يشكّل الذكاء الاصطناعي طفرة تكنولوجية غير مسبوقة في عدة مجالات ومهن مهمة، كالصناعة والطب والهندسة والخدمات، لتسهيل وتسريع الإنجاز والعمليات، في عالم تحكمه المنافسة الشرسة بين الشركات والدول. وذلك من أجل الربح والهيمنة على الأسواق وتوجيه المستهلكين واقعيًا ورقميًا، عبر توجيه الحاجيات والاستهلاك، في عالم يعيش على إيقاع السرعة والسيولة واللايقين. لقد أصبح الإنسان خاضعًا للتقنية والثقافة الرقمية بإيجابياتها وسلبياتها، ومستلبًا بوتيرة السرعة والتغيير المستمر. جعلت منه كائنا أداتيًا في معادلة الإنتاج والاستهلاك. في وقتٍ يتطلب منه التحكم في التقنية وتوجيهها لخدمة مصلحته من خلال خلق مجتمع جيد ومتوازن، لتحقيق العيش الكريم. وهذا الهدف يفترض اعتماد الذكاء البشري وقيمه الإنسانية، والتخلص من قيم الفردانية والأنانية وأزمتها البنيوية والمركبة التي تتطلب التفكيك والتجاوز، لمعالجة أسباب الإقصاء والتهميش ونشر ثقافة الاعتراف والإنصاف. بالمقابل، يجعلنا الإبداع البشري في حوار وتواصل جدلي مع الفكر والعلم والأدب والنقد والتفاعل البناء مع الواقع. كما يمنحنا هذا الإبداع الطاقة الإيجابية للتفكير والكتابة بشكل عميق ومستمر، لإعادة تشكيل المعنى وبناء الواقع من أجل عالم إنساني ينتصر لقيم الحوار والتفاهم والتضامن والتعاون، وينبذ الكراهية والعنصرية والإقصاء. والكتابة البشرية الجادة والهادفة تجعل الحياة ممكنة بالأمل، بالرغم من الإكراهات والتناقضات والصراع والمصاعب التي تعترض الإنسان. كما أن الكتابة الحقيقية تساعد على التفكير البناء والبحث عن المعنى في عالم مضطرب باللايقين والصراع والحروب. إن الإبداع الإنساني يدفع الكاتب البشري لطرح الأسئلة، ويمنح الإنسان مسالك النجاة من اليأس والضياع والاغتراب. وذلك بربط الوجود الإنساني بأهداف وقيم نبيلة يطمح إلى تحقيقها كالعدالة والتعاون والتضامن والإنصاف. كما تساهم هذه القيم في بناء المشترك الوطني والإنساني، وتحمي المتلقي من التفاهة الزاحفة في جميع مجالات الحياة. في هذا السياق، تفتح جدلية القراءة والإبداع البشري أفقًا فسيحًا للتفكير البناء وإنتاج المعنى، سواء في حياتنا الخاصة أو العامة. كما تجعلنا القراءة نكتشف نسبية أفكارنا أمام مفكرين وأدباء وإبداعاتهم، بحيث نصبح أكثر حكمة في التعامل مع الأفكار، وأكثر موضوعية في التحليل والدراسة والنقد، لإعادة بناء المعنى في الكتابة، سواء كانت فكرية أو أدبية تعبر عن نضج مستمر في الرؤية والمقاربة. لقد أصبح الإبداع البشري الجيد يواجه عدة تحديات في مقاربته لإشكالات الواقع، في عالم يعرف تدريجيًا هيمنة الذكاء الاصطناعي. هذا الأخير يمكن الاستعانة به في عدة مهن، لكن لا يمكنه تعويض قدرات الإنسان الإبداعية وذكائه الطبيعي الذي يتفوق به على سائر المخلوقات. وهذا يتطلب من الإنسان المعاصر التحكم في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي حتى لا يخرج عن سيطرته وتوجيهاته. في هذا السياق، يعتبر الإبداع الفكري والعلمي والأدبي مكسبًا إنسانيًا يعبر عن الإبداع البشري لمقاربته لأسئلة وجوده في معادلة الواقع والكون. يتطلب منه العناية والاهتمام بهذه المقاربة الإبداعية والبشرية الأصيلة، حفاظًا على سردياته البشرية الطبيعية وعدم خضوعه لسرديات الذكاء الاصطناعي وما ينتجه من نصوص. كما يعتبر التفكير والإبداع البشري أفقًا لإنتاج المعنى المتجدد في عالم متغير، لتصحيح سلبيات الحداثة وما أنتجته من تكنولوجيا متطورة، حتى لا يفقد الإنسان بوصلته في هذا العالم. إن الكتابة عن الواقع المركب تفترض وعيًا وتفكيرًا مركبًا لطرح الأسئلة التي تهدف إلى معالجة مشاكل وسلبيات الواقع وما يعرفه من تناقضات، بمقاربة عقلانية وموضوعية. تعتمد التحليل والتفكيك والبناء من طرف الإبداع البشري، لربط الظواهر بأنساقها وأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، لإعادة بناء المعنى باقتراح الحلول الممكنة في عالم متغير وسريع. في نفس الوقت، يتطلب الذكاء الاصطناعي التقييم والتقويم ومعالجة الأعطاب والسلبيات، كل من موقعه بإرادة حكيمة ونزيهة، لمواكبة العصر ومواجهة التحديات المركبة، باعتماد المعرفة العلمية التي تخدم مصلحة الإنسان. وتحميه من استلاب واغتراب التكنولوجيا، وتفتح له أفقًا للأمل والعيش في واقع أفضل. وذلك بحماية قدرات التفكير والإبداع عند الباحثين والكتاب والفنانين بشكل خاص، والإنسان بشكل عام، حتى لا يجد نفسه متجاوزًا في معادلة التفكير والإبداع من طرف الذكاء الاصطناعي. هذا الأخير يتطلب مقاربة عقلانية وأخلاقية لاستخدامه في خدمة الإنسان. -أستاذ باحث في الترجمة