يشكل التقطيع الجماعي في المغرب أحد أبرز رهانات اللامركزية منذ عقود. فالمشهد الحالي يقوم على أكثر من ألف وخمسمائة جماعة، منها ما يقارب ألفًا ومئتين جماعة قروية موزعة على آلاف الدواوير. كان الهدف في البداية تقريب الإدارة من المواطن وضمان تمثيلية محلية أوسع، غير أنّ التجربة أبانت مع مرور الوقت عن هشاشة واضحة جعلت هذا التفتيت عائقًا للتنمية أكثر مما هو أداة لتقويتها. معظم هذه الجماعات القروية صغيرة الحجم وضعيفة الموارد وتعتمد بشكل شبه كلي على التحويلات المركزية، فيما تفتقر إلى الكفاءات البشرية القادرة على إعداد برامج تنموية وتنفيذها على الأرض. في مواجهة هذا الواقع، يبرز مقترح إصلاحي يثير الاهتمام والجدل في الوقت نفسه، يتمثل في دمج الجماعات القروية الواقعة في نطاق دائرة واحدة مع المدينة المجاورة لتكوين جماعة موحدة قوية، على أن تتحول الجماعات السابقة إلى مقاطعات قرب إدارية وخدماتية. بهذا الشكل يمكن تقليص عدد الجماعات إلى نحو مائتين وخمس وأربعين فقط، لكنها ستكون جماعات حقيقية تمتلك مؤهلات مالية وبشرية تجعلها قادرة على وضع وتنفيذ برامج تنمية فعلية، بينما تظل مقاطعات القرب حلقة وصل بين المواطن والإدارة دون أن تتحمل أعباء التسيير المستقل. إن الوضع الراهن يكشف عن مجموعة من الإشكالات البنيوية التي تجعل استمرار النموذج الحالي غير مجدٍ. فالجماعات القروية تعتمد على ميزانيات هزيلة، تصل نسبة التحويلات المركزية فيها إلى أكثر من تسعين في المائة، وتجد نفسها عاجزة عن الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والخدمات الأساسية. كما أن التشتت المجالي وتوزع السكان على آلاف الدواوير يجعل التخطيط مكلفًا وغير فعال. وإلى جانب ذلك، تعاني هذه الجماعات من نقص فادح في الكفاءات، إذ يصعب استقطاب الأطر التقنية والإدارية الضرورية لتدبير ملفات معقدة كالتعمير أو تدبير الماء والكهرباء أو إعداد المشاريع التنموية. النتيجة هي تفاوت كبير في مستوى الخدمات بين القرى والمدن، وعجز متكرر عن بناء أغلبيات سياسية مستقرة بسبب نظام الدوائر الفردية الذي يشتت الخريطة الحزبية ويضعف القرار المحلي. يمنح مقترح الدمج حول المراكز الحضرية أفقًا جديدًا لتجاوز هذه المعضلات. فالجماعة الموحدة ستمتلك قاعدة جبائية أوسع بفضل ضم موارد المدينة والقرى، وستتمكن من التخطيط بشكل مندمج لاحتياجات السكان في مجالات النقل والأسواق الأسبوعية والماء والنظافة والطرقات. والأهم أن المجلس الجماعي الموحد سيكون أكثر قوة واستقرارًا، وقادرًا على الانتقال من منطق التسيير اليومي المحدود إلى منطق التنمية المندمجة. في المقابل، لن تضيع هوية القرب المحلية، إذ ستظل المقاطعات الإدارية التي تعوّض الجماعات الحالية فضاءات لخدمة المواطنين واستقبال شكاياتهم وتمثيل قضاياهم. بهذا التوازن يمكن الجمع بين قوة المؤسسة الجماعية الكبرى ومرونة القرب المحلي. ومع ذلك، فإن التفكير في إصلاح التقطيع لا يقتصر على وصفة واحدة. فهناك من يدافع عن خيار الدمج الشامل، أي المرور مباشرة إلى تقليص عدد الجماعات إلى نحو مائتين وخمس وأربعين جماعة، وهو سيناريو جريء لكنه صعب سياسيًا وإداريًا في المدى القصير. وهناك من يرى أن الأفضل هو الدمج التدريجي، بدءًا من الجماعات شبه الحضرية المتاخمة للمدن الكبرى ثم توسيع العملية على مدى عشر سنوات، وهو مسار أكثر واقعية وقابلية للتنفيذ. وبين هذين الخيارين، يطرح آخرون بديلًا مرنًا يقوم على التعاون بين الجماعات في شكل مجموعات ذات صلاحيات قوية تتولى المشاريع المشتركة، وهو حل مقبول سياسيًا ويسمح بالعمل الجماعي، لكنه لا يعالج جذور التفتيت من الناحية القانونية والمؤسساتية. ومن المهم التوضيح أن هذا الإصلاح لا يستهدف المدن الكبرى التي تُدار منذ سنوات في شكل جماعات موحدة مقسمة إلى مقاطعات، مثل الدارالبيضاء والرباط ومراكش وفاس. هذه المدن ستظل على هيكلها الحالي، بينما ينصرف الإصلاح المقترح أساسًا إلى الجماعات القروية الصغيرة والمبعثرة التي تحيط بالمراكز الحضرية، حيث يشكل الدمج وسيلة لإعطائها نفس القوة المؤسسية التي تتمتع بها كبريات الحواضر. بطبيعة الحال، يواجه أي إصلاح من هذا النوع تحديات لا يستهان بها. فالقانون التنظيمي الحالي لا يتضمن صيغة مقاطعات قرب، ما يستلزم تعديلًا تشريعيًا. كما أن الأحزاب والمنتخبين المحليين قد يقاومون الدمج لأنه سيقلّص من استقلالية القرار على مستوى الجماعات الحالية، في حين ستظهر صعوبات إدارية مرتبطة بإعادة توزيع الموظفين وتوحيد الميزانيات والمقرات. وهناك أيضًا بعد اجتماعي وهوياتي، إذ قد تشعر بعض الدواوير بأن هويتها السياسية مهددة أو أنها ستذوب داخل المدينة الأكبر. لكن هذه العقبات ليست قدَرًا محتومًا، بل يمكن تجاوزها عبر مقاربة تدريجية تبدأ بتجارب نموذجية في جهات مختارة حيث التداخل بين الوسط الحضري والوسط القروي واضح، لتقييمها ثم تعميمها على باقي التراب الوطني. ولنجاح هذه المقاربة، لا بد من تدابير مصاحبة تضمن عدالة التمثيل وتحفز السكان والمنتخبين على تقبل الإصلاح. من الضروري تعديل الإطار القانوني ليمنح للمقاطعات وضعًا واضحًا وصلاحيات محددة، وإحداث مجالس استشارية تتيح للقرى المدمجة صوتًا داخل قرارات الجماعة الكبرى. كما يجب اعتماد تمييز إيجابي يخصص نسبًا من الميزانية للاستثمار في القرى حتى لا تشعر بالتهميش، مع إطلاق حملة تواصلية لشرح أهداف الإصلاح وفوائده للمواطنين. وبجانب ذلك، ينبغي إصلاح نظام التحويلات المالية لربط جزء منها بالأداء الفعلي في تحسين الخدمات والبنيات الأساسية. إن المغرب أمام خيار استراتيجي لا مفر منه: إما الاستمرار في إدارة شبكة من الجماعات الصورية الصغيرة والهشة، وإما الانتقال إلى نموذج جديد يقوم على جماعات حقيقية قوية بمقاطعات قرب فعّالة. الطريق الثاني يتطلب إرادة سياسية واضحة وشجاعة في مواجهة المصالح الضيقة، لكنه وحده الكفيل بإخراج العالم القروي من دائرة العجز وتثبيت أسس عدالة مجالية حقيقية. لقد حان الوقت للانتقال من إدارة واقع هش ومتآكل إلى هندسة التنمية، ومن جماعات ضعيفة ومجزأة إلى جماعات قوية وقادرة على المبادرة والإنجاز