اتفاق بشأن زيادة عامة في أجور العاملين بالقطاع العام بمبلغ 1000 درهم صافية شهريا.. وترقب لزيادة في أجور القطاع الخاص    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    بتنسيق مع "ديستي".. الحرس المدني يحجز زهاء طنين من الحشيش بسواحل إسبانيا (صور)    الدرك يوقف مشتبها فيه بقتل تلميذة    مجلس النواب.. انطلاق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية برسم سنة 2024    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    استطلاع: انخفاض عدد الأمريكيين الداعمين لبايدن والغالبية تميل نحو ترامب    الاتفاق رسميا على زيادة عامة في أجور العاملين بالقطاع العام بمبلغ 1000 درهم شهريا    الحوار الاجتماعي..الحكومة ترجئ الحسم في ملفي التقاعد والإضراب إلى حين التوافق مع النقابات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    يوم دراسي حول مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب        الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    التنسيق النقابي لقطاع الصحة…يقرر مواصلته للبرنامج النضالي    ارتفاع أسعار الأضاحي يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !        غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الإثنين بأداء إيجابي    عقوبات ثقيلة تنتظر اتحاد العاصمة بعد انسحابه أمام نهضة بركان    التنسيق الميداني للتعليم يؤجل الاحتجاج    التقنيون يتوعدون أخنوش بإضرابات جديدة    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    الروائي الأسير باسم خندقجي يهزم السجان الإسرائيلي بجائزة "بوكر العربية"    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    طلاب مغاربة يتضامنون مع نظرائهم الغربيين الداعمين لغزة    تزگل باعجوبة. مقرب من العائلة ل"كود": زكريا ولد الناصري ما عندو رالو وها كيفاش وقعات لكسيدة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكيمي يتوج رفقة باريس سان جيرمان بالدوري الفرنسي    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس الجائزة الكبرى لجلالة الملك محمد السادس للقفز على الحواجز بالرباط    مجلس المنافسة: 40 في المئة من الخضر والفواكه بالمغرب تتعرض للتلف    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    للمنافسة عالميا.. جهود مغربية لتطوير صناعة الألعاب الإلكترونية    جماهير اتحاد العاصمة معلقة على الإقصاء: تم التضحية بنا في سبيل قضية لا تعنينا    الصين: "بي إم دبليو" تستثمر 2,8 مليار دولار اضافية شمال شرق البلد    200 مليون مسلم في الهند، "أقلية غير مرئية" في عهد بهاراتيا جاناتا    ماركا: المغرب يستغل الفرصة.. استعدادات متقدمة لنهائيات كأس العالم وسط فضائح الاتحاد الإسباني    إدارة أولمبيك خريبكة تحتح على الحكام    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    "العدالة والتنمية" ينتقد حديث أخنوش عن الملك خلال عرض حصيلته منددا بتصريح عن "ولاية مقبلة"    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (21 )
نشر في بيان اليوم يوم 17 - 08 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899 فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
-21-
توجَّه سفيرنا الدكتور روزن، في يوم 22 شتنبر إلى مدينة فاس، لمقابلة السلطان، وتسليمه أوراق اعتماده. وكانت سفينة «التركي» تعمل منذ أربع سنوات، من دون أن يُؤذَن لها بالتوقف للترميم والصيانة. ولطالما طالبنا بذلك، من دون أن تحظى مطالباتنا ولا احتجاجاتنا باستجابة من السلطات المغربية. وحيث لم يكن في مقدورنا أن نُلزِم الحكومة المغربية بذلك، فلم أجد بداً من أن أطلب إلى السفير أن يحدِّث السلطان في هذا الأمر، إذ هو في فاس، حتى يكون في وسعنا أن نتوقف لترميم سفينة «التركي». ولقد علمت من مدينة فاس أن السلطان قرَّر أن يُرسِل بالسفينة ليتم ترميمها في أوروپا. لكن هذه النية لم يُكتبْ لها التحقُّق أبداً.
خرجنا في يوم 24 شتنبر، نبغي مدينة مليلية، فاستلمنا 500 كيس من مدينة طنجة لحملها إلى عجرود، كما حملنا على متن السفينة اثني عشر رجلاً، بينهم 8 جمود كانوا قد فروا من المحلة المرابطة في منطقة ملوية. وقد كان فرارهم إلى الجزائر، كما كان منهم في المرة السابقة، فوجدوا الاستقبال الحفي، في هذه المرة، كا وجدوه في المرة السابقة. ثم لم تلبث السلطات الجزائرية أن رحَّلتْهم، كما فعلت معهم في المرة السابقة، إلى مدينة طنجة، على متن بواخر فرنسية. غير أن المخزن قام بوضع من وصل من أولئك الهاربين إلى مدينة طنجة في السجن؛ حيث قضى معظمهم جوعاً خلال بضعة أسابيع. ثم نقلنا نحن، بقيتهم، وقد كانوا من النحافة والضغف بما لايُطاق، إلى الحدود ليكونوا عبرة لرفاقهم. ولقد كان الأشخاص الثمانية الذين نقلناهم بؤساء مساكين، وكان أن قضى أحدهم من الضعف والضنى. ولزِمنا، عندما صرنا على مقربة من البر، أن نقوم بدفنه على عادة البحارة، إذ لم يكن في مقدورنا الوصول إلى عجرود، بفعل سوء الطقس. كما لم يبد لي من المناسب أن أُنزِل الميت في مدينة مليلية أو في الجزر الجعفرية. فقد كنت أخشى المصاعب مع إدارة الحجر الصحي، ولذلك آثرْت عدم التصريح بموت ذلك الجندي إلى السلطات الإسپانية. فلما نزلنا، في 30 شتنبر، إلى عجرود، وأخبرْنا الحاج علال بموت الرجل، إذا هو يبادرنا بطلب تسليمه النقود التي كانت مع الميت. فأكدنا له أن الرجل لم يكن بحوزته شيء، وبدا أنه اقتنع بكلامنا. وأفترِض أن الحاج علال كان سيستولي على كل فلس قد يكون في حوزة الميت.
ويبدو أن السيد ساي كان مكروباً، إذ ما عدت أزوره كما كنت أفعل في السابق. فلم تكن لي عودة إلى مرسى ساي منذ تلك المرة التي رافقت فيها السيد ساي في جولة في تلك المنطقة على صهوات الجياد، في موكب كأنه لباشا من الباشوات. ولقد حمَل إليَّ ابنه المتبنَّى في 1 أكتوبر، رسالة إلى متن السفينة، يرجوني الذهاب لرؤية كفيله. ولقد تناهت إلى مسمعي، إذ أنا في مليلية، أصداء تفيد أن ساي قام، منذ وقت قريب، بقطع علاقاته مع بوحمارة. ويُقال إنه تلقى من الحكومة المغربية مبلغ 000 20 فرنك، وتخلى مقابلها عن مشروعاته في مار تشيكا. ولقد استفسرت من ابن ساي المتبنى السيد دانييل عن حقيقة هذا الأمر، فأنكره حقاً، غير أني لم أستبعد هذا الأمر. ولقد وعدْت السيد دانييل بالتوجه قريباً لزيارة والده، وطلبت إليه، في انتظار ذلك، أن يُخبِر والده أن العلاقات الحميمة التي كانت له مع بوحمارة حتى ذلك الحين، هي التي منعتني من زيارة مرسى ساي، فلكوني موظفاً لدى السلطان، فلاأريد أن أُتَّهم بأن لي علاقات مع أصدقاء الروغي. لكني الآن، وقد علِمت أن ساي لم تعد له من علاقات مع بوحمارة، فسوف آتي عن طيب خاطر، لرؤيته، وأُكثر من زياراتي إلى مرسى ساي. ولقد حكى لي دانييل أن سيِّدة تُدعى مدام دوكاس، تقيم حالياً، لدى السيد ساي في مرساه، وهي تنوي التوجه، في وقت قريب جداً، إلى مدينة فاس.
وما كدت أتعرَّف على هذه السيدة حتى صرت أهتم لها شديد الاهتمام. فلقد سبق أن كانت لها اتصالات وثيقة ببوحمارة في سلوان. كما اتفق لها أن كانت موجودة في المركز التجاري عند قصفنا له. ولقد سبق لصحيفة مليلية، أن تحدثت عن هذه السيدة فأسهبت في الحديث. وكان يُقال عنها إنها شديدة الاهتمام ببوحمارة، وإنها شديدة الإجلال له. ويُقال عنها كذلك، إنها واسعة الثراء، وهي تبغي مدَّ الروغي من المال، والأسلحة، والذخيرة، وفي مقابل ذلك طلبت منه بعض التنازلات المنجمية، وتشييدات طرق ومرسى. غير أن رفض الحاكم أدى إلى فشل تلك الصفقات. ولذلك كنت متشوقاً إلى سماع المزيد عن مشروعات هذه السيدة ومخططاتها.
ولقد وصلْت إلى مرسى ساي، فاستقبلني السيد ساي في حفاوة. ولقد أخبرته مرة أخرى، في إيجاز، بالأسباب التي جعلتني أتحاشاه زمناً طويلاً. ثم قدَّم إليَّ ضابطين فرنسيين، وأخبرني أن الحكومة عيَّنتهما لمرافقة السيدة دوكاس. كما أخبرني أن هذه السيدة تحمل رسالة توصية من الحكومة الفرنسية إلى السلطان. ولم تكن السيدة دوكاس حاضرة، وقتئذ، وعندما كنت أهم بالمغادرة، إذا بي أتقابل وأولئك الرجال عند الباب، بالسيدة دوكاس. إنها امرأة طويلة القامة، جليلة، متناسقة الملامح، غزيرة الشعر شقراؤه. لكني وجدتها كريهة سمجة، ولم أعرف لذلك سبباً، وقد يكون ذلك بسبب المساحيق التي جعلتها على وجهها، فأفسدتْها الشمس الحارة.
دار بيننا حديث قصير. وبدت متعجلة لمغادرة مرسى ساي؛ حيث أمضت وقتاً طويلاً، وحيث تشعر بالملل. ولقد انتهزت ذلك الحديث بيننا لتستفسر مني عن موعد الرحلة المقبلة إلى مليلية. فعرضت عليها، في رقة ومهارة، أن أنقلها على متن سفينة «التركي». فكان ردها أن « من شأن ذلك أن يعرضها للشبهة»، وأصرَّت على أن يكون سفرها على متن سفينة «زينيث»، التي كانت تتأهب لكي تغادر، في الموعد نفسه، مرسى ساي، باتجاه مليلية.
ولذلك توجهت بمفردي إلى مليلية. وفي 3 أكتوبر زوالاً، كنت في فندق «أفريكانا»، أثرثر مع شخص تعرَّفت عليه هناك، وحينئذ دخلت سفينة «زينيث» إلى المرسى. ولقد رأينا السيدة ساي ومرافقيها وهم ينزلون من «زينيث»، وجميعهم في لباس مدني. ولقد وجدت السيدة دوكاس في استقبالها رجلاً، قيل لي في الفندق، إنه السيد «جيم». وعلِمت، بعدئذ، أن السيد «جيم» هو مهرِّب فرنسي. وقد شوهد، منذ وقت قريب، كذلك، في سلوان. وكان قد نزل في فندق «أفريكانا» لكنه لم يسدِّد مستحق السكن. ومن الناس من يزعمون أن السيد «جيم» يعمل عوناً للسيدة دوكاس. ولقد رأيت من الجهد الذي كان يبذل والعناء الذي كان يلاقي في الاهتمام بالسيدة دوكاس وبأمتعتها ما جعلني لاأستبعد صحة هذا الخبر. ولقد زارت مديرة فندق «أفريكانا»، في اليوم الموالي، السيدةَ دوكاس، لتطلب منها تسديد حساب السيد «جيم»، غير أن السيدة دوكاس امتنعت عن ذلك، وقالت في تبرير ذلك إنه يستحيل عليها أن تتكفل بالديون الخاصة لأصدقائها. وفي الوقت ذاته، تلقيْت رسالة من الطريس يطلب مني فيها أن أراقب، في مدينة مليلية، كلاً من «جيم» وباي. فقد كان اثناهما ينويان أن يُنزلا في هذه المنطقة في وقت قريب، كميات هائلة من الأسلحة والذخيرة لأجل الروغي.
ولقد استغربت لهذا الأمر، بعد ما رأيت من الفرنسيين، وما قيل لي عنهم. فلقد حاولت السيدة دوكاس أن تقوم ببعض الصفقات مع الروغي. ولايزال أعوانها؛ ذلك هو «جيم»، برفقة الروغي، فيما توجهت هي إلى مدينة فاس، وبمعيتها الضابطان الفرنسيان. ولبث «جيم» من دون أن يسدد حسابه، رغم ما كانت عليه مشغِّلته من واسع الثراء. وأما السيد «باء» الذي كان صلة الوصل بين الاثنين، فهو أخو موظف فرنسي سام في الجزائر. لكن الأفظع في كل ذلك، إنما كان موقف السيدة دوكاس التي يبدو لي أنها كانت تقوم بدورين باسم الحكومة الفرنسية. ولم يكن لي بد من أن أرفع تقريراً مسهباً إلى العجوز الطريس في شأن هذه الأحداث. ولقد ضمَّنْت ذلك التقرير كل ما سمعت في هذه الأيام الأخيرة. كما نبهت الطريس إلى الطُّعم الجديد الذي يستعمله الفرنسيون؛ أقصد السيدة الجميلة دوكاس.
ولقد تعرفت في هذه الأيام، على ضابط إسپاني شاب، هو ضابط المشاة «غاء»، الذي كان مجيداً للغة العربية، مما أهَّله لأن يصبح معلماً للشرطة الغربية المحلية. إن السيد «غاء» شخص محبوب ولطيف وجذاب. وهو كثير التردد، أثناء عطله، على سلوان. فيتنكر في زي طبيب إسپاني حتى يتسنى له أن يستعلِم حول الوضعية المحلية. ولم أكن أعلم إن كان يتنقل باسم الحاكم وبمصادقة منه، لكني أرجِّح ذلك. ولقد حكى لي أنه قرأ، مؤخراً، رسالة باللغة العربية جاءت إلى أمين جمرك الروغي، بقرب مدينة مليلية، إذ كان هذا الأخير لايعرف القراءة ولا الكتابة. وقد ورد في تلك الرسالة أمرٌ من الروغي باعتقال ديلبريل وإرساله إلى سلوان، لو تجرأ على أن يطأ التراب المغربي. وبذلك تأكد لي أن الأقوال التي تفيد أن ديلبريل قد افترق عن الروغي كانت مجرد ادعاءات باطلة. ولقد سمعت، فضلاً عن ذلك، أمراً آخر زاد من احتقاري لهذا الفرنسي المشؤوم. إذ يُحكى أن ديلبريل كان قد طالب مزوِّدي الروغي من الأسلحة بتموينه هو، قبل أن يؤدى لهم ثمن تلك الأسلحة، وحيث إنه لم يُدفع له على الفور بذلك التموين، فلقد قرَّر أن يظل الروغي مديناً له بتلك الأسلحة. وكذلك كان خطاب السيد «جيم» في شأن الوضعية الحالية في سلوان خطاباً بالغ الأهمية.
كان المتمردون يشكون من نقص في الأموال والمؤن. وتفشى الكثير من الأمراض في سلوان، وارتفع فيها معدل الوفيات. والروغي نفسه شخص يوحي بالود، ويحظى بالاحترام ممن يعرفونه، حتى وإن كان منهم من يعتبرونه، في دخائلهم، رجلاً غاصِباً. والأشد وفاء من أنصاره إليه هم أشخاص مغامرون متهورون جمعهم حوله من جميع أنحاء المغرب. لكن لم يبق للروغي بين أنصاره من الريفيين غير المدعو سعيد الشاذلي والأفراد من قبيلته هم الريفيون. ولقد أصبح عدد حُلفاء بوحمارة، الآن، لا يتعدى 1000 رجل؛ مما يجعل الوقت مواتياً لقهرهم والقضاء عليهم في رمشة عين، سيما وقد أصبحت الذخيرة نادرة في سلوان. غير أنني أتوقع، بكل يقين، أن يضيع جنود السلطان هذه الفرصة، ولايغتنموها.
ما أن رحل عنا بن الطاهر، حتى عاد التفاهم والوفاق أفضل ما يكون على متن السفينة بين البحارة والجنود. فقد عاد الرجال يتحملون بعضهم بأحسن حال، وما أكثر ما كنت أرى الجنود يقدمون يد العون عن طيب خاطر إلى البحارد في ما يتفق لنا من مناورات. وقد كان هذا الانسجام، بكل يقين، هو السبب الرئيسي الذي جعلهم يقررون أن ينظموا، مجتمعين، حفلاً كبيراً. ولا يبعد أن يكون اقتراب شهر الصيام قد دفعهم إلى إقامة وليمة مرة أخرى. فقاموا يجمعون في ما بينهم مبلغاً صغيراً، وجاءوا يطلبون من الأوروبيين مساهمة صغيرة، فحصلوا عليها عن طيب خاطر. ثم اشتروا في مليلية وعجرود كمية عظيمة من الشاي والسكر والدقيق والزبدة والدجاج وبعض الحملان. ثم طلبوا إليَّ يوماً كاملاً يتعطلون فيه عن العمل، ليسمتعوا بالشرب والأكل. فجعلت موعد ذلك الحفل يوم 6 أكتوبر؛ إذ يلزمنا أن نتوقف، في ذلك اليوم، في الجزر الجعفرية للقيام بتصليح بسيط يمكن أن يقوم به الميكانيكيان الألمانيان.
منذ الفجر، شرع المغاربة يغطون سطح السفينة بالأشرعة؛ فقد كنسوها ليجعلوها نظيفة، وجعلوا حشيات فوق الكوى الكبيرة. وكان العمل يجري، تحت خيام الأهالي، على قدم وساق، شياً، وطبخاً على البخار، وإعداد حلويات، وطهياً. ثم اقتعدوا الحشيات متربعين، يتقدم الجنود ويليهم البحارة. وهكذا، ابتدأ حفلٌ صاخب؛ فشربوا الشاي، وغنموا وعزفوا، وكانوا جميعاً منشرحين مغتبطين، وبقدر ما يتقدم اليوم، يزداد انشراحهم واغتباطهم. وجعلوا يتناقلون القيثارة بين أيديهم، يرافقون به الأغاني الشجية الرتيبة. وقد يقومون للرقص أحياناً، فيتحلقون في دائرة، ويشبكون ركبهم، ويأخذون يقومون وينحنون ويطنطنون، وهم يؤرجحون جذوعهم إلى الأمام ثم إلى الخلف. كان بعض الرجال يغنون، والجميع يصفقون. وأخذ أحد الراقصين يقفز، وهو ينتقل من الواحد إلى الآخر في دائرة. قال لي بومغيث إن هذه الرقصة يفترض بها أنها تسهل الهضم؛ إذ يتم إنزال الطعام، لتحل محله كميات جديدة. وقد كانت المقادير الملتهمة من الطعام في ذلك اليوم عظيمة جداً. وبين الفينة والأخرى، يقدم تشخيص مسرحي موجز؛ بأن يقوم أحد البحارة بمحاكاة أحد كبار الموظفين. فهو يشخص هذا النوع من الأوغاد المميزين في صورة بالغة الهزل. وحتى لقد استخدمت السبحة، كذلك، هي التي تسمح للموظف، كما يقال، بإحصاء أرباحه. وإني نادراً ما رأيت رجالاً يلهون بمثل هذه البراءة، من غير أن يصبوا قطرة من كحول. ولم يحدث من نشاز يعكر صفو هذا الحفل البريء. وبطبيعة الحال، فقد لزمنا، نحن الأوروبيين، أن ننضم إليهم بين الفينة والأخرى، ونشاركهم الطعام. ولقد طال الحفل الليل كله، حتى الساعة الثالثة صبحاً. وبعد ذلك، عاد الهدوء ليسود أرجاء السفينة.
جعلنا ننتقل بين مليلية وعجرود على فواصل طويلة، من غير أن نزعج أحداً، وإنما كل نيتنا أن نمنع خصومنا كل متاجرة مع مار تشيكا. وفي صباح يوم 19 لزمنا ان نعاود الرحيل، مرة أخرى، عن مليلية نحو الحدود، وكنت أؤمل أن يكون بمقدوري الرسو في عجرود قبل الليل. لكن لزمنا أن نظل [هناك] منتظرين عدة ساعات، لأجل راكب لم يكن بد من أن يرحل وإيانا، ولم يكن قد تهيأ بعد، قلبثت منتظراً، بفارغ الصبر، في دكان فرتوت إشارة الرحيل. وفجأة ظهر زنجي في ميعة الشباب، وكان طويلاً وقوياً، يرافقه بعض الريفيين. كان هؤلاء منشرحين جميعاً، فيما الزنجي يتكلف الضحك في شيء من الاضطراب، ويسعى إلى تقبيل رؤوس جميع الحاضرين، وأيديهم وجلابيبهم. ولقد استغربت لهذا الفعل الغريب من الزنجي والود الغامر من قبل الريفيين، فسألت عن أمر هذا الزنجي. فحصلت على جواب صريح : أن القايد المحمدي اشتراه في ذلك اليوم ب 400 دورو، ويريد أن يعيد بيعه في عجرود. إذن، فهو عبد قد اشتري ويعاد بيعه بكل هدوء في قلب التراب الإسباني؟ وبطبيعة الحال، فإن السلطات الإسبانية لم تعلم بالأمر، وإلا لما وافقت على هذه المتاجرة في بني البشر.
وكان الزنجي قد أفرغت عليه جلابة جديدة، فكان، في تلك الأثناء، داخل دكان فرتوت يرتدي قميصاً جديداً، متخذاً من الجلابة... وقد ظل، بطبيعة الحال، مرتدياً قميصه قديم تحت الجديد. ثم أعطي بلغة جديدة، وبعد لأي أمكننا أن نرحل بهذه الحمولة العجيبة.
تراءى لنا، في ذلك المساء، الهلال، علامة على دخول شهر رمضان. فلن يعود للرجال، منذ ذلك اليوم، حق في الأكل خلال النهار، إلخ. فهم يكونون، طوال ذلك الشهر، موروز، وكسالى، وكلما يكون الاختلاط بهم مريحاً. وأما الباشا الذي كنا كثيراً ما نراه، في الأيام السابقة إذ كنا قبالة عجرود على الدوام، فكان يبدو أنه لم يفقد شيئاً من مزاجه الطيب. وما رأيته إلا مرة واحدة، يعنف كاتبه، الذي عاد من الجيش يحمل رسائل، بدل أن يحمل إليه أخباراً. وقد كان الجنود يلحون في طلب النقود إلى القائد. فكان يرى الوقت غير مناسب، خلال شهر رمضان، لإزعاجه بمثل تلك الترهات.
وقد جاءه، بعد ذلك، قايد صغير من الجيش، بعد أن لم يعد بحوزته مال، وصارت المؤونة الضرورية في سبيلها إلى النفاد، فلم يتورع الباشا عن جلده، ثم رده على أعقابه إلى الجيش. وكنت أجلس إلى بومغيث والخليفة لدى السيد، خلال النهار يؤتى إليَّ بطبق من اللحم المشوي، أو بوجبة قد هيئت وفق العادة القديمة. فيكون عليَّ أن أطعم، فيما ينظر إليَّ الآخرون. فقد كانوا يطردون عنهم الجوع والضجر بما يقصون على بعضهم من الحكايات، ويكثرون من الضحك ويطيلون.
كانت الاستعدادات دارية، في تلك الأثناء، للمعركة الحاسمة ضد الروغي. وكان أهل كبدانة قد تعبوا من الحرب، فهم يريدون التخلص من بوحمارة في أسرع وقت، ولذلك فقد حصلوا على إمدادات جديدة من الدخيرة، وانطلقوا إلى المحلة المرابطة في ملوية. وانضمت بعض التجريدات من بني يزناسن إلى رجال السلطان، تحت قيادة القايد العظيم والشجاع حمدول. وكذلك غادر القايد علال قصبة السعيدية في الحامية المحلية، وتوجه إلى ملوية. وصرنا، بداية من 20 أكتوبر، نسمع أن اليوم الموالي سيكون يوم الحسم. وفي يوم 24، دارت المعركة الأولى. وجاز القايد حمدول ورجاله النهر في مهمة استكشافية. ولقد اصطدم بحامية صغيرة للروغي بقيادة القايد قندول بن محمد الشريكي، المعروف باسم الخليفة الشريكي. وقد كانت مواجهة حامية، انهزم فيها جنود بوحمارة، ووقع قائدهم بأيدي بني يزناسن، فانسحبوا من الجانب الآخر من الوادي يحملون غنيمتهم، من غير أن يفيدوا من النصر. ولقد تم قتل الحصان الذي يركبه الأسير، وأصيب من تحته، حتى لا يضيع على قاتليه السرح الثمين، فتم لهم الاستيلاء عليه. وكذلك أخِذ من الخليفة الشركي سلاحه وثيابه النفيسة، وحُملت إلي المعسكر، وهناك أعطاه القايد البشير جلابة ليست بها عورته. ثم اقتيد إلى قصبة السعيدية، لتحمله «التركي» من هناك إلى طنجة. وسمعت أن خنجر الأسير بيع، فور ذلك، في المعسكر ب 80 دورو.
بيد أن المعركة الحاسمة ظلت في إرجاد. وقد كلمت بعض الجنود في الأمر، فعلمت منهم أن القادة لم يكونوا متفقين وإياهم، لأن ما يريد الواحد منهم لا يرغب فيه الآخر. ولا يبدو أنهم كانوا متفقين إلا على شيء واحد : إطالة الحرب على الروغي، فبذلك يتسنى لهم أن يجنوا المكاسب التي كانت، إلى ذلك اليوم، عظيمة.
ويبدو أن القايد البشير كان هو، بوجه خاص، من يرى إرجاء المعركة الحاسمة. وتمر الأيام، ونحن نسمع في كل يوم : في الغد. رلى أن كان يوم 25؛ ففي ذلك اليوم أمطرت مدراراً، حتى لقد تحول ملوية، في غضون ساعات معدودة، إلى سيل جارف، استحال معه كل سبيل لعبوره. فكان للقادة ما أملوا طويلاً : فلقد ساعدتهم الطبيعة، بأن جعلت من المستحيل القيام بتلك الحملة القاضية، التي لم يكونوا فيها براغبين. واضطُررنا بنقص الفحم، إلى التوجه، مزة أخرى، في يوم 26 إلى طنجة للتزود منه. وهناك لم يسلم إلينا غير 33 من الأسرى؛ كان بينهم القائد الكبير على قوات بوحمارة، القايد الشركي. وقد كانوا مكبلين جميعاً، وأما القايد فكان مسلسل الأيدي والأرجل معاً. كان يبدو عليه أنه لا يزال في صحته وعافيته، فلما يمض علي اعتقاله غير يومين. وأما بقية الأسرى فكانوا جميعاً في حالة تبعث على الشفقة. لقد كانوا منهكين معدمين؛ يبدو عليهم أنهم قد ترِكوا طويلاً في في زنازن عفنة نتنة.
تولى رجالنا الخليفة الشركي بكثير من الاهتمام والعناية طوال الرحلة التي حملته إلى طنجة، وقد يخرجونه، أحياناً، لينعم بالهواء الندي، فهذا شجعه على أن يقدم لنا روايته لتلك الأحداث. فقد حكى أنه من أبناء قبيلة القايد البشير؛ أي أنه ينحدر من نواحي فاس (هذا هو السبب الذي جعل القايد الباشا يقدم له جلابة بعد أن سُلِب كل شيء) وأن أسرته تُعد من أغنى وأعلاها منزلة بين قبيلته. وقد راودته الرغبة، في وقت من الأوقات، أن يصير قايداً علي قبيلته، لكن ذلك المنصب أسنِد إلى شخص آخر من ذوي الحظوة داخل البلاط. وقد كان من المعروف للجميع أن كل رجل في فاس من النزهاء الذين لا يجيدون التدلل والممالأة، لم يكن له نصيب في حظوة ولا في رعاية، وأن جميع الرجال من البواسل الشجعان الذين لا يجيدون المداهنة والتزلف لم يكن لهم من شأن داخل البلاط، ولقد غضب صاحبنا أن استُبعِد من تلك المنصب، فالتحق بالروغي في 60 من أتباعه، وهمو أتم ما يكون اقتناعاً بأن بوحمارة هو نفسه مولااي امحمد، أخو السلطان. ثم كان أن تنبه إلي تلك الخدعة، منذ سبعة أشهر، لكن لم يعد له سبيل إلى التراجع.
وها إنه قد قدِّر له أن يقع في الأسر، وهو راض بقدره. ثم خلص إلى الحديث عن الروغي، فقال إنه لا يزال معه 400 من الفرسان و110 من المشاة، وجميعهم من المحاربين المجربين. حقاً، لقد بات من الواضح أن قضية بوحمارة تسير إلى نهايتها، لكن قبل أن يتسنى القضاء على بوحمارة وأنصاره، سيوقع الروغي في جنود السلطان ضِعف ما سيقع بين جنوده من قتلى. وإذا كانت الأمطار لا تزال في تساقط، جاعلة من المتعذر ، لبعض الوقت، اجتياز ملوية، بحيث سنكون في مأمن من أي أخطار من هذا الجانب، فإن هذا الأمر سيتيح لبوحمارة، الذي كان، وقتئذ، يدير العمليات بشخصه، أن يعود إلى سلوان. ومن هناك، سيجهد ليضم إلى قضيته قبائل سلاية، سواء بالترغيب أو بالترهيب، وتلك ستكون بالنسبة إليه هي الوسيلة الوحيدة للصمود لوقت أطول. وأما في تلك اللحظة، فلم يكن استمال إلى جانبه غير القليل جداً من القبائل.
وتحدث صاحبنا عن الفرنسيين، فقال إن بوحمارة ليس صديقاً لهم بأي حال، وإنما كل شأنه معهم أنه يسخرهم لمصلحته! ولقد وعدهم ببعض الامتيازات في المناطق المتمردة، ليحصل منهم على الأسلحة والدخيرة، وليس في نيته أن يفي بوعد واعد من وعوده لهم.
كان الخليفة الشركي قد شغل وظيفة سامية لدى بوحمارة، وحظي بدثقته الكاملة، لذلك تبدو لي أقواله قابلة للتصديق، ولاسيما والرجل يترك عند من يراه انطباعة حسنةً. ومع أن ملامحه ليست بالجميلة، فإنها توحي بالصراحة والشجاعة والحزم، ومع أن الأسر كان يثقل عليه، فإنه لم يبد قط ما يدل على أنه خائف.
في 29 أكتوبر وصلنا طنجة بحمولتنا من بني البشر.
وفي صباح اليوم الموالي، أنزلنا السجناء، بعد أن استدعينا الجيش الذي في طنجة كله، وجعلناه من حول الميناء ليقوم على مراقبتهم. توجهت عند الوزير، حيث التقيت، بالإضافة إلى الطريس وكتابه، الباشا ابن بازي، وخليفته والقايد إدريس عن بطارية الميناء. سير بالسجناء في الطريق الرئيسية على ظهور الحمير في موكب محزن، يتقدمهم الخليفة الركي. ثم توقفوا أمام الوزير ورُفِع الخليفة الشركي من على حماره، واقتيد إلى الداخل ليتم استنطاقه من لدن الطريس.
كان الاستنطاق قصيراً، وسرعان ما أخرج الخليفة الشركي من المكاتب، ولما كان في الآروقة، فتح بعض القياد القميص الذي يترديه، وأخذوا ورقة كان يضعها في كيس جليدي صغير من حول عنقه. اعتقد بومغيث أنها تميمة، أو آية قرآنية نقلها الروغي، لتكون لأنصاره وقاية من رصاص الأعداء.
استدعاني الطريس ليخبرني بأن عليَّ أن أتوجه إلى الدار البيضاء لأنقل من هناك حمولة من القمح إلى عجرود، وأثناء الساعات القليلة التي أمضيتها مستريحاً، قبل أن يبلغ إلى علمي نبأ حدوث اضطراب كبير في أرسيلا على السلطان، لكن أمكن إخماده بسرعة وشدة من طرف الريسولي، بعد أن استنجدت به الساكنة. وقد تلقته ساكنة أصيلا باستقبال حماسي، وعينه السلطان عاملاً على المدينة واستتب الأمن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.