يونس مجاهد: مجالس الصحافة وضعت للجمهور وليست تنظيمات بين-مهنية    رغم القطيعة الدبلوماسية.. وفد برلماني مغربي يحل بالجزائر    مخاريق: لا يأتي من بنكيران سوى الشر.. وسينال "العقاب" في الانتخابات    الناظور ضمن خريطة أطول أنبوب غاز في العالم يربط إفريقيا بأوروبا    مواطنون إسبان يشيدون بالمساعدة المقدمة من المغرب إثر انقطاع الكهرباء    البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية بجهة الداخلة    الجامعة الملكية المغربية تكرم المنتخب الوطني النسوي المتوج بكأس الأمم الإفريقية للفوتسال    بسبب اختلالات رياضية.. الجامعة الملكية تصدر قرارات التوقيف والغرامة في حق عدد من المسؤولين    اتفاقية تلاقي السغروشني وحموشي    لبنان يحذر حماس من استخدام أراضيه للقيام بأي أعمال تمس بالأمن القومي    في الجلسة الافتتاحية للمنتدى الدولي الثالث للبرلمانيين الشباب الاشتراكيين والديمقراطيين .. الكاتب الأول إدريس لشكر: الجيل الجديد من البرلمانيين الشباب مطالب بحمل مشعل الحرية والكرامة والتضامن في عالم مضطرب    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    مراكش.. إيقاف شخصين وحجز كمية كبيرة من الأقراص المخدرة من نوع "ريفوتريل"    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    "إغلاق أخضر" في بورصة البيضاء    حقوقيون يسجلون إخفاق الحوار الاجتماعي وينبهون إلى تآكل الحريات النقابية وتنامي القمع    بعد 25 سنة.. شركة "FRS" تُعلن رسمياً توقف نشاطها البحري بين طنجة وطريفة    اللاعب المغربي إلياس أخوماش يشارك في جنازة جدته بتطوان    وقفات الجمعة ال74.. المغاربة يجددون مطالبهم برفع الحصار وإنهاء "الإبادة" في غزة    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    « بين التاريخ والرواية» كتاب جماعي يرصد مسارات أحمد التوفيق    في كلمة حول جبر الأضرار الناجمة عن مآسي العبودية والاتجار في البشر والاستعمار والاستغلال بإفريقيا: آمنة بوعياش تترافع حول «عدالة تعويضية» شاملة ومستدامة    «غزة على الصليب: أخطر حروب الصراع في فلسطين وعليها»    حادثة سير مميتة تنهي حياة سبعيني بالفقيه بن صالح والسائق يفرّ هاربا    العرائش تسجل أعلى نسبة تملك.. وطنجة تتصدر الكراء بجهة الشمال    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    كلية الآداب بالجديدة وطلبتها يكرمون الدكتورة لطيفة الأزرق    عبد الله زريقة.. علامة مضيئة في الشعر المغربي تحتفي به "أنفاس" و"بيت الشعر"    مقاطعة مديري مؤسسات الريادة للعمليات المصيرية يربك مشروع الوزارة في الإصلاح التربوي    سوريا: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي "تصعيد خطير"    سفينة مساعدات لغزة تتعرض لهجوم بمسيرة في المياه الدولية قرب مالطا    نجاح "خامس مهمة نسائية" خارج المحطة الفضائية الدولية    تفاؤل تجاري ينعش أسعار النفط في الأسواق العالمية    رسالة مفتوحة إلى السيد محمد ربيع الخليع رئيس المكتب الوطني للسكك الحديدية    العلاقات التجارية بين المغرب ومصر.. وفد اقتصادي مغربي يزور القاهرة    "الكورفاتشي" تستعد للتنقل إلى مدينة الدار البيضاء لحضور "الكلاسيكو" أمام الوداد    كوريا: الرئيس المؤقت يقدم استقالته لدخول سباق الانتخابات الرئاسية    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    تفاصيل إحداث قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء يوفر أزيد من 20 ألف منصب شغل    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة: المغرب يستهل مشواره بفوز مثير على كينيا    الذهب يتعافى بعد بلوغ أدنى مستوى في أسبوعين    الصين تدرس دعوات أمريكية لاستئناف الحوار بشأن الرسوم الجمركية    كرة القدم.. توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    اللاعب المغربي الذي أبهر العالم بأدائه المجنون … !    احتراق شاحنة على الطريق السيار طنجة المتوسط    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كرة القدم الشمولية.. بصمة سبينوزا؟
نشر في هسبريس يوم 17 - 11 - 2022

علاقة كرة القدم بالفلسفة علاقة لها روابطها، رغم عنصر الغرابة الذي يبدو عند الجمع بينهما. فإذا كانت الفلسفة حسب جيل دولوز تكمن وظيفتها، -إن جاز هذا التعبير- في القدرة على صناعة المفاهيم، أي "صديقة المفاهيم"، فإن كرة القدم لم تعد فقط لعبة "صديقة الجماهير"، بل هي نسق عام تجمع قدرات العقل والجسد، وتصب في تجاوز الخصم بتسجيل الأهداف. بعبارة أوضح، باتت تحشد التصور والفعل، إذا ما استحضرنا هنا فلسفة حانه أرند، وهي القائلة بفكرة "ذكاء القلوب". على هذا النحو، فكرة القدم تقترب من المفهوم الذي قدمه إيمانويل ليفينانس عند تعريفه للفلسفة، باعتبارها الحكمة الجامعة المانعة؛ بمعنى أن فريق كرة القدم كمنظومة مطالب بالأداءAgir ، جمعا بين الذكاء والمهارات البدنية من أجل تجاوز الصعوبات التي تحاصره من طرف الفريق المنافس. وكما يقول جان بول سارتر: "في كرة القدم يصبح كل شيء معقدا بحضور فريق الخصم".
وكرة القدم، كما تُعرفها القواميس هي لعبة جماعية، وتستأثر باهتمام الملايين في العالم، "عشاق أساطير المستديرة". لقد قال عنها الروائي بول أوستر: "هي معركة تجري بين فريقين دون سفك دماء"؛ تسود خلال المباراة الروح الرياضية على حساب العنف، والهدف الأسمى هو إسعاد المتابعين من جمهور الأنصار والمحبين. تبدو، بشكل أو بآخر، كمحاولة لتمثيل الصراع القديم بين المدن اليونانية، أو المصارعة الرومانية، تحركها نزعة تحقيق الذات وفرض السيطرة على الآخر. هكذا أصبحت تختزل أجواء الصراعات القديمة، لكن داخل مستطيل أخضر، في سياق سلمي، رياضي، تحت أعين الحكام المطالبين بتطبيق القانون. وعلى الرغم من الطابع الرياضي للمنافسات، فرمزية الانتصار في التظاهرات الكبرى ككأس العالم لها طعم خاص يمثل بالنسبة للجماهير عبقرية الأمم وذكاء الشعوب. يتجسد هذا الذكاء ليس في الانتصار فقط، بل في الأداء، والسيطرة على الرقعة، وربح النزالات، والالتجاء في وقت الشدة للمراوغات، والخروج من مأزق الحصار بالتسديد كوسيلة لقصف شباك الخصم. بات الواصفون والمحللون الرياضيون يستعملون، عند وصف مجريات أطوارها، مصطلحاتها مستوحاة من لغة المعارك فيكون لها الوقع الشديد على انفعالات الجماهير. وكما يقول الروائي جورج أورويل في روايته (1984): "كرة القدم ما هي إلا امتداد للحروب بدون إطلاق الرصاص"، أي باستحضار الروح الرياضية في خضم الصراعات بين "النجوم"، وبرهانات اقتصادية ورمزية كبرى.
على أي فأساليب اللعب المتبعة لا تنفصل عن ثقافة الأمم والشعوب؛ يمكن تفكيك شيفرة كل دولة ومعرفة تطلعاتها من خلال طريقة لعب منتخبها، والوقوف على أسلوب لعبه وهو يبحث عن إيجاد موقع متقدم بين مدارس كروية مختلفة من بينها المدارس الكروية الأكثر فوزا بكأس العالم. وكما يقول أمبرتو إيكو: "الرياضة هي الإنسان، الرياضة هي المجتمع" (عن موقع جريدة الجريدة الكويتية).
1- الدول الثمانية الفائزة بكأس العالم
تظاهرة كأس العالم في كرة القدم منذ تنظيمها سنة 1930 ل 2018 شهدت تتويج 8 دول فقط وهي بالترتيب: البرازيل (5 مرات)، ألمانيا (4 مرات)، إيطاليا (4 مرات)، الأورغواي (مرتين)، الأرجنتين (مرتين)، فرنسا (مرتين)، إنجلترا (مرة واحدة)، إسبانيا (مرة واحدة). في حين استطاعت دول أخرى أن تلعب النهائيات لكنها لم تفز بالكأس، وفي مقدمة هذه الدول نجد بالترتيب: هولندا (3 مرات)، هنغاريا (مرتين)، تشكوسلوفاكيا (مرتين)، السويد (مرة واحدة)، وكرواتيا (مرة واحدة) من بين 21 كأسا وزعت على دول من القارة العجوز ودول أخرى من العالم الجديد؛ فالقارة الأوروبية لها حصة الأسد (12 تتويجا)، وأمريكا اللاتينية (9 كؤوس)، في حين باقي القارات لم تفز بأي كأس، ولم تستطع الوصول لا للنهائي، ولا لنصف النهاية. ويلاحظ المتابع أن أقصى ما وصلت إليه إفريقيا هو دور الربع النهاية سنة 2002 بالنسبة للسنغال، و2010 بالنسبة لغانا. بينما آسيا لم تتجاوز دور الثمن، مع العلم أن إفريقيا احتضنت مسابقة كأس العالم مرة وحيدة سنة 2010 التي احتضنتها إفريقيا الجنوبية. أما آسيا احتضنتها إلى غاية 2018 لمرتين بتنظيم مشترك بين كوربا الجنوبية واليابان سنة 2002، وروسيا عام 2018. وستجرى للمرة الثالثة بآسيا بدولة قطر ما بين 20 نونبر و18 دجنبر من عام 2022.
وإذا كانت الدول الفائزة لها مقومات متعددة اقتصادية، اجتماعية، وثقافية بغض النظر عن المواهب، فهي تعمل جاهدة من أجل أن تصبح كرة القدم مرآة تعكس نبوغها الشامل في كل الميادين. الفوز بكأس العالم ما هو إلا تتويج لاجتهاد لا يمكن فصله عن مؤشرات النمو الاقتصادي الذي تطلبت من البرازيل الثقة في إمكانيات مواهبها الخارقة. أما ألمانيا فإنجازاتها لها ارتباط قوي بالعقلية الألمانية الحديثة التي تكونت في محيط خاص عرف الثورات الفكرية، والصناعية، والتكنولوجية، رغم مخلفات الحربين العالميتين، وتطلب الأمر من إيطاليا الدفاع بروح تاريخها المجيد كإمبراطورية تقاوم ولا ترضى إلا بالفوز لاسترجاع بريق الماضي (حماية أمجاد الماضي واستلهام روح الأجداد)، ولو في تناوب مع دول الشمال، ودول العالم الجديد. هذا التناوب على كأس العالم يشبه التناوب الذي عرفته الفلسفة بين الانتاجات الخالدة للبحر المتوسط (اليونان)، والفكر الأوروبي الحديث الذي تبنته دول كإنجلترا، وألمانيا، وهولندا. غير أن دول أمريكا اللاتينية أثبتت منذ التنظيم الأول لكأس العالم بالأورغواي سنة 1930 على التميز باللعب بأسلوب خاص أقرب للفن منه للفلسفة، أقرب لرقصة "السامبا"، حسب ما أشار إلى ذلك عدة باحثين في الموضوع من الذين ربطوا بين فنيات المراوغة للاعبين السود وعلاقتها بتجاوز العنف الصادر من طرف اللاعبين البيض في السنوات الأولى لانتشار اللعبة، ولو أن اللعب الاستعراضي عليه أن يراعي الفعالية المطلوبة والتي تمر عبر تسجيل الأهداف وتحقيق الانتصار. وأكدت البرازيل مع بيلي والأرجنتين مع ماردونا، بأن كرة القدم على أعلى مستوى محتاجة للعب الجماعي ولقدرات فردية خارقة، تقوم على نوع من الزعامات للاعبين موهوبين "النجوم". وتشير المصادر هنا إلى أن لعبة كرة القدم دخلت البرازيل رسميا سنة 1894 على إثر عودة الطالب تشارلز وليام ميلر من إنجلترا بعد إتمام دراسته، حاملا كرات، وقانون اللعبة، وآلة النفخ (انظر موقع ويكيبيديا).
وبالمقابل استطاعت بعض الدول أن تجتهد وتطور إمكانياتها الكروية فلعبت النهائيات عدة مرات، لكنها لم تتمكن من الفوز بالكأس كما هو الشأن بالنسبة لهولندا، التي لعبت 3 نهايات، خاصة نهاية 1974 أمام ألمانيا، ونهاية 1978 أمام الأرجنتين، الفترة الزاهية لتطور الكرة الهولندية التي أبدعت خلالها "الكرة الشمولية"، فقلبت أساليب اللعب رأسا على عقب. ويرجع المختصون هذا السبق للدور الفعال الذي لعبه كل من رينوس متشيلز Rinus Michels، عندما كان مشرفا على تدريب فريق الأجاكس خلال السبعينات والذي حصد الكؤوس الأوروبية للفرق البطلة سنوات: 1971، 1972، 1973، فانعكس ذلك على نتائج المنتخب الأول. سيقوم كروف، متأثرا بهذا الأسلوب الذي تكيف معه كلاعب، بنقله لإسبانيا كمدرب وبالضبط للفريق الكاتلاني، برشلونة بين 1988- 1996. يمكن إيجاز خصائص هذا الأسلوب في نهج تبادل الأدوار بين مراكز اللعب، عوض التفريق بين المهام الدفاعية والمهام الهجومية. يصبح اللاعب في ظل هذه المنظومة مطالبا بالجمع بين الدورين الدفاعي والهجومي في الوقت نفسه، فحارس المرمى كذلك يتحول في هذه المنظومة إلى صانع اللعب ومشارك في الهجمة. تتطلب هذه الطريقة تعدد المهارات polyvalence، بالجمع بين القدرات البدنية العالية والفنيات الفريدة. يقول كروف موضحا أسس هذا الأسلوب، في حواراته الصحفية الكثيرة (انظر على سبيل المثال موقع www.sofoot.com): "... الأمر يتعلق في هذه الوضعية بخلق المساحات واستغلالها، وتنظيم اللعب تماما كما يفعل المهندس المعماري". ويضيف كروف منبها: "... فهذه البساطة في اللعب، هي الطريقة الأكثر صعوبة في الوجود، لكنها الأجمل". يجمع هنا كروف، وهو الممارس والحامل لفلسفة الكرة الشمولية، بين أمرين غاية في الأهمية وهما: هندسة اللعب، وقدرات اللاعب الذي من المفروض أن تتوفر فيه مواصفات مهارية ويتمتع بقدرات بدينة خاصة (نفس الموقع).
على الرغم من هذه الثورة في المنهج لم تستطع هولندا الفوز بكأس العالم إلى غاية اليوم، إلا أن الوصول للنهاية ثلاث مرات، في السبعينات وعلى التوالي سنتي 1974 و1978، وبعد ذلك سنة 2010، بالإضافة للتوهج الفريد لفريق أجاكس سنوات السبعينات، جعل هولندا تفرض أسلوبا جديدا في اللعب سرعان ما سينتشر عبر العالم وستحاول بعض المدارس استنباته في مدارسها الكروية ومنها إسبانيا. وشخصيا أعتبر تأصيل الكرة الشمولية التي أبدعها رينوس متشيلز وطورها يوهان كرويف، جزءا لا يتجزأ من فلسفة الباروخ سبينوزا (1632–1677)، فأين تتجلى الشمولية عند الباروخ؟ وهل نجد لفكر الباروخ أثر في أسلوب الكرة الشمولية؟
2- الباروخ والكرة الشمولية
إذا كٌتب للفريق "البرتقالي" أن يطبق أسلوب الكرة الشمولية بعمق استراتيجي، وهي في حقيقة الأمر ثورة على النمطية وعلى الأساليب الروتينية التي اقترنت بالتايلورية (نسبة لفردريك تيلور الذي طور نظرية الإدارة العملية) والفوردية (نسبة لهنري فورد مؤسس شركة فورد)، وسائل تنظيمية سادت خصوصا في النصف الأول للقرن 20، تٌلزم العامل بأداء عمله وفقا لمهام محددة في المكان والزمان، وفق معايير المنصب. أسلوب الكرة الشمولية وضع حدا للتخصص بمعناه الضيق الذي يقتل الإبداع ويخنق الروح الجماعية. اعتبر استلهام الكرة الهولندية للنسق الشمولي سابقة، في وقت كانت جل المدارس إما غارقة في تقديم الفرجة (مدارس أمريكا اللاتينية وعلى رأسها البرازيل)، أو منتصرة للفعالية بالاتجاه رأسا للشباك مباشرة لتسجيل الأهداف (الكرة الإنجليزية والألمانية على وجه الخصوص). إلا أن الكرة الشمولية، ليست وليدة السبعينات، فإرهاصاتها، في نظري تعود لتاريخ الفكر الهولندي نفسه الذي تشبع بالمدارس الفنية والفلسفية وعلى رأسها المساهمات الفريدة للباروخ سبينوزا. يعتبر فكر هذا الفيلسوف مؤسسا لعصر الأنوار، منتصرا للعقل، بحيث عمل على الدعوة لوحدة العقل والجسد مراهنا على الاجتهاد والعطاء للحصول على اللذة القصوى، ففرض منهجه المبني على الرياضيات الهندسية كفكر مؤثر رغم محاربة رجال الدين له وحكام عصره من عائلات الأورنج. إذا لعبت هولندا كفريق لكرة القدم على استغلال المساحات والاستحواذ على الكرة عبر مثلثات ومعينات، وتبادل المركز بين اللاعبين، فإن فكر الباروخ بناه هو الآخر على أسس هندسية، لفك شيفرة التناقضات بين الجسد والفكر التي ولدتها القولة المشهورة لديكارت "أنا أفكر أنا موجود"، فتجاوزها الباروخ بصيغة شمولية، بالجمع بين الجسد والعقل. ستنتقل أفكاره لخارج هولندا لتؤثر بشكل واضح في فلاسفة منهم المدرسة الألمانية وعلى رأسها ليبنز، كانط، نيتشه، هيغل، ماركس، هيدغر، حيث أقر ماركس بتأثره بالباروخ كفيلسوف المؤسس مع هوبز لنظرة التعاقد الاجتماعي بما أن الغاية من الدولة هي تحقيق الحرية، وهذا النسق العام يمكن لمسه في الكرة الشمولية التي تبنت منظومة اللعب على أساس حرية المبادرة، وتبادل الأدوار في إطار المجموعة، وتجاوز الأنماط السائدة التي حولت اللاعبين إلى آلة صماء وعقول جامدة، بالانتقال إلى مستوى آخر من الإدراك، والفهم، والمبادرة. وانتقلت كذلك هذه الفلسفة لفرنسا بحيث نجد آثارها واضحة عند برغسون، لفيناس، وجيل دولوز، هذا الأخير وصف الباروخ ب"أمير الفلاسفة" معترفا بعلو كعبه.
ويبقى التشابه قويا بين المدرسة الهولندية والإسبانية لاعتبارات تاريخية، يمكن الرجوع في هذا الصدد لأصول عائلات الباروخ التي تعود للأندلس، وهنا يمكن استحضار فرار أجداده من بطش محاكم التفتيش بعد سقوط غرناطة 1492م، فهُجروا لهولندا، قادمين إليها من فرنسا ثم البرتغال، بعد معاناة طويلة. الخيط الآخر المفسر لهذه التوليفة الفريدة بين البلاد المنخفضة والأندلس هي تأثر سبينوزا نفسه بكتابات ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد، ابن ميمون، الأفكار التي انتقلت عبر الشرح الخاص التي وضعه ابن رشد من أجل فهم أرسطو. واستمر التأثير في الفترة المعاصرة متبادلا بشكل يعرفه الخاص والعام، على مستوى الكرة بانتقال اللاعب كرويف للعب لفريق برشلونة ثم تدريبه. تنزيل الأسلوب الشمولي ما هو في نظري المتواضع، إلا تنزيل لفلسفة سبينوزا على الأرض في كتلة واحدة: العقل والجسد، الدفاع والهجوم معا، الفرد في خدمة المجموعة. يقول سبينوزا فالغاية هي فك التناقض وتحرير العقل، وتحقيق لذة لا نهاية لها بالسعي للخير وتجنب الشر. بالنسبة لكرة القدم الغاية كذلك هي المثابرة بتبليل القميص، "الكل يهاجم والكل يدافع"، كما يوضح رينوس متشيلز، ويزكيه يوهان كرويف في خطة 3/4/3. يقول سبينوزا، بصيغة أخرى، الهدف هو "تضييق الفجوة بين الطبيعة والنفس البشرية". نجد مثل هذا التشابه في طريقة لعب الفريق "البرتقالي" التي تعتمد على تقريب الخطوط، وإتاحة الفرصة لجميع اللاعبين للمشاركة في صنع الهدف بتحقيق أكبر عدد التمريرات الممكنة بين اللاعبين، وهذا من شأنه أن يربك الخصوم وهو المبدأ الذي صار عليه سبينوزا عند التجائه لحماية أفكاره بإخفاء المعاني الحقيقية باستخدام رموز حسابية وهندسية ومفاهيم صعبة الإدراك بالنسبة لخصومه، وكذلك اللعب الشمولي فهو متعب للفريق المنافس يؤدي لاستنزاف لياقته البدنية والذهنية، فيتم حرمانه من الكرة، وشل حركته.
إذا كانت هولندا رغم هذا الابتكار لم يسبق لها أن فازت بكأس العالم، إلا أنها فازت بقدرتها على نشر منظومة الكرة الشمولية الممتعة تماما مثل ما وقع مع فلسفة الباروخ الذي يعد همزة وصل بين أوروبا النهضة، وأوروبا الحديثة، والداعي لأفكار السعادة، ولا سبيل إليها إلا باستلهام مفهوم الكوناتوس، الدافع المحرك الذي يسخر لحماية الكينونة "persévérer dans l'être". وهكذا عندما تخسر هولندا المقابلة تخرج مرفوعة الرأس لأنها تشتغل بجهد كمجموعة بحس الاستمتاع والإمتاع ونشر الفرح عند جمهورها الواسع، يتحقق الرضا لأن الوسيلة المتبعة للوصول إلى الأهداف مبنية على العقل المستنير والمعرفة، والمثابرة. إن اللعب بالنسبة للمدربين الكبار في عالم المستديرة اليوم (من بينهم بيب غوار ديولا، وأرسين فينغر) يكمن في ركيزتين أساسيتين: الأولى المتعةplaisir ، والركيزة الثانية السعي للكمالperfection ، أي الكمال perfectio والفرح jouissance بالتعبير السبينوزي. بقي على الفريق الهولندي خلال الكؤوس القادمة تعلم مبدأ أخذ الحيطة والحذر من الخصوم، كما فعل الفيلسوف الباروخ عند تعرضه للهجوم فقام بحجب المعاني عن الخصوم، فترك المعطف الممزق شاهدا على ما تعرض إليه، بل ظل الشعار الذي يرافقه؛ معطف ممزق، وفكر منير، وبعض الكلمات باللاتينية إلى جانب وردة تقول: كن حذرا (CAUTE). يؤكد كروف قائلا: "كرة القدم، بالنسبة لي، هي عاطفة. أنا لست موجودًا لمنع الخصم من اللعب، بل على العكس لا أريد أن أشعر بالملل على مقاعد البدلاء. كمدرب، أريد أن أستمتع وأسعى لتقديم كرة قدم مثالية" (الموقع السابق).
خلاصة القول
المدرسة الهولندية قادرة على البحث عن عمق منظومتها بالعودة للفن التشكيلي كذلك لاستلهام الدروس بنهج قناعة راسخة عند مثل هذه الشعوب: الإشباع والتجاوز. تؤمن مثل هذه الدول بالنقد الذاتي وتثق في مفكريها وتستفيد من أفكارهم لتطوير قدراتها، يقول المفكر إدغار موران خلال حوار أجرته معه ARTE يومه 8 يوليوز 2021 على هامش صدور كتابه "دروس قرن من الحياة": "... قصيدة الحياة قد تأتي عند متابعة مقابلة في كرة القدم". هذا الربط بين الشعر وكرة القدم قد يهم الكرة العربية اليوم وهي تواجه الكبار؟
إن الأهم في كأس العالم ليس هو الأنا، بل استحضار الآخر، ليس كخصم، بل كطرف تُحقق معه الذات وجودها، بعبارة واضحة فتواجد الآخر ضروري وحيوي، كما يقول ليفيناس في مؤلفه (الإتيقا واللامتناهي): "الآخر ها هنا دائما، يجعلني أتساءل عن وجهه". وعليه فتظاهرة كأس العالم بصيغة الجمع هي "عوالم" pluriel، مما يستدعي خوض المباريات، أو متابعتها، حضوريا، أو عن بعد، كتجربة إنسانية فريدة، غنية بالدروس والعبر. في هذا الإطار تسمح المباريات بالحوار بين الفريق (الأنا) والفريق (الآخر) في سجال تصبح فيه الإتيقا المسؤولة عن الآخر، كما نستشف من فلسفة سبينوزا ومن فكر ليفيناس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.