وأنا أتابع مباراة الجارتين فرنسا وبلجيكا برسم نصف نهائي كأس العالم 2018 بروسيا، والتي انتهت بتأهل فرنسا بهدف لصفر، شرد بي الذهن إلى الكيفية التي غزت بها كرة القدم العالم دون حروب، حتى أصبحت رمزا للعولمة السياسية والاقتصادية بعد أن فرضت نفسها كلعبة لا تغيب الشمس عن أمبراطوريتها.. استحضرت كيفية اقتحام الإجرام المنظم ممثلا في الفيفا اللعبة الشعبية الأولى في العالم، ضمن عملية جريمة منظمة ومتطورة أدرّت على أصحابها أرباحا غير مشروعة على نطاق واسع وبطريقة ألحقت ضررا بليغا بنسيج هذه اللعبة. واستحضرت أيضا الفضائح المختلفة التي تفجرها التحقيقات الدولية، بين الفينة والأخرى، بشأن تورط شبكات إجرامية واسعة في التلاعب بنتائج مباريات كرة القدم. طافت بذهني مقولة الأديب المصري “ذهب عصر القلم وجاء عصر القدم” واستحضرت معها المقولة الشيوعية المأثورة “كرة القدم أفيون الشعوب”، حيث لا يوجد شأن من شؤون الحياة يستطيع أن يستولي على اهتمام مئات الملايين من الأشخاص في لحظة واحدة مثل لعبة كرة القدم التي تخلق جوا من الإثارة الجماعية، تمتزج فيه متعة الفرجة بنشوة الفوز، وتغيب معه إحباطات الحياة اليومية… فكما السياسة مؤامرات ودسائس، فإن كرة القدم بها المواصفات نفسها والتركيبة نفسها، وكلاهما يمارس فعل التخدير بأسلوبه الخاص. الأولى تمارس نوعا من التخدير الفكري بتأطيرها الوعي في اتجاه تغليب رؤية إيديولوجية معينة، والثانية، أي كرة القدم، توفر للجمهور، في عملية تخدير محدودة، لحظات من المتعة والتسلية ينسى معها أعباء الحياة ومتاعبها. ولأن السياسة أكثر مكرا ودهاء، فهم يستغلون فترات التخدير الطويلة التي تنسى فيها الجماهير واقعها وأوضاعها، مثل كؤوس القارات والكؤوس العالمية، للركوب عليها بما يخدم مصالحهم ويقوي فرص الاستقطاب في صفوفهم. أيقنت مع استحضاري لكل هذه الفصول، أنه لا توجد اليوم في العالم ظاهرة أكثر اتساعا وشمولا من كرة القدم. إنها الأمبراطورية الشعبية الوحيدة التي ترغب الشعوب بحماس أن تكون مستعمرة لها. فالبرازيل على سبيل المثال ليست، برأيي، لا نهر الأمازون الذي اشتهرت به، ولا الكرنفال بجنونه واحتفالاته الساخنة، بل هي كرة القدم المتأصلة في عمق الهوية والانتماء، حيث اللعبة في هذا البلد هي المقياس الحقيقي لمعرفة تفاصيل حياة الشعب البرازيلي، وقس عليه معظم الشعوب اللاتينية. ولهذا السبب يحتل نجم كرة القدم موقعا أقوى من أي سياسي، ولا تنطفئ شعلته بمجرد اعتزاله، بل يبقى خالدا لفترة طويلة في ذاكرة ووجدان الجماهير. غير أن هذا العشق الجنوني لكرة القدم، لا يجب أن يخفي درجة الفساد السياسي والاقتصادي المتغلغل في اللعبة منذ عقود. ويحكي الكاتب الرياضي الفرنسي، بول بونيفاس، في كتابه “كرة القدم والعولمة” أنه حينما استضافت إيطاليا كأس العالم سنة 1934، قال الدكتاتور موسوليني “لم أتصور أن ولاء الإيطاليين لهذه اللعبة يفوق ولاءهم لإيطاليا وأحزابها الوطنية. سنفعل ما بوسعنا لتصبح كرة القدم منذ الآن همّنا الرئيسي تأطيرا واستثمارا”. وهكذا كان، فقد احتضن حزب موسيليني أهم الأندية الإيطالية. وبعد فوز إنجلترا بكأس العالم سنة 1966، صرح وزير الاقتصاد روبرت كروسمان: “هذا النصر سيخفف من الضغوط على الجنيه الإسترليني ويحد من عمليات المتاجرة ضده”، فيما حاول رئيس الوزراء، هارولد ويلسون، ربط هذا الفوز بجهود حزبه في المجال الكروي بقوله “لم تكن إنجلترا ستفوز بكأس العالم لو بقيت في ظل حكومة العمال”. ولم يشهد التاريخ الكروي فريقا بروعة منتخب البرازيل عام 1970 الذي ضم كوكبة فريدة من النجوم مثل بيلي وريفالدو و”الطبيب” توستاو.. وحينما فاز الفريق بالكأس، بكى رئيس الحزب الشيوعي، لويس كارلوس بريستيس، يقول المؤلف، ليس من شدة الفرح، بل لأن الفريق ألهى الشعب البرازيلي بذلك الفوز، وسمح للقادة العسكريين بتعزيز سلطتهم، وكانوا قد استولوا قبل أسابيع على الحكم. وعندما استحوذ الجنرالات على السلطة في الأرجنتين، حاولوا جهد المستطاع ضمان استضافة كأس العالم عام 1978. وقد دفعوا من الرشاوى ما جعل الأرجنتين تفوز بها، حيث بدا مؤكدا في الأدوار النهائية أن البرازيل ستتأهل للمباراة الختامية بعد تغلبها على بولونيا بنتيجة (3/صفر). وتعني هذه النتيجة أن على الفريق الأرجنتيني التغلب على فريق البيرو القوي بفارق أربعة أهداف على الأقل ليضمن التأهل للمباراة النهائية.. وفي مباراة تخاذل فيها منتخب البيرو، فازت الأرجنتين (6/صفر) فأقصت بذلك البرازيل وفازت بالكأس على حساب هولندا. واتضح بعد فترة طويلة أن البنك المركزي الأرجنتيني اشترى تلك المباراة من حكومة البيرو مقابل شطب 50 مليون دولار كديون مستحقة عليها. وقد تتبع بعضنا هذه المباراة، يقول الكاتب، ولاحظ كيف كانت “تفوح برائحة الفساد”. ويفيد الكتاب أنها ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها الحكومات لتغيير نتائج المباريات. فقد سبق لحكومة السلفادور أن طلبت من هندوراس السماح لها بالفوز بالبطولة القارية. إلا أن هندوراس رفضت الرضوخ (بل وفازت على السلفادور) مما أدى لنشوب حرب حقيقية غزت فيها جيوش السلفادور هندوراس. وفي كأس العالم لسنة 1950، وصلت البرازيل والأورغواي إلى المباراة النهائية. وفي الليلة السابقة للمباراة، يقول الكاتب، حضر من الأورغواي مسئول حكومي كبير طلب الانفراد باللاعبين. وشكرهم في ذلك الاجتماع على الجهد الذي بذلوه للوصول للمباراة النهائية، لكنه حذرهم من أن الفوز على البرازيل سيعرض علاقات البلدين للخطر ويضر بمصالح الأورغواي الاقتصادية. غير أنه وبالرغم من هذا التحذير، تمرد الأورغواي على كل الضغوط، وفاز على البرازيل في عقر دارها.