل واجهة حزبية لفرملة كل تطور ديمقراطي، إنه الوجه الآخر للعملة التي يدبر بها الحكم تصوره للشأن العام. و يدبر بها التحكم في سياقاته و مساراته،هذه العملة لها وجه يميني ديني ليبرالي متوحش و وجه حداثي عصراني ليبرالي متوحش. و هذان الوجهان يستقطبان باقي مكونات المشهد الحزبي الاتحاد و الإستقلال و الحركات…الخ بعد أن غادر الإتحاد الإشتراكي حقل الفعل السياسي مع حكومة التناوب التوافقي، و تم تقليم أظافر منظمة العمل الديمقراطي في مؤامرة فندق حسان، و التي كانت مؤهلة تاريخيا و إجتماعيا بتشكيل البديل اليساري القادر على ملئ الفراغ ( تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي وتمثيله في حكومة التناوب) و بعد أن بدأت و استفحلت عملية استقطاب النخب المثقفة بنفس المنطق الإغرائي الغنائمي و التي شكلت تاريخيا الذرع الثقافي و الموجه الفكري و الأخلاقي لكل فصائل اليسار المغربي بعد كل هذا تقلصت دائرة الصراع بين اليمين و اليسار و لم يبق سوى الصراع الشكلي و الصوري بين مكونات اليمين من أجل تنفيذ المشروع الليبرالي المتوحش، و حتى يأخذ هذا الصراع طابعا براقا تم تغليفه بطابع ديني يميني و طابع حداثي علماني، و كلاهما وجهان لنفس النظام السياسي الإقتصادي الذي يحرص على حماية مصالحه بكل الوسائل. أستطيع ان أجزم إن ما يجري على السطح من تقاطب بين البام و البيجيدي ليس إلا أكذوبة كبرى للتسطيح و التضبيع و الإلهاء، لأنهما معا منتوجان من منتوجات التحكم أو الدولة العميقة أو قوى مقاومة التغيير، و سنرى أن صراعهما الوهمي و قد ينتهي بعد الإنتخابات ليصبحا حليفين بأكثر من مبرر و ستسعى جوقة الأحزاب الأخرى إلى البحث عن مواقع لها في الحكومة و سيأمر التحكم بعضها لممارسة المعارضة بالمقابل كوظيفة مؤدى عنها كما فعلها الحسن الثاني حين نصب عصمان معارضا بعد انسحاب الإتحاد الاشتراكي في تجربة سابقة . ليست لي إنتظارات في الإنتخابات القادمة سوى أنها تكريس لما هو قائم الآن، و كل إنتخابات و مستقبل المغرب المنشود في قاعة الانتظار أرجو ممن قرأ هذا المقال أن يستنسخ الصورة المرفقة و أن يكبرها و يتمعن في تفاصيلها كي يعرف مكونات الدولة العميقة و التي ليست سياسية بالضرورة بل هي دولة اقتصادية تدبر السياسة وفقا لمصالحها . ------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------ الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن مواقف صاحبها ولا تلزم موقع برلمان.كوم