موظفو الجماعات الترابية ينسحبون من الحوار مع وزارة الداخلية    الملك محمد السادس يوجه خطابا إلى القمة الثالثة والثلاثين لجامعة الدول العربية    ميناء طنجة.. تراجع كمية مفرغات الصيد البحري بنسبة 30% حتى متم أبريل    تقرير: إحداث أزيد من 42 ألف مقاولة ذات شخصية معنوية نشطة بجهة الشمال    بمشاركة المغرب.. إنطلاق أعمال الدورة ال 33 لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة    الملك محمد السادس: الأعمال الانتقامية في غزة أبانت عن انتهاكات جسيمة    مقترح "إلغاء الفار" ينتظر تصويت الأندية الانجليزية    طقس الجمعة.. أمطار ضعيفة و متفرقة وتشكّل سحب بالشمال وحرارة بالجنوب    التحقيق مع شرطي مرور بطنجة أشهر سلاحه أمام سائق    المغرب يثير من جديد موضوع استقلال الشعب القبايلي في الامم المتحدة    رئيس مجلس حقوق الإنسان يدعو إلى إدارة للحدود تحترم حقوق المهاجرين في وضعية عبور    والي أمن طنجة: إيقاف أزيد من 58 ألف شخص.. وحجز أطنان من المخدرات خلال سنة واحدة    القمة العربية: الملك محمد السادس يعتبر محاولة إسرائيل فرض واقع جديد في غزة "أمرا مرفوضا"    على هامش تكريمه.. البكوري: مهرجان الريف يسعى لتقريب الإبداعات الناطقة بالأمازيغية إلى الجمهور التطواني    منح جائزة التميز لبرلمان البحر الأبيض المتوسط لوكالة بيت مال القدس الشريف    عائلات "مغاربة ميانمار" تحتج بالرباط .. وناجية تكشف تفاصيل "رحلة الجحيم"    هذه حجم الأموال التي يكتنزها المغاربة في الأبناك.. ارتفعت بنسبة 4.4%    وفاة الفنان أحمد بيرو أحد رواد الطرب الغرناطي    "حماة المال العام" يستنكرون التضييق على نشاطهم الفاضح للفساد ويطالبون بمحاسبة المفسدين    أخنوش يتباحث مع رئيس الحكومة اللبنانية    هذه العوامل ترفع خطر الإصابة بهشاشة العظام    باحثون يعددون دور الدبلوماسية الأكاديمية في إسناد مغربية الصحراء    تصفيات مونديال 2026: الحكم المغربي سمير الكزاز يقود مباراة السنغال وموريتانيا    بعثة نهضة بركان تطير إلى مصر لمواجهة الزمالك    كأس العرش.. مولودية وجدة يضرب موعدًا لمواجهة الرجاء في النصف النهائي    انطلاق القافلة الثقافية والرياضية لفائدة نزلاء بعض المؤسسات السجنية بجهة طنجة تطوان الحسيمة من داخل السجن المحلي بواد لاو    إيقاف مسؤول بفريق نسوي لكرة القدم ثلاث سنوات بسبب ابتزازه لاعباته    إطلاق مجموعة قمصان جديدة لشركة "أديداس" العالمية تحمل اللمسة المغربية    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال    قافلة GO سياحة تحط رحالها بجهة العيون – الساقية الحمراء    يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه    صعود أسعار النفط بفضل قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    "أديداس" تطلق قمصانا جديدة بلمسة مغربية    ظاهرة "أسامة المسلم": الجذور والخلفيات...    الاستعادة الخلدونية    مطالب لوزارة التربية الوطنية بالتدخل لإنقاذ حياة أستاذ مضرب عن الطعام منذ 10 أيام    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    "إف بي آي" يوقف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بالمطار ويحقق معه حول مواقفه من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    نسخة جديدة من برنامج الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات الرياضية والتفاعل مع مشاعر البشر    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (12 )
نشر في بيان اليوم يوم 06 - 08 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
‪-‬ 12 ‪-‬
قمنا، في 16 دجنبر، برحلة إلى ناحية عجرود، لتسليم الإمدادات الجديدة من الذخيرة إلى المحلات المرابطة في تلك الناحية. فلما كنت أهم بتوديع الطريس، إذ استلم المراسلات، فكلفني بأن أعرِّج، في طريق عودتي، على مار تشيكا، لأتحقق مما إذا كان الأهالي منكبين على العمل في تلك الناحية، أم أن الإسپان رفعوا علمهم فوق كاپ ريستينغا. فلقد تناهى إلى مسامع الطريس أن بوحمارة باع الإسپان تلك ناحيةَ، فأراد العجوز حينها أن يتأكد من صحة ذلك الخبر.
ولقد علمت إذْ أنا في قصبة السعيدية أن بوحمارة فاوض الإسپان في بيعهم تلك الأراضي، لكن منعتْه منه القبائل المحلية. غير أن الروغي لم يتخل عن مشروع الحصول على الأموال بهذه الوسيلة، وقيل إنه على علاقة ببعض الفرنسيين، وإن هؤلاء يدبِّرون لإنشاء ميناء في منطقة مار تشيكا، وقد كانوا، في تلك الأثناء، يمدونه من الأسلحة والذخيرة. علمت بهذا الأمر من أهل فرخانة، وكانت بهم رغبة شديدة في الإبحار على متن سفينة «التركي» باتجاه كاپ ريستينغا، ليتسنى لهم من هناك، القضاء على بوحمارة، غير أن بقية جنود السلطان لم يكن يبدو عليهم أنهم ميالون إلى تأييد هذا المشروع تأييداً فعلياً. وبذلك بقيت الأمور معلقة، كشأنها عادة.
وتلقينا الأوامر، في 19 من دجنبر، بالإبحار بطول ساحل كبدانة، باتجاه مار تشيكا. وكان الجو غاية في الروعة، والبحر هادئاً والرؤية جيِّدة. فإذا طلع النهار، كنا قد بلغنا إلى كاپ ريستينغا، ورأينا فوق إحدى الهضاب، معسكراً صغيراً تخفق فوقه راية بوحمارة الخضراء. كما رأينا خيمة خضراء وسط الخيام، وكان المعسكر كله يغط في نوم هادئ.
أخبرْت الطريس بما رأينا، فكان اعتقاده أن المعسكر إنما يستعمل العلم الأخضر لبوحمارة مجرد غطاء، لأن الروغي لم يكن، وقتئذ، في تلك الناحية، وإنما كان في سلوان، والأرجح أن تكون تلك الخيام لمهرِّبين فرنسيين أو إسپان. ثم جاءت الصحافة الإسپانية، بعدئذ، لتثْبت صحة رأي الطريس. كما أثارت هذه الصحافة الانتباه إلى ما كان يدبِّره الفرنسيون في مار تشيكا، وحذَّرت منه.
وإذا لم يكن من شك في أن زيارة الإمبراطور الألماني إلى مدينة طنجة ومؤتمر الخزيرات المقبل قد رفعا من معنويات السلطان مولاي عبد العزيز، فإنهما لم يُجْديا فتيلاً في تسوية الارتباكات المالية التي بات يتخبط فيها المخزن. فلقد كانت حالة الموظفين النظاميين تزداد سوءاً على سوء، ويزداد الاختلال في أداء رواتبهم تفاحشاً. وربما كان ذلك نفسه حالَ الموظفين والعمال في الميناء. وإذا كان من المسوَّغ خفض رواتب جميع موظفي المخزن، بعد أن أصبحوا في حكم العاطلين، ولم يتعلموا شيئاً، وتقلص ما كانوا ينهضون به من أعباء، فإن عمال الميناء كانوا عمالاً حقيقيين؛ فقد كانت تقع على كواهلهم عمليات الشحن والتفريغ، وكذلك كان الشأن عند البحارة العاملين على متن قوارب التحميل والتفريغ؛ أولئك الرجال الأشداء! ولم يكن لهم من الموظفين إلا أنهم يقومون بكامل عمليات المرسى التي تحتكرها الحكومة المغربية. وقد كانوا يأتمرون بأوامر قبطان الميناء.
ولقد أقدم هذا القبطان، في أعياد الميلاد لسنة 1904، على اقتطاع عدة أسابيع من رواتبهم المقلَّصة في أصلها، فضاقوا ذرعاً بالأمر، وبلغ بهم إلى الامتناع عن العمل.
وتلك كانت أول مرة نشهد فيها إضراباً حقيقياً في المغرب، ونرى فرق المضربين ومقاومي الإضراب. وتوقف نشاط المرسى، وتوقف، كذلك، نشاط الملاحة.
وأصبح كل نشاط المرسى مقتصراً على مرور المسافرين، فيما بقيت التجارة معطلة. ولم يظهر قبطان الميناء للأنظار. ولم تجد الحكومة بداً، في نهاية المطاف، من الإذعان لمطالب المضربين، فقبض العمال رواتبهم، وزيادة. وعادوا من فورهم إلى استئناف عملهم.
وفي تلك الأثناء تم الكشف، في مدينة طنجة، عن عملية غش واختلاس كبيرة؛ كان بين مدبِّريها الرئيسيين أحدُ كتاب الوزارة، يُدعى القباج. فلقد ظل مدبرو هذه العملية يهرِّبون، طيلة شهور، كميات كبيرة من الحرير، من دون أداء مستحقات الجمرك. ولقد يسَّر لهم تلك العمليات الجمركيون، الذين كانوا شركاء لهم فيها. ولقد تم طرد الجميع من وظائفهم، وأُجبِروا على أداء غرامات. ولم يُسجن منهم سوى موظف واحد؛ ذلك هو قبطان الميناء الحاج عبد الرحمان، وإن كان بريئاً تماماً من تلك العمليات، فكذلك أراد له الآخرون، الذين كانوا جميعاً رؤساءه. ولقد كان الحاج عبد الرحمان رجلاً محبوباً من الجميع، لكن لم يتسنَّ إطلاق سراحه، بعد وقت غير يسير، وكان الفضل يرجع في ذلك، تخصيصاً، إلى تدخل الأوروپيين في شأنه لدى الحكومة المغربية. وأما الآخرون فقد كانوا ينحدرون من كبريات الأسر المغربية، مما منع من إدانتهم.
وفي 14 يناير، تم إرسال سفينة «التركي» إلى مدينة العرائش، لتأتي من هناك، بأحد السجناء، وأربعة من المدافع. ولقد وجدنا السجين المذكور في حراسة مشددة. فقد كان متهماً باغتيال القنصل النمساوي مادن، في مدينة الجديدة. ولقد تعرض السجين للتعذيب، جلداً بالسياط، حتى أقرَّ بجريمته، والحق أن القنصل القتيل كان قد ساهم في تلك النهاية المأساوية التي انتهى إليها. فقد كان القاتل تحت حمايته، فكان يستغله في مآربه الشخصية. ولقد بالغ في التنكيل بالرجل، حتى لقد خرج به عن رشده، وحتى كانت تلك الجريمة التي تخلص بها المعذَّب من نيْر المعذِّب. ونحن نقف على هذه القصة المؤلمة نفسها في جميع أعمال العنف التي تستهدف الأوروپيين، مسلطة ضوءاً غاية في الإيلام، على تصرفات كثير من المسيحيين في المغرب.
وأما المدافع التي كان يتعيَّن علينا حملها إلى مدينة طنجة، فقد كانت توجد في الحصون البرتغالية في المدينة، فضلاً عن كثير من العتاد الحربي. ولقد تطلب تجميع قطع المدافع بعض الوقت، وتطلب منا تعليب كل ذلك وتكديسه، وتهييئه ليُنقَل على متن السفينة بضعة أيام.
ولقد اغتنمت الفرصة لأستطلع تلك الحصون من الداخل، وهو أمر كان محظوراً على كل شخص لايحمل إذناً بالدخول.
إنها بنايات ذات مظهر خارجي متين، وكذلك هي تعطي الانطباع من الداخل بالأمن والأمان. والداخل إلى تلك الحصون يدخلها من بوابة حديدية قديمة، فيجد نفسه في ردهات ضيقة وعالية، لازالت مغطاة، وفي حالة جيِّدة، فيما الغرف المتصلة بها قد تهدم قسم منها. وفي الردهات أكوام هائلة من المدافع، والبنادق، وصناديق الذخيرة. وسبيل شديد الوعورة، لكن سالك، تغطيه أعشاب برية، لكن معتنى به شديد العناية، يقود صعداً إلى الأسوار. وفوق أسطح الردهات يوجد ركام هائل من المدافع التي يعود صنعها إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر. وتنتصب هذه المدافع فوق أعمدة خشبية متآكلة منذ وقت طويل، وهي لازالت رابضة في المكان الذي تُرِكتْ فيه.
ولقد نبتت بعض الأشجار في الحوائط والخرائب، فكانت تسهم، في بطء، لكن في بحتمية، في انهيار هذه الحصون. ويجد الداخل إلى هذه الحصون تحت الردهات المغطاة التي ذكرناها آنفاً، مطمورات هائلة، أقدِّر عمقها بما بين 10 أمتار و15 متراً. ويُقال إن البرتغاليين كانوا يتخذون هذه المطمورات سجوناً، كما كانوا يتخذونها حمى يلوذ بها سكان المدينة. وأما في الوقت الراهن، فقد أصبحت هذه المطمورات مخازن هائلة للذخيرة. ولاينفذ الهواء ولا الضوء إلى هذه الحصون إلا من سراديب المداخن، وليس على الجدران أية كتابة يمكن أن تدلنا على عمر هذه البنايات أو أصلها.
ثم كان انطلاقنا باتجاه مدينة طنجة في 20 من الشهر نفسه. فلما بلغتُها تلقيت دعوة الطريس إليَّ لأمضي إليه في الوزارة. ولم يلق إليَّ بغير أمر واحد : أن على سفينة «سداة التركي» أن تكون على استعداد للتوجه ليلاً، إلى عجرود؛ حيث سيتعيَّن علينا أن نحمل إلى هناك بعض الرسائل، وننتظر الأمر من مدينة وجدة. ولقد استقل السفينة نحو 50 من الجنود ونحو 20 من جنود المدفعية. ولقد أنزلناهم جميعاً في عجرود؛ حيث لبثوا هناك. وبقينا ننتظر الأمر من وجدة، لنحمل المدافع على متن السفينة، ونقصد مار تشيكا، حيث سنُنْزِل هناك الجنود الخمسين، ونموِّه على إنزالنا للمدافع.
ولقد بدا واضحاً منذ البداية، صعوبة ذلك الإنزال، فقد رفض الجنود أن يطأوا أرض العدو. وكان يبدو على المقاتلين أنهم تنقصهم الجسارة، كما كان القائدان، وهما اللذان تلقيا تكوينهما، من دون نجاح، في إيطاليا، وكان يقع عليهما قيادة سيفنتي الإنزال، كان هذان القائدان جبانين خوافَّين، فكانا يرتجفان فزعاً منذ أن خرجنا من مدينة طنجة.
وكان البحر عاصفاً جداً، مما أجبرنا على أن نعود أعقابنا إلى مدينة طنجة. ولم يتأت لنا أن نبلغ إلى عجرود إلا في 31 يناير. فلما وطئت قدمي تلك الناحية، أخبرني القايد أن السيد ساي وزمرته كلها قد تحولوا، فجأة، إلى جانب بوحمارة، فأصبحوا من أشد أنصاره، يستميتون جميعاً في مده بأقوى دعم وأنجعه.
لقد بدا لي تحوُّل السيد ساي إلى جانب بوحمارة، في بادئ الأمر، أمراً يصعب تصديقه. لكن لم ألبث أن تثبتْت من هذا الأمر من الفرنسيين في پور ساي. قد حكى لي أحد المستخدمين في مرسى ساي، كان يعمل بستانياً لدى السيد ساي، أن اثنين من أصدقاء السيد ساي كانا ينزلان، في تلك الأيام، ضيفين في مار تشيكا. وكان ساي، نفسه، في فرنسا ليجمع الأموال لبوحمارة. ثم شاءت الظروف، في نهاية الأمر، أن يجنح يخت السيد ساي، المدعو «آيْدرْ»، منذ أيام، إلى الصخور قبالة المركز التجاري، ويغرق بما حمل على متنه من الأشخاص والأموال. وقد كان يخت «آيدر» يقوم بأعمال النقل بين مرسى ساي ومار تشيكا. ولقد أفاد ساي، في خطاب له، أنه كان على علم بنيتنا، نحن الألمان، في مهاجمة مركزه التجاري، وقد بث ذلك خوفاً عظيماً في نفوس المستخدمين في ذلك المركز ولقد حاول ساي أن يستدرجني في الحديث، وحاصرني بأسئلته البارعة، لينتزع مني بعض الأسرار، فما ظفر مني بغير إجابات هروبية غامضة. ولقد علِمت من الرجل، في نهاية محادثتنا، بنصب عنابر كبيرة في مار تشيكا، لتخزين الكميات الكبيرة من السلع والمواد الغذائية.
أعطاني السيد زالوڤكي مزيداً من التفاصيل في شأن هذه القضية. ولقد كان، بحكم جنسيته الألمانية، يثق في ما يسمع من الأهالي، وكان يأخذ الكثير من أفواههم. وقدَّم لي الرواية التالية في شأن قضية مار تشيكا :
كان للسيد ساي ابن متبنَّى، يُسمى بورمانسي. وكان شاباً غريب الأطوار، ذا ميرل فوضوية. وقد كان على اتصال مع بوحمارة، منذ وقت طويل. وكان كثير السفر إلى سلوان ومار تشيكا. ولقد أفلح في إقناع السيد ساي بمرافقته في إحدى سفراته تلك. ولقد انتهى الأمر بساي بالتوجُّه، في مطلع شهر يناير، إلى تلك الناحية على متن يخت «آيدر»، ثم عاد، فإذا هو مفعم النفس حماساً شديداً مما رأى من ذلك البلد. فلقد تبين له، فور ذلك، أن من اليسير إنشاء ميناء في تلك المنطقة. ثم كانت للرجلين مقابلة مع بوحمارة لمدة ساعتيْن. وقد ظل بوحمارة، طيلة تلك المقابلة، ممسكاً مسدساً في كل يد، وكان فوق الطاولة بينهم دزينة من المسدسات. وقد جلس أمامه ساي ورجل فرنسي آخر، راكعين، مقوسي الظهرين، في احترام بالغ للروغي. ولقد طالب بوحمارة الرجلين بمليون فرنك، تؤدى له عيناً، ليتنازل لساي عن الميناء في مار تشيكا، كما طالبهما، علاوة على ذلك، بنحو 15000 بندقية. ولقد أعطى بوحمارة، في الوقت نفسه، وعداً لساي، إذا أصبح ملكاً على المغرب، أن يمنحه القسم من الأرض الممتد من مدينة مليلية حتى الريف، فضلاً عن خلفية البلد من الجبال القريبة. ولقد لبث ساي هناك مدة 10 أيام، وقد عقد عزمه على أن يخترق لسان الأرض الفاصل بين البحر والقناة الداخلية، ليجعل من مار تشيكا ميناء طبيعياً وآمناً. كما كان يبغي أن ينشئ في أقصى تلك الناحية، مدينة تسمى «المحمدية»، تكون تتركز فيها التجارة كلها، مع المناطق الداخلية من البلاد.
وفور عودة ساي إلى منطقته، إذا هو يتوجه إلى فرنسا، ليجمع الأموال لبوحمارة. فيما غادر بورمانسي على متن ذلك اليخت إلى مار تشيكا. ولقد حان من هذا الشاب الحالم، عند مغادرته لتلك الناحية، مثال على ما هو معهود فيه من الطيش؛ فقد رفع فوق يخت «آيدر» العلمَ الأخضر لبوحمارة، بدلاً من العلم الفرنسي، وهو لا يزال، بعد، في المياه الفرنسية. ولقد دهش لذلك رجال السلطان في قصبة السعيدية. فلما جنحت سفينته، في تلك الليلة نفسها، جنوحها ذاك الذي تحدثنا عنه، رأوا في ذلك عقاباً من الله للفرنسين على ما بدر منهم من وقاحة وطيش! ولقد بذل بورمانسي وديبلر، «قائد الأركان الحربية» الفرنسي في جيش بوحمارة، كل ما في وسعهما من أجل دفع بوحمارة إلى مهاجمة قصبة السعيدية، لكن عبثاً حاولاً. ولقد بدأت تأخذ بوحمارة الريبة والحذر من رجاله الذين أخذوا يستهجنون علاقات قائدهم مع الفرنسيين، كما يستهجنون بيعه الأرض المغربية لهم.
تلك كانت الرواية التي قصها عليَّ زالوڤسكي. ولقد وجدتها رواية من الأهمية البالغة؛ بحيث لم أتمالك نفسي من محاورة موظفي السلطان، يوم 1 فبراير، في قصبة السعيدية في شأنها.
وكان القايد علال، والأمين بن يعقوب، والقايد محمدي، من فرخانة، يتناولون طعام الفطور، في كوخ ذي سقف خشبي، عند مدخل القصبة.
فلما جئتهم رفقة ترجماني وجدتهم لتذون بقضم فطائر تقليدية، قُليَتْ في زيت زنِخة. ثم مسحوا أيديهم في طرف قماش شديد القذارة. وعندئذ بدأنا محادثتنا. ولقد وصل زالوڤسكي أثناء ذلك، والتحق بنا.
أفضينا إلى الرجال الثلاثة بكل ما تكوَّن لدينا من معلومات عن علاقات ساي مع بوحمارة، وعن نوايا هذا الأخير في مار تشيكا. وأثرت انتباههم، بخاصة، إلى الخطر الجسيم الذي يتهدد جنود السلطان في حالة استلام بوحمارة لتلك الأموال، وتلك الكمية العظيمة من البنادق الفرنسية. ولم أتمالك نفسي من أن أبدي لهم رأيي الخاص في هذا الشأن : فقد كنت أجد أسلوب ساي أسلوباً غاية في الخسة والانحطاط، وكنت أرى أن من غير المعقول أن تساند الحكومة الفرنسية هذا الرجل السفيه وتدعم أعماله الموجهة ضد السلطان.
ولقد اقترحت عليهم، في الأخير، أن أخبر العجوز الطريس بجميع هذه الأمور، بواسطة مبعوث خاص.
أبدى الموظفون الثلاثة الكبار تأييدهم لمقترحاتي، لكن لم يكن في مقدورهم أن يفعلوا شيئاً من تلقاء أنفسهم. غير أنهم اتفقوا، في المقابل، على أن يخبروا، في أول الأمر، القائدَ الأعلى لمدينة وجدة؛ سي عبد الرحمان بن عبد الصدوق، ويتركوا له أن يقرر ما يشاء.
هكذا انقضت أيام أخرى، في جمود وانتظار.
فلما كنا نقترب بسفينة «التركي» من الساحل، في 3 فبراير، في طلب المؤن، إذْ بلغ إلى علمنا خبر مغادرة جنود السلطان لمدينة وجدة، وأنهم يعسكرون، في تلك الأثناء، فوق نهر ملوية. كما كان يُنتظَر وصول سي عبد الرحمان، في وقت ريب جداً، إلى قصبة السعيدية.
وأثناء ذلك، كانت السفينة البخارية الفرنسية «لو زينيث» تبحر، أمام أنظارنا، ما بين مرسى ساي ومار تشيكا، من دون أن يكون في مقدورنا أن نحرك ساكناً، إذْ لم نكن قد تلقينا، بعد، الأمر بالتدخل!
وفي 4 فبراير اضطرَّنا النقص في المؤن وسوء أحوال الجو إلى مغادرة مرسانا في عجرود، والبحث عن حمى في الجزر الجعفرية. ولقد زرت عامل تلك الجزر، وتحادثنا طويلاً في الدسائس الجديدة التي يحوكها الفرنسيون في مار تشيكا. فعلِمت منه أن الساحل الممتد من ملوية حتى مدينة مليلية يدخل كله، في منطقة المصالح الإسپانية، وأن الإسپانيين سيحرصون على التخلص، في أقرب وقت ممكن، من هذه المنافسة المكلِّفة.
أصبحنا، بداية من تلك اللحظة، كثيراً ما ننزل هذه الجزر. إنها ثلاث جزر صغيرة، تشكل نصف دائرة، تنفتح من ناحية الجنوب. وتوجد تلك الجزر على بعد ميلين بحريين من القارة الأوروپية، مشكلة ميناء مثالياً، وهو الميناء الوحيد الآمن على السواحل المغربية الممتدة من الحدود الجزائرية حتى مدينة طرفاية، في المحيط الأطلسي.
إنها جزر كثيرة الصخور، يندر فيها الشجر والعشب، ولا تتعدى ساكنه هذه الجزر 500 فرد، ينتمي 49 منهم إلى أسرة واحدة.
والجد السعيد هو العجوز فرانسيسكو أوزس، أكبر تجار تلك الناحية، وهو يدير محلاً لبيع الكحول، كما يعمل موظفاً في المعزل الصحي.
وقد كان يسكن هذه الناحية، من قبل، 50 من الجنود، يقومون على حراسة عدد كبير من المجرمين، فقد كانت إسپانيا تتخذ تلك الجزر سجناً للدولة. وأما اليوم، فقد تم نقل أولئك المجرمين إلى مدينة سبتة، إذْ لزِم توسيع الميناء، ويُحتاج في ذلك، إلى مكان للعمال، لكننا يمكننا أن نتساءل إن كان ذلك البناء يبرر المصاريف التي صُرِفت فيه، إذ كانت التجارة مع القارة الأوروپية قد تقلصت كثيراً يومئذ، ولم تعد السفن ترسو في هذه الجزر إلا للاحتماء من سوء أحوال الجو. لقد كانت الجزر الجعفرية من القحط والمحالة بحيث كان يلزم أن تُحمَل إليها المواد الغذائية، وحتى الماء الصالح للشرب. لكن كان في الإمكان التزود منها بالمؤونة، بأسعار زهيدة.
وكانت الطرادة الفرنسية «لالاند» تحتمي، في تلك الأثناء مثلنا، في تلك الجزر.
وكان الترجمان العامل لدى السفارة الفرنسية في مدينة طنجة، المدعو بن غبريط، يوجد، بصفة استثنائية، على متن الطرادة الفرنسية. ولقد حاول بن غبريط، عند نزوله عن متن السفينة، أرضاً، أن يستدرج رجالنا في الحديث، بمحاصرتهم بأسئلته الحاذقة، لمعرفة المزيد عن منطلقنا ووجهتنا، فما ظفِر منهم بشيء ذي بال، إذ لم يكن رجالنا أنفسهم على علم بشيء من ذلك.
كان الجو صعباً قاسياً، وكانت جبال كبدانة وبني يزناسن مكسوة عن بكرة أبيها ثلوجاً، فكانت تزيدنا شعوراً بالبرد، وأمطرت كثيراً طوال النهار، فكنا نحس كتل الماء، حتى وهي تصطدم بقعر السفينة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.