واجهت مجمل حركة اليسار وأحزابها السياسية على الصعيد العالمي انتكاسة شديدة بدأت زاحفة بصورة تدريجية مع الربع الأخير من القرن العشرين وتواصلت مع بداية القرن الحادي والعشرين منزلة خسائر كثيرة وكبيرة في قوى هذه الحركة من الناحيتين الفكرية والسياسية وتراجع شديد في قدرة قوى الحركة في التأثير على الفئات الاجتماعية وخاصة تلك التي تسعى للتعبير عن مصالحها. وكان انهيار الاتحاد السوفييتي ومعه بقية بلدان المنظومة قد دفع بحركة اليسار إلى مزيد من التراجع, إذ أنها كانت بمثابة الزلزال الذي هز الأحزاب الشيوعية في مختلف بلدان العالم بشكل خاص, ولكنه مس أيضاً بقية قوى اليسار في العالم بعطب شديد. يضاف إلى ذلك محاربة النظم والقوى السياسية اليمينية والشوفينية والمتطرفة لقوى اليسار وخاصة في الدول النامية. لم تكن هذه الانتكاسة غير واضحة المعالم لعدد غير قليل من الباحثين والمتابعين لحركة اليسار في العالم, كما لم تكن مفاجئة لهم, إذ كانت مؤشرات ذلك قد برزت بشكل جلي منذ سبعينات القرن العشرين, إذ قدر الكثير منهم أن جموداً فعلياً في التفكير قد حل بأولئك الذين تبنوا الماركسية-اللينينية وبالذين ساهموا في تشويه النظرية الماركسية في الممارسة العملية ليس في الدول الاشتراكية حسب, بل وفي جميع أو غالبية الأحزاب الشيوعية العاملة في مختلف دول العالم من جهة, نشأ عنها أزمة فكرية حقيقة تلف الحركة الشيوعية العالمية وأحزابها السياسية وبقية مكونات الحركة اليسارية العالمية من جهة أخرى, وعجز قوى هذه الحركة عن إدراك حقيقة وطبيعة هذه الأزمة وأبعادها والعواقب المترتبة عن استمرارها وغياب الاستعداد الفعلي على الاعتراف بوجودها, وما نجم عن ذلك من ابتعاد فعلي عن مواجهتها ومعالجتها من جهة ثالثة, واستفادة العالم الرأسمالي من كل ذلك وسعيه إلى تعميق الهوة وتوسيعها ونشر الحقائق عما كان يجري في بلدان المنظومة الاشتراكية من أخطاء ونواقص وفساد وبيروقراطية وسوء إدارة وتنظيم وتراجع شديد في العملية الاقتصادية وإهمال مصالح المجتمع من جهة رابعة. لقد أدت الانتكاسة إلى عواقب بالغة الضرر ليس بأعضاء تلك الأحزاب والمؤيدين لها نتيجة الإحباط الشديد فحسب, بل لأن سمعة الشيوعية والاشتراكية وحركة اليسار قد تعرضت إلى ضرر بالغ في أوساط واسعة من القوى الشعبية في مختلف بقاع العالم والتي كانت تتوقع نتائج أخرى غير التي حدثت فعلاً. من هنا يتبين بأن حركة اليسار تواجه ثلاث مشكلات جوهرية, وهي: ** إنها لا تزال تعاني من أزمتها الفكرية والتي تتجلى في السياسة بشكل خاص والتي لم تعالج إلى الآن, رغم اتخاذ جملة من الإجراءات التي لم ترق إلى مستوى المعالجة الجذرية والضرورية. وإنها لم تستطع إلى الآن إعادة علاقاتها الطبيعة مع فئات المجتمع. ** وإن قوى اليسار في العالم والقوى المساندة لها تعاني من إحباط شديد بسبب سياسات الهروب إلى أمام ومحاولة القفز فوق المراحل من الناحيتين الفكرية والسياسية, إضافة إلى جماهير واسعة أخرى لم تجد ما يساعدها على استعادة ثقتها بحركة وقوى اليسار والنهوض من كبوتها بسياسات أكثر عقلانية وتعبئة لفئات المجتمع. ** وأن هناك قوى إيديولوجية أخرى مناهضة لحركة اليسار لا تزال تسعى إلى تعميق التراجع في الحركة اليسارية وإلى تشديد الإحباط واستثمار الخشية من التجديد لدى قوى الحركة اليسارية على الصعيد العالمي. والغريب أن الأزمة الأخيرة التي شملت العالم الرأسمالي كله, ومعه الدول النامية, والتي كانت أعتا وأقسى من الأزمة العامة التي رافقت الرأسمالية في أعوام 1929-1933, لم تستطع أن تحرك قوى اليسار وتنعشها وتنشطها لمواجهة القوى الرأسمالية على الصعيد العالمي والإقليمي والمحلي. في مقابل هذا الواقع تواجه شعوب العالم, مع غياب الدول الاشتراكية وضعف الأحزاب الشيوعية ومجمل حركة اليسار, إصراراً غريباً من الدول الرأسمالية المتطورة على السير: ** في طريق المزيد من مصادرة المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحققت لشعوب الدول الرأسمالية في فترة الصراع بين الشرق والغرب وتعميق الاستغلال الذي تتعرض له شعوبها وخاصة القوى المنتجة البشرية, بمن فيهم القوى المثقفة. ** غياب الاستعداد لدى القوى الرأسمالية على المساومة التي مارستها قبل ذاك مع الطبقة العاملة ومع الفئات المثقفة, بل تحاول تشديد الاستغلال وتحقيق أقصى الأرباح على حساب العمل الأجير, سواء أكان جسدياً أم فكرياً. ** تراجع كبير في مستوى الديمقراطية في الدول الرأسمالية المتقدمة, إذ أن الديمقراطية في هذه الدول تعاني اليوم من أزمة فعلية حادة وتراجع في مصداقية الحياة السياسية والنخب السياسية والعودة إلى استخدام القوة في مواجهة الشعوب النامية أو طبقتها العاملة. ** ونتيجة لكل ذلك تبرز في واقع الحال فجوة متسعة بين الأغنياء والفقراء على الصعيد العالمي وعلى صعيد كل دولة أولاً, وتفاقم حجم البطالة في جميع دول العالم دون استثناء ثانياً, وتزايد عدد الأفراد الذي يحتاجون إلى مساعدة الدولة للحصول على الحد الأدنى من العيش, مع تزايد عدد الفقراء والمعوزين وتزايد عدد الأطفال الذين يعانون من فقر عائلاتهم ثالثاً. ** كما تتفاقم حالات الفساد المالي في غالبية دول العالم بدءاً من الدولة المتقدمة ومروراً ببقية دول العالم تقريباً مقترنة بتزايد عدد ودور وتأثير قوى الجريمة المنظمة في العالم. ** ويشهد العالم حالة شبيهة بالحرب الباردة حيث يزداد سباق التسلح بين دول مناطق عدة في العالم وعلى الصعيد الإقليمي والدولي, إضافة إلى تفاقم دور قوى الإرهاب التي تبني وجودها وتعزز دورها وتأثيرها من حقيقة انتشار الفقر والجهل والمرض في حياة ومعيشة نسبة عالية من شعوب الدول النامية, وخاصة الدول العربية والإسلامية, رغم غنى الكثير منها. وبذلك يزداد الاستعداد لممارسة العنف والقوة والسلاح في حل النزاعات الداخلية والإقليمية وفي انتشار التطرف الديني والمذهبي والسياسي وتزايد عمليات الإرهاب الدولي. إن هذه الظواهر السلبية ستقود دون أدنى ريب إلى النتيجة الطبيعية, إلى تفاقم المشكلات والتناقضات وتنامي الصراعات الطبقية السياسية وتحولها إلى نزاعات سياسية ما لم تعالج جدياً. وكل المؤشرات تؤكد بأن الدول الرأسمالية الأكثر تطوراً غير مستعدة للإقرار بأسباب كل ذلك وبالتالي فهي غير مستعدة لمعالجتها. ولا بد لنا هنا من تأكيد حقيقة أساسية حاول البعض تشويهها ودفع تفكير الناس باتجاه خاطئ, أي باتجاه الحديث عن صراع الثقافات والأديان والمذاهب بعيداً عن حقيقة الصراع الطبقي الذي كان وسيبقى في العالم الرأسمالي فاعلاً ومحركاً للنضال. وكان صموئيل هنتنكتون الممثل الفعلي للجماعات التي تتحدث عن صراع الحضارات وخاصة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية. إن هذا الواقع يفترض فيه أن يحرك قوى اليسار لتبني مطالب الحركات الشعبية وصياغة أهدافها بصورة صحيحة وبعيداً عن الأحلام غير الواقعية والأوهام, أي الاستناد إلى أسس واقعية وعملية وموضوعية لقيادة النضال من أجل مصالح الغالبية العظمى من شعوب العالم. حين نتابع حركة اليسار على الصعيد العالمي نجد أنها وخلال الأعوام المنصرمة حققت بعض النجاح في بعض دول أمريكا اللاتينية, وهي تحاول البناء على ذلك لتوسيع قدراتها وتحسينها والدفع بها إلى الأمام, ولكنها لا تزال دون المستوى المطلوب الذي كانت عليه في فترات سابقة. وهي وأن تحركت باتجاه معالجة الأزمة, ولكنها لا تزال فيها. إن القاعدة الاجتماعية لقوى اليسار في العالم كبيرة جداً وتشكل ما يقرب من 80% من مجموع سكان المعمورة, ولكنها نسبة عالية منها لا تساهم في عملية تغيير هذا العالم لأنها لا تزال بعيدة عن المسرح السياسي والاجتماعي, ونسبة عالية منها بعيدة عن إدراك عمق الأزمة التي تعيش فيها والمحن التي تواجهها نتيجة تأثير الفكر الديني التخديري البالغ الضرر عليها والتطلع لحياة أخرى هانئة في العالم الآخر, فمن يتعذب في دنياه يعيش مرفهاً في آخرته!! وليس هناك من يريح من هذا التثقيف غير الأغنياء والميسورين والمستغلين والمتحكمين بالاقتصاد العالمي والإقليمي والمحلي. ولهذا لا بد من العمل مع هذه القاعدة الاجتماعية الواسعة وتنشيط دور المثقفات والمثقفين ليزيدوا من اهتمامهم في هذه العملية المعقدة والطويلة والصبورة ولكن التي يفترض أن تكون كثيفة ودءوبة ومتنامية. إن النظريات اليسارية التي أنتجتها المجتمعات المختلفة في العالم والتي تبلورت في كتابات الكثير من قادة الفكر اليساري الكلاسيكي بمختلف مدارسهم, ومنها النظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي والمادي التاريخي, يفترض فيها أن تتطور وأن تلتصق بالواقع المعاش وأن تستلهم منه ومن تجاربها المنصرمة أهدافها الجديدة وسياساتها الواقعية وشعاراتها الآنية بعيداً عن التحليق في فضاءات وردية دون القدرة في الوصول إليها في المدى المنظور. إن قوى الاستغلال في العالم الرأسمالي المتقدم لا تزال متوحشة في رغبتها الجامحة لاستغلال شعوبها وشعوب الدول النامية, وهي التي تتجلى في مستوى الأرباح التي تحققها سنوياً من خلال العمليات الإنتاجية أو المضاربة في الأسواق المالية أو نتيجة احتكار أسواق وسلع بعينها, بما في ذلك براءات الاختراع والتقنيات الحديثة..الخ. وهي التي تتسبب في المزيد من التناقضات والصراعات والنزاعات على الصعد المحلية والإقليمية والعالمية, وهي التي تخلق الرضية الصالحة لعمل قوى اليسار في جميع أرجاء المعمورة. ولكن على الأخيرة تقع مسؤولية إيجاد السبل والوسائل والأدوات والخطاب السياسي المناسبة لتحريك النضال من اجل مصالح تلك القاعدة الاجتماعية الواسعة التي لا تشمل العمال أو الفلاحين فحسب, بل الكسبة والحرفيين والمثقفين والعاطلين عن العمل والمشردين, وفي الدول النامية تشمل أيضاً البرجوازيات الوطنية التي تواجه العنت والمحاربة من الرأسمال الأجنبي والفئات المحلية المتحالفة معه. فما العمل؟ محاولة الإجابة عن هذا السؤال ستكون في الحلقة الثانية