لم يكن أمس الاثنين يومًا عاديًا في بلد الأرز. بدا كما لو أن لبنان نفسه يمشي على رؤوس أصابعه، يتلمّس طريقه في العتمة نحو نعش لا يليق به إلا الصمت. الصمت الذي يشبه صوت فيروز حين لا تغنّي، ووجهها حين لا تبكي، وجلستها الطويلة أمام ابنها الراحل بلا دمعة، بلا انفعال؛ كأنها تحتضنه بالسكينة وحدها، صمتًا في مقام الرثاء. في كنيسة رقاد السيدة، بين زيتونات المحيدثة وأيقونات الجدران العتيقة، لم يكن الجسد المسجّى وحده هو الراحل؛ بل كانت تُشيّع حقبة كاملة من الإبداع الحزين. جلست فيروز، كما لو أنها تودّع بصمت ابنها البكر، الذي اختار أن يرحل كما عاش: مرفوع الرأس، مكسور القلب. ودّع اللبنانيون في زياد الرحباني أكثر من فنان. ودّعوا صوتًا جريئًا كان يقول ما لا يُقال، ويحوّل الوجع إلى قهقهةٍ مرّةٍ لا تُنسى. وودّعوا العبقري الذي كتب موسيقى للغضب، وجعل من الكوميديا مرآةً للكآبة، ومن الجاز صرخةً شرقية. دخل زياد إلى عالم التلحين من خاصرة الوجع. في عام 1972، وأثناء غياب عاصي بسبب مرض مفاجئ، كان زياد قد ألّف لحنًا لم يُستخدم؛ فاستمع إليه منصور الرحباني، وركّب عليه كلمات أغنية "سألوني الناس"، كرسالة من فيروز إلى زوجها الراقد في المستشفى. الأغنية، التي غنّتها بصوت مبلّل بالحزن، أزعجت عاصي في البداية؛ لكنه تراجع أمام صدقها ووقعها. يومها، لم يكن زياد مجرد فتى موهوب؛ بل كان ابنًا دخل المعادلة الرحبانية، بإحساسه وحدسه الفني. لم يكن مجرد امتداد لعاصي ومنصور وفيروز؛ بل كان ثورة داخل البيت الرحباني نفسه. ثورة تجرّأت على كل شيء: على التقاليد، والمسرح، والوطن. فعندما لحّن "كيفك إنت"، لم يكن يقدّم تحفة موسيقية فقط؛ بل أعاد رسم وجه فيروز بلون زمنيّ جديد، يربطها بجيل لم يكن قد وُلد بعد، يوم غنّت "سنرجع يومًا إلى حيّنا". ألحان وكلمات زياد التي غنّتها فيروز لم تكن مجرّد أعمال فنية؛ بل مشاهد حيّة من سيرة بلد يتأرجح بين الحنين والانكسار. من "عَ هدير البوسطة" و"عودك رنان"، إلى "سلملي عليه" و"حبيتك تنسيت النوم"، ظلّت هذه الأغاني تربط الناس بما تبقّى من رهافة في وجدانهم، وتعيد رسم ملامح وطن منهك بصوتٍ دافئ. حتى أغنيته المتأخرة "إيه في أمل" لم تكن مجرد سؤال؛ بل محاولة أخيرة لتصديق ما لم يعد يُصدّق. قال نواف سلام، رئيس الحكومة اللبنانية، إن "لبنان كله شريك في الحزن"؛ لكن الحقيقة أن الحزن أوسع من لبنان، لأن زياد لم يكن مجرد فنان لبناني، بل كان مساحة فكرية وأخلاقية يتقاطع عندها العربي والإنساني، الهامشي والمقهور، الطريف والعميق. وقد بدا رحيله كأنّه انطفاءٌ لصوت ظلّ يعلو من بين الركام، لا من فوقه؛ صوتٌ ساخرٌ بمرارة، رزينٌ دون ادّعاء، هشٌّ لكنه لا ينكسر. لم يكن فنانًا "ملتزمًا" بالمصطلح المستهلك؛ بل رجل موقف، يكتب ويعزف ويتهكّم لأنّ الجوع ليس مجازًا، ولأن الحرب ليست خلفية مسرحية. لم يصرخ من علٍ، بل من قلب الحارات المكتظة، من بين البؤساء والفقراء الذين يعرفهم ويعرفونه. هو من قال: "أنا مش كافر، بس الجوع كافر"، ومن حوّل الجوع إلى نداءٍ أخلاقي. استعار عنوان "هدوء نسبي" من تقارير الإذاعات اللبنانية خلال الحرب، حين كانت تصف لحظات ما بين اشتباكين بهدوء هشّ، مشروط، يمكن أن ينفجر في أية لحظة. لم تكن موسيقاه بحثًا عن سكينة؛ بل كانت هروبًا مرهقًا من الضجيج، نحو فسحة تأمل لا تبلغ الهدوء الكامل، بل تتعلّق به على حافة الخوف. من لم يسمع مسرحيّاته في الشطر الغربي لبيروت، كان يتهجّى مقاطعها في شرقيّها. ومن لم يحضر "بالنسبة لبكرا شو؟"، كان يردّدها في مقهى، أو في بيته، أو في منفاه. من لم يفهم يساريّته انجذب إلى شفافيتها. ومن لم يَسِرْ معه سياسيًّا وجده قريبًا منه موسيقيًّا. هكذا رحل زياد، ومات مرتين: المرة الأولى في نهاية الثمانينيات، حين انكسر كيساريٍّ رأى سقوط الاتحاد السوفياتي وتهاوي الحلم الجماعي الذي انتمى إليه، وحين أدرك أن المشروع الذي حمله جيلٌ كامل من المقهورين بدأ يذوب أمام عينيه بلا مقاومة. فانطفأ شيء في داخله لم يشتعل مجددًا. أما المرة الثانية، فحين انطفأ الجسد. وفي رحيله، شُيّع حلم لبنان، وصمتت فيروز. ولو امتد به العمر حتى رأى المجاعة تُحاصر غزّة، لصرخ كما فعل قبل خمسين عامًا: "لمين عم بيموتوا ولادي؟ بأرض بلادي جوعانين". فقد كان واضحًا في وجه الجميع، أصدق من كل من لبس الثورة وتخلّى عن الناس. هو آخر أولئك الذين مزجوا الفن بالثورة، والمزاح بالوجع، والعائلة بالمشروع. هو زياد، وفي وداعه، مات فينا شيء لا نعرف كيف نسمّيه. "يا حبّذا ريح الولد... ريح الخزامى في البلد أ هكذا كل ولد، أم لم يلد قبلي أحد؟". من أرجوزة قديمة ردّدتها أعرابية لولدها، واستعارتها فيروز يومًا وهي تتحدث عن زياد. هكذا وصفت فيروز حبّها له، وما عاد للكلام مقام؛ فالصمت وحده يُجيد الرثاء حين تعجز الكلمات.