يقتضي الحديث عن المجال السياسي في المغرب استحضار العديد من الشروط و الميكانيزيمات سواء التي تتعلق بالبنى الداخلية أو ما تعلق بالشروط الدولية التي حكمت المغرب و سياسته في المجالات ذات الصلة ، و إذا كان المقام لا يسمح بمناقشة هذه الأمور كلية فسنحاول ملامسة الملامح العامة و الخصائص الكبرى التي ميزت تاريخ المغرب . يمكن أن نميز في تاريخ المغرب السياسي بين ثلاثة مستويات ؛ يخص المستوى الأول الفترات التاريخية ما قبل الاستعمار ، و المستوى الثاني يهم مرحلة الاستعمار ، على أن المرحلة الثالثة تمتد من الاستقلال إلى اللحظة المعاصرة ،هذا التقسيم يكتسي طابعا إجرائيا أكثر منه معرفيا حاسما ، و سنركز فيه على اللحظة المعاصرة بالأساس لما لها من خصوصية في رسم معالم الدولة المغربية الحديثة . إن اللحظة المعاصرة محكومة في سياقات تشكلها بطبيعة الصراع و الأفق السياسي الذي حكم تاريخ المغرب في مجريات بناء ذاته بعيدا عن الإملاءات الخارجية و نقصد هنا الاستعمار بمختلف أشكاله و مستوياته ، هاته اللحظة لها ثلاث مظاهر أساسية : المظهر الأول و يمتد من حصول المغرب على الاستقلال حتى فشل الانقلابين في بداية السبعينات و فيه كان الصراع على أشده بين مختلف القوى المشكلة للحياة السياسية في المغرب الذي ضيع فيه الكثير من الإمكانيات و الفرص الضائعة و لا أدل على ذلك من تسمية الفترة في الأدبيات السياسية بسنوات الرصاص و الاغتيالات و المحاكمات الصورية. المظهر الثاني و يمتد من ملحمة المسيرة الخضراء إلى ملتمس الرقابة في سنة 1992، و اتسمت هذه الفترة على الخصوص بالانفتاح الحذر في إطار ما سمي بمسلسل الانتقال الديموقراطي ، و إن شابته أحداث كبيرة من جملتها أحداث الدارالبيضاء 1981، و سياسة التقويم الهيكلي . المظهر الثالث و يبتدئ بدستور 1996 و ما يسمى بالتناوب التوافقي دشن فيه المغاربة لمرحلة جديدة قوامها بناء الدولة بإشراك العديد من الفاعلين السياسيين و المدنيين و التي تمتد إلى المرحلة الحالية ، غير أنه سرعان ما تم التراجع عن العملية الديموقراطية بتنصيب حكومة ادريس جطو . إن قراءة متأنية لمسار المغرب السياسي خلال المحطات التي سقنا معالمها آنفا ، تنبئ بالعديد من الإشكالات التي لا زالت تلازم العملية السياسية و الفعل السياسي و تطرح الكثير من التساؤل حول الفاعل مهما كانت طبيعته ، و أولى الإشارات الدالة في هذا المجال ممارسة السياسة انطلاقا من علاقة الشيخ بالمريد حسب أطروحة الأستاذ عبد الله حمودي ، أو انطلاقا من أطروحة الزاوية و الحزب للأستاذ نور الدين الزاهي ، أي أن السياسة لا زالت أسيرة تصورات ضيقة لا تتماشى مع ضرورة الخلق و الإبداع خارج دوائر الانتماء القبلي و خارج الزعامات التاريخية في غياب تام لفلسفة التعاقد على البرامج الاجتماعية و السياسية و النضج النظري الذي يصحح ذاته باستمرار في تناغم مع خصوصيته الذاتية ، و تفاعل مع الشروط الدولية التي تحكم علاقة المغاربة بالعالم الصديق منه و العدو . هذا التطور كان يحمل معه العديد من المنزلقات التي تتعلق بثقافة الممارسة السياسية و فلسفة التدبير اليومي ، إذ خلت البرامج و التصورات من الأفق الحضاري الذي يمكن أن يميز المغاربة في سياق التشكل الدولي ، حيث اتسمت السياسة عموما برد الفعل و مواجهة الأزمة أكثر من تقديم الحلول و الحرب الاستباقية ، بشكل يدفعنا إلى اعتبار جل المراحل بفترات تدبير الأزمة . غير أن للأمر وجها آخر يتجلى في طبيعة الحقل السياسي و هيكلته ، فقد ظلت هاته البنية أسيرة البلقنة السياسية تتفوق فيها وزارة الداخلية على الأحزاب في رسم الخريطة السياسية بهدف مكوناتها و سحب الشرعية من تحت أقدامها و تشتيت قواها و تركيزها و مبادراتها ، بخلق العديد من الأحزاب الموالية للدولة و بالموازاة خلق الفعاليات المدنية الموازية و مدها بالمال و اللوجستيك ، و في المحصلة النهائية إنتاج قوى سياسية فارغة المحتوى و المبادرة ، الأكثر من هذا خلق الاحتياطي السياسي الذي يسد الفراغ متى احتاجت الداخلية لذلك . هذه المعالم سرعان ما بدأت تتبدد بفعل رياح التغيير التي لاحت في الأفق مع ما يسمى بالربيع الديموقراطي ، و استبشرت الحياة السياسية بالمولود السياسي الذي أودعه المغاربة بعضا من أحلامهم و طموحاتهم فيما يسمى بدستور 2011، الذي شكل في لحظته علامة بارزة على الاستثناء المغربي في بناء ديموقراطيته بعيدا عن النماذج المعروفة في التغيير و التي لا يمكن بالضرورة أن تؤدي إلى المسار الديموقراطي . هذا المناخ غذته الانتخابات التشريعية التي حملت وافدا جديدا على الحياة السياسية بشكل يبدو ديموقراطيا ، غير أن الممارسة أبانت عن ضعف كبير في التصور و الفعل السياسي بطريقة ترتد إلى الوراء بشكل مخيف قد يهدد المكتسبات مهما كانت بسيطة و عادية ، الأدهى من ذلك تنويم السياسة باعتبارها فعلا بخطاب ارتكاسي يجد سنده في ثقافة الاستقواء غير المبرر ، و في تكريس منطق التفوق الأخلاقي و السياسي ، و ترويج خطاب المن على المغاربة من خلال تهدئة الشارع في فترة الربيع الديموقراطي ، و كلها مؤشرات على ضعف النضج السياسي و اللباقة في الرد و الحوار ، و الرزانة و الحكمة في التفاعل مع مختلف القضايا و الإشكاليات . قد يبدو أن هذا الأمر لا يعتريه الخطأ إذا نظر إليه من زاوية الممارسة المرتبطة بالإنسان ، إلا أن للقضية أوجه خطيرة . لم يستطع الفاعل السياسي الحالي أن يرسم لنفسه أفقا سياسيا واضحا يتسامى عن الحسابات الضيقة لصالح الوطن ، بقدر ما ركن إلى نفسه في الفهم و الفعل و التمثل و الخطاب و أنتج بالتالي كائنا سياسيا يرفل في الذاتية و يقتات على اليومي و لا يتجاوز أنفه ، كل ما يهمه هو الارتداد إلى الماضي بصيغة مرضية و الإقامة في مناخها و أدبياتها و منطق تصورها للأشياء ، إذ لا زال هذا الفاعل محكوم بهاجس الخطابة و استعراض العضلات البلاغية . هذا الفاعل تؤطره خلفية اليمين ، بمعنى وجود خطوط حمراء و بيضاء في المجال السياسي و لم يتمثل بعد أن السياسة لها فلسفتها الخاصة في تطويع الفاعلين عن طريق الأحلاف و التكتلات فيما يسميه غرامشي بحرب المواقع عوض حرب الحركة التي لها خاصية الإنهاك و تبديد الجهد و الطاقة ، و بيع الوهم و الاستقواء بالرواية الشفوية و استطلاعات الرأي ، ففي الوقت الذي أنتجت الساحة الدولية فرصا كبيرة للتفاعل الإيجابي مع مختلف القضايا و الظواهر الكونية ، لا زال الفاعل السياسي الوطني يمارس هواية الزعامة الكاريزماتية التي تتشدق بالخطابات الفضفاضة ، و تعجز عن الفعل تحت ذريعة الأيادي الخفية و العلب السوداء و الجن و العفاريت و أشياء أخرى سريالية تمني العين و لا تطفئ عطشا . و من الأشياء التي لها طابع المفارقة في الحياة السياسية الوطنية ضمور الثقافة السياسية لصالح الثقافة التقنية التي تؤمن بالظرفي و المؤقت و تمج السياسة باعتبارها فن القول و الخطابة ، و الأمر خلاف ذلك فالممارسة أبانت عن ضعف بين و فقر مدقع في الرؤية و الفكر الذي يميز العينة السياسية الوطنية ، و لا أدل على ذلك من طغيان الخطاب الشعبوي باعتباره مرادفا لسياسة القرب ، و من الأشياء اللافتة في هذا المجال تواضع المستوى اللغوي عند الزعماء ، كل ما هنالك الفرنسية التقنية و كأن قدرنا أن نظل في علاقاتنا أسيري فرنسا التي يتقن رؤساءها على الأقل اللغة الانجليزية . ضعف الأفق و ضعف الثقافة السياسية يتضح أكثر في التصورات المتعلقة بالتنمية ، فغالبية الفاعلين تفتقر إلى فلسفة واضحة في تقديم تصورات عن التنمية و عن طبيعة و هوية الإنسان المغربي في غضون ثلاثين أو أربعين سنة المقبلة ، و يتمظهر الأمر أكثر حدة في نسج التحالفات التي لا تتأسس على أي خلفية سياسية أو مشروع متكامل ،إذ ترتبط بالآني و الحسابات الضيقة . إن فاعلا كهذا ليس من شأنه إلا أن ينتج معالم سياسة عوض سياسة فعلية تتكامل فيها القدرة على الخلق و الإبداع و توسم المشاريع المستقبلية في إطار التنمية المستدامة و في إيجاد موقع ضمن الأمم الرائدة المساهمة في الذكاء الكوني و في تقديم البدائل التنموية . ------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------ الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن مواقف صاحبها ولا تلزم موقع برلمان.كوم