لا أقدم هذه الورقة من زاوية قانونية صرفة، ولا حتى من زاوية مقارنة بين الأنظمة أو النماذج التشريعية، وإن كانت هذه الأبعاد حاضرة بالضرورة، من خلال التوظيف الدقيق والمفصل لمنطوق المحكمة الدستورية ولغتها التفسيرية. إن هذه القراءة هي محاولة للاقتراب من المادة 17 بمنهج مختلف؛ قراءة لا تنطلق فقط من المقتضى القانوني ذاته، بل من دلالاته، ورموزه، وتوتراته الداخلية والخارجية. لقد حلّقت بالمادة 17 بعيدًا عن النص كأداة تقنية، لأستدرج إلى فضاء التحليل مفكرين من عيار خاص، مثل رولان بارت وميشال فوكو وجاك دريدا، حيث بدا لي الرجوع إلى أطروحاتهم أداة تعمّق المعنى وتضيء ما هو خلف ظاهر اللغة القانونية. لقد وجدت في فكرهم ما يُمكّن من مساءلة الخلفيات اللغوية والرمزية والدلالية التي تتحكم في إنتاج نص قانوني مثل المادة 17، بعيدًا عن الحياد الظاهري الذي يلبسه الخطاب التشريعي عادة. تُعد اللغة القانونية من أكثر أشكال الخطاب تنظيماً وتأثيراً في البنية الرمزية للمجتمع، حيث تتجاوز وظيفتها الإبلاغية لتؤدي أدواراً سلطوية وشرعية في إنتاج المعنى. ولعل أبرز تجلٍّ لهذا البعد يتبدى في التوتر بين النصوص القانونية العادية والنصوص الدستورية، حينما تتقاطع مفاهيم من قبيل « النظام العام »، و »الأمن القضائي »، و »سلطة القضاء ». في هذا السياق، تبرز المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية كنموذج إشكالي كثيف الدلالة، إذ منحت النيابة العامة صلاحية الطعن في أحكام قضائية حائزة لقوة الشيء المقضي به بدعوى مخالفتها للنظام العام، ما أثار جدلاً واسعاً على المستويين القانوني والسياسي. وقد جاءت مبادرة رئيس مجلس النواب بإحالة هذا النص على المحكمة الدستورية في سابقة نوعية ، عاكسة وعياً مؤسساتياً عميقاً بأن المشروع المعروض، وعلى الرغم من إقراره تشريعياً، ما زال يفتقر إلى رؤية عليا تتمثل في القراءة الدستورية التي تتجاوز النقاشات القانونية والإجرائية إلى مساءلة مشروعية النص من زاوية احترام المبادئ الدستورية الكبرى. أولاً: القانون كخطاب – الإطار النظري الدلالي – رولان بارت: القانون ك »أسطورة سلطوية » يرى رولان بارت أن الخطاب الذي يبدو « محايدًا » أو « طبيعيًا » في ظاهره، غالبًا ما يكون مشبعًا بمضامين سلطوية خفية. في هذا السياق، يظهر تدخل النيابة العامة بموجب المادة 17 كفعل محايد لحماية النظام العام، لكنه في العمق يعيد ترتيب توزيع السلطة القضائية، ويفرض حضورًا مؤسساتيًا فوقيًا، غير ظاهر، على قرارات حازت قوة الشيء المقضي به. وهكذا تتحول المادة إلى ما يسميه بارت « أسطورة قانونية »، أي إلى خطاب يُلبس السلطة لبوس الحياد. – *جاك دريدا: غموض « النظام العام » كتأجيل للمعنى:* أما جاك دريدا، فيسلط الضوء على أن اللغة القانونية ليست دائمًا محكمة، وأن هناك دائمًا مسافة بين الدال والمدلول. فمصطلح « النظام العام » في المادة 17 لا يحيل على معنى محدد وثابت، بل يبقى معلقًا، خاضعًا للتأويل والتقدير. وهذا ما يجعل المعنى القانوني في هذه المادة غير مكتمل، ومفتوحًا على التأويلات المتعددة، وهو ما يُضعف الاستقرار القانوني ويجعل القاعدة القانونية عُرضة لإعادة التفسير من داخل السلطة القضائية ذاتها، بدل أن تكون ضامنة له. *ثانياً: التحليل الدلالي للمادة 17* 1. غموض الدوال القانونية تنص المادة على أنه: « يمكن للنيابة العامة المختصة، وإن لم تكن طرفا في الدعوى، ودون التقيد بآجال الطعن… أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام… » يُلاحظ أن دوالاً مركزية مثل « النظام العام »، « يمكن »، « طلب التصريح بالبطلان »، كلها علامات ذات طابع تقديري وغير مضبوط، مما يجعل المعنى القانوني غير مكتمل، ويحوّل سلطة النيابة العامة إلى سلطة رمزية ذات طابع فوقي. 2. النيابة العامة كفاعل مزدوج الهوية تظهر النيابة العامة هنا بوصفها « ذاتاً قضائية » خارج منطق الخصومة، مما يعيد إنتاج حضورها ك »شاهد مراقب » فوق العدالة. دلاليًا، يشكل هذا تحويلاً لبنية السلطة: فالقاضي لم يعد هو المنتج الحصري للمعنى القضائي، بل ينازعه فاعل آخر في هذه السلطة التأويلية. 3. النظام العام: دال فارغ أم آلية ضبط اجتماعي؟ عدم تعريف النظام العام في المادة يسمح بتعدده وتأويله بناءً على السياقات والسلطة المؤولة. إنه « دال فارغ » بتعبير إرنستو لاكلاو، يتسع لكل مضمون مرغوب فيه، مما يجعله أداة لإعادة رسم حدود الشرعية القضائية، ويُفرغ مبدأ « الأمن القضائي » من معناه العملي. – ثالثاً: قرار المحكمة الدستورية كفعل دلالي مضاد جاء قرار المحكمة ليُعيد ضبط شبكة الدلالة القانونية، ويقيد سلطة النيابة العامة بحدود الدستور. ففي حيثياته، استند القرار إلى: الفصل 6 من الدستور: « القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة ». الفصل 117: « يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات ». الفصل 126: « الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع ». من منظور دلالي، تمثل هذه الفصول « ميتا-نصوص » تعلو على النص القانوني العادي، وتفرض عليه معنى منضبطاً يحول دون فوضى التأويل. قرار المحكمة ليس فقط آلية رقابية، بل هو أيضاً فعل تأويلي مضاد، يسعى لإعادة إنتاج المعنى القانوني في إطار منظومة رمزية ثابتة. من خلال المادة 17، تتحول النيابة العامة إلى فاعل دلالي يمارس سلطة تتجاوز وظيفتها الاعتيادية، وتعيد إنتاج المعنى القضائي عبر مراقبة لاحقة للأحكام القضائية. وهو ما يُهدد مبدأ الأمن القضائي، ويخلق عدم وضوح في الحدود الفاصلة بين سلطة الاتهام وسلطة الفصل القضائي. خاتمة تُبرز المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية نموذجاً مكثفاً للتوتر بين القانون كأداة لتنظيم الحقوق، والقانون كوسيلة لإعادة إنتاج السلطة. من منظور دلالي، فإن الغموض الذي يكتنف مفاهيم « النظام العام » و »سلطة النيابة العامة » يؤدي إلى خلخلة المعنى القضائي واستهداف مبدأ الأمن القضائي، الذي هو شرط دستوري للاستقرار والعدالة.