بينما أراجع ردود أفعال بعض الأقلام المغربية بخصوص احتجاجات الشباب المغربي، أو ما يُعرف إعلاميًا ب "جيل زيد"، أستحضر القول المنسوب لفيلسوف الأنوار "فولتير": "قد أختلف معك في الرأي، لكنني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عنه". إذ لمستُ بعض التردد والكثير من التودد تجاه مجموعة منصة "الديسكورد"، التي تتباهى بعدد منتسبيها في المغرب بحوالي 200 ألف، وأكثر من 600 مليون على الصعيد العالمي. وأتفهم خوف بعض النخب أو الأقلام من حملات رقمية مضادة تستهدف حياتهم الخاصة بالتشهير، أو تُعدم تواجدهم الرقمي ب"السيينال". لذلك فضل بعضهم الصمت، بينما ترك الآخرون باب منزلهم مواربًا في "انتظار غودو". إذ خُيل للبعض أن تلك المنصة رفعت شعار "أنت إما معي أو ضدي"، في حين أن مسيريها يرفعون شعارات الديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية. لذا فإن خوف وتردد تلك الأقلام لا يعكس حالة صحية، في ظل إجماع وطني ودستوري على مشروعية تلك المطالب الاجتماعية المضمونة بالنصوص الدستورية والقانونية. بل إنها برامج استراتيجية ورهانات مصيرية لا تخضع لإكراهات الزمن الحكومي أو البرلماني. الشباب المغربي، ومنذ مدة طويلة، يناقش بطريقته الرقمية داخل الفضاءات الافتراضية، وينتقد بحدة الأوضاع الاجتماعية والفوارق المجالية. وكان يصيب ويخطئ، لكن بوجوه مكشوفة وهوية وطنية حقيقية، وليس بهويات افتراضية وحسابات مجهولة قد تفتح مجالاً للتأويل. لأننا بهذه الطريقة نصبح أمام "حق أريد به باطل". اليوم، الشارع المغربي يتكلم لغة واحدة مفادها ضرورة تغيير العجلة فيما يخص السياسات العمومية في مجالات الصحة والتعليم. ويُحسب للشباب المحتج يومي 29 و30 من شتنبر الماضي بإحراج الحكومة وإخراجها إلى الشاشات، و بفتح التلفزيون المغربي أمام الشباب للحوار "المفقود" مع بعض المسؤولين الحكوميين وكذا مع بعض تيارات المعارضة. ولا أحد منهم أنكر تلك الأعطاب في الصحة والتعليم. بالمقابل، وفي ظل أجواء المكاشفة والديمقراطية، نرى ضرورة طرح بعض الأسئلة: كهل انتقاد رواد منصة "الديسكورد" هو خطيئة رقمية أو مغامرة قد تجلب لك متاعب التشهير و"البلوك"؟ وهل كل هذا العدد الهائل، حوالي 200 ألف، كلهم ملائكة؟ وهل يجب طلب الإذن من "الأدمين" لطرح بعض الأسئلة المنتقدة لطريقة إدارتهم للحوار والتصويت؟ ومن يتحكم في زر الصوت و"البلوك" ونوعية المتدخلين؟ نحن المنتمين للجيل الآخر، قد نجهل اللغة الرقمية الحديثة، وقد تستعصي علينا أدوات "طلعو/هبطو/لبلان/لبلوك"... لكننا لا نجهل أبداً عناوين مصلحة وطننا العليا، ولا نخطئ قراءة أجندات الجهات المعادية للمؤسسات الدستورية والوحدة الترابية والوطنية. وفي ذات الآن، لا نبرر أعطاب السياسات العمومية في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل، بل نطالب بتسريع تنزيل كل البرامج وبكل الشفافية، مع ربط المحاسبة بالمسؤولية كما تنص عليه القوانين. لكن يجب فتح المجال لانتقاد "مسيري الديسكورد"، لا أن يُرفعوا إلى مراتب الملائكة ومنزلة الصالحين، ويُنادى الآخرون ب"الزلايجية" وغيرها من مصطلحات القاموس المعروف لدى الجهات المعادية، مع تهديد المختلفين بحملات عشوائية من التشهير في الفضاء الرقمي. وفي إطار ما لقيصر لقيصر، فإنه يُحسب للمنصة فتحها لنقاش اجتماعي وثقافي وإعلامي مهم ومشروع. لكن يُسجل عليها أيضاً أن كل المدعوين لتأثيث الفضاء الافتراضي لهم خلفيات سياسية وطموحات سياسية يعرفها جيداً الرأي العام المغربي، كما يعي جيداً سقف مطالبهم، وجلهم يحمل صفة "صحفي". إذ المفروض هو استدعاء جامعيين في العلوم الاجتماعية والقانونية، ومتخصصين بيداغوجيين، ومهنيي الصحة والتعليم، وإعلاميين أيضاً، لأن الغرض هو الخروج بتصور جديد ومبادرات ومشاريع حلول، وليس البقاء في نفس الموقع والتفكير فقط في أجندة الاحتجاجات وتواريخها. المفروض أيضاً هو التوفر على أفق أو سقف كتجارب مقارنة في تركيا أو ماليزيا مثلاً، إذ لا يمكن التذرع بأنه ليس من اختصاص المحتجين تقديم الحلول والبدائل، خاصة أنه في آخر حوار مع أحد ضيوف "الديسكورد" أكد أحد "الادمين" بوجود باحثين في سلك الدكتوراة وأطباء ومحامين في صفوفهم. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا ينشرون مشروعاً متكاملاً لمعضلات الصحة والتعليم، ولا يكتفون بتسجيل نقط مطالب؟ وإذا كان صحيحاً أن بينهم محامين وباحثين (أي لا ينتمون عمرياً لجيل زيد)، فلماذا لا يخرجون بمشروع إطار قانوني منظم، ويخرجون به من حالة الافتراضي إلى الواقعي، خاصة وأننا أمام استحقاقات انتخابية مهمة، ويرفعون شعارات من قبيل "Our time has come" ("جا وقتنا")؟ لا أتمنى أن يكون الشباب الجميل الذي احتج يومي 29 و30 من شتنبر الماضي من "أصحاب الكنبة" ورواد العزوف. كما لا أتمنى أن يصبح الاحتجاج مهنة لمن لا موقف لهم، لأن انتخابات التغيير على الأبواب، وعند الامتحان يُكرَم المحتج أو يُهان.