في أوائل العام الحالي، أعلنت الأممالمتحدة اعتبار سنة 2025 السنة الدولية لعلوم وتكنولوجيا الكوانتوم (الكم). ومنذ بداية هذا العام، شهد العالم تنظيم تظاهرات وأنشطة علمية وتثقيفية لتخليد هذه النظرية المهمة وتطبيقاتها التي غيرت نظرتنا للعلوم، وأحدثت ثورة جذرية في التكنولوجيا. وفي المقابل، بدا -للأسف- أن الوطن العربي غير مكترث بهذا الموضوع، ولم يشهد إلا مبادرات خجولة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. في هذه الحلقات، أحاول أن أسرد بطريقة بسيطة ومختصرة حيثيات بروز فيزياء الكم والإرهاصات التي سبقتها، وأهم تطبيقاتها. اللورد كيلفن وغمامتا الفيزياء: تذكر المصادر التاريخية أنه في شهر أبريل من سنة 1900، ألقى العالم البارز ويليام تومسون (ولقبه اللورد كيلفن) محاضرة بالمعهد الملكي البريطاني، وكرر على الحاضرين ما صرح به من قبل من أن مشاكل الفيزياء تم حلها، وأنه لم تبقَ إلا غمامتين -كما سماهما- تكدران صفو سماء الفيزياء. الغمامة الأولى هي ما يعرف بالأثير. ففي أواخر القرن التاسع عشر (سنة 1865)، استطاع العالم جيمس ماكسويل أن يطرح معادلاته الأربع الشهيرة التي دمج فيها خصائص الظواهر الكهربائية والمغناطيسية في قالب نظري جميل، وضمَّنها معادلات الإنجليزي مايكل فاراداي والفرنسي أندري أمبير والألماني كارل فريديريك غاوس. معادلات ماكسويل والحلول المصاحبة لها أدت إلى نتيجتين في غاية الأهمية: أولاهما أن سرعة الضوء لا تتغير إلا بتغير الوسط الذي ينتقل فيه الضوء، والثانية أنه تنبأ بوجود موجات كهرومغناطيسية. وفي سنة 1888، استطاع العالم الألماني هاينريخ هيرتز أن يثبت عبر التجارب وجود الموجات الكهرومغناطيسية، لتتعزز بعدها الثقة بمعادلات ماكسويل. هذا الاكتشاف جعل الفيزيائيين يطرحون السؤال حول كيفية انتقال هذه الموجات من مكان لآخر. فإذا كانت الموجات الصوتية تنتقل عبر الهواء، والموجات المائية تنتقل عبر الماء، فلا بد للموجات الكهرومغناطيسية من وجود وسط تنتقل عبره، أُطلق عليه اسم الأثير (Ether). لكن تجربة العالمين الأمريكيين ألبرت مايكلسون وإدوارد مورلي جاءت مخيبة للآمال، وأثبتت ألا وجود للأثير، وهو ما اعتبره اللورد كيلفن غمامة تلقي بظلالها على الفيزياء. الغمامة الثانية هي تفسير طيف الإشعاع الصادر عن الأجسام السوداء بعد امتصاصها للحرارة، حيث أخفقت الفيزياء الكلاسيكية -بما فيها نظرية ماكسويل وبولتزمان الكهرومغناطيسية- في إعطاء تفسير للانبعاثات الصادرة في نطاق الموجات القصيرة، وهو ما يُعرف في الأوساط العلمية بكارثة الإشعاع ما فوق البنفسجي. الضوء وثنائية الجسيم الموجة: لكن التاريخ كان له رأي آخر، إذ استطاع الفيزيائي الألماني الشهير ماكس بلانك أن يخرج نفسه من قوقعة التفكير الكلاسيكي، وطرح فكرة جديدة مفادها أن الطاقة لا تُمتص ولا تنبعث إلا عبر حزم محددة، وليس بصفة لا متناهية كما كان الاعتقاد السائد في الفيزياء الكلاسيكية. هذه الحزم التي يتم إصدارها أو امتصاصها تسمى الكوانتا أو الفوتونات، وتحمل كل منها طاقة محددة تساوي ضرب تردد الموجة الكهرومغناطيسية برقم ثابت يسمى ثابت بلانك. مستخدمًا هذه الفرضية، استطاع ماكس بلانك أن يقدم تفسيرًا رياضيًّا لطيف الإشعاع لدى الأجسام السوداء، وتجاوز كارثة الإشعاع ما فوق البنفسجي. ولو أن بعض الفيزيائيين عارضوا الفكرة، إلا أن هناك فيزيائيين شبابًا تحمسوا لها مصداقًا لفلسفة بلانك ونظريته حول سوسيولوجيا المعرفة العلمية، حيث يقول: "أي حقيقة علمية جديدة لا تنتصر بإقناع المعارضين لها وجعلهم يبصرون النور، وإنما لأن معارضيها يموتون، وينشأ جيل جديد يتعايش معها ويتقبلها". قد يكون بلانك محقًا، لأن ما حصل بعد ذلك يؤكد ذلك. ففي سنة 1905، كان هناك شاب يعمل في مكتب براءات الاختراع بسويسرا اسمه ألبرت أينشتاين، أصدر في سنة واحدة أربع مقالات علمية أدهشت حتى بلانك نفسه. من بينها مقال يطرح فيه تفسيره للتأثير الكهروضوئي الذي عجزت طرق الفيزياء الكلاسيكية عن تفسيره، وهو ما يحدث حينما يتم تسليط نوع من الأشعة على سطح معدني يترتب عنه انتزاع إلكترونات من هذا السطح. أينشتاين استخدم فكرة الطاقة الكمومية للضوء التي اقترحها بلانك، ليعطي التفسير الصحيح والوحيد الذي يتطابق تمامًا مع التجارب حول التأثير الكهروضوئي. هذا النجاح الأولي منح ماكس بلانك جائزة نوبل سنة 1918، وألبرت أينشتاين سنة 1921، وكان هذا بداية العصر الكمّي، واعتُبر ماكس بلانك أبا النظرية الكمية. لكن الأمر أعمق من ذلك، فمن بين الأسئلة التي كانت تطرح دائماً تلك المتعلقة بماهية الضوء: هل هو مجموعة من الجسيمات الدقيقة التي تنتقل بسرعة الضوء كما اقترح إسحاق نيوتن؟ أم أنه موجة تنتقل كما اقترح كريستيان هويغنز في نظريته "النظرية الموجية للضوء"؟ وفي بداية القرن التاسع عشر، قام الفيزيائي توماس يونغ بتجربة الشق المزدوج الشهيرة التي نتج عنها تداخل الأشعة الضوئية، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا إذا اعتبرنا أن الضوء له خاصية موجية. لكن فكرة أينشتاين أثبتت أن الضوء له خاصية جسيمية أيضًا، وأصبح هذا الموضوع يعرف بثنائية الجسيم الموجة، وهو ما سيكون له بالغ الأثر على صيرورة الفيزياء فيما بعد. في المقال التالي، نغوص في ماهية المادة والتساؤلات التي برزت في نفس الفترة. – أستاذ الهندسة الكهربائية والفيزياء، جامعة حمد بن خليفة، قطر.