تلويح حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال بالانسحاب من التحالف الحكومي بقيادة عبد الإله بنكيران، وما تلاه من انسحاب وزراء الحزب وتقديم استقالاتهم بشكل جماعي، باستثناء محمد الوفا، من الحكومة. كل هذا لم يكن شيئا جديدا في المشهد السياسي المغربي، ولم يكن سابقة من نوعها كما رآه البعض. هذا المشهد تكرر في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما قدم وزراء حزب الاستقلال استقالاتهم من حكومة امبارك البكاي الثانية سنة 1958، وإن اختلفت التفاصيل، كما الضجة التي أثارها الحدث آنذاك لم تكن أقل من نظيرتها اليوم. حكومة المفاوضات بعد عودة الراحل محمد الخامس من المنفى، ارتأى تشكيل حكومة ائتلاف وطني تباشر المفاوضات مع فرنسا، فاتفقت القوى السياسية على ترشيح شخص مستقل، وهو امبارك البكاي ليشكل حكومة تتضمن مختلف الأطياف السياسية آنذاك، فشكل البكاي حكومته في دجنبر من سنة 1955. يحكي الحاج الحسين برادة في كتابه "مسيرة التحدي" أن الحكومة الأولى ضمت 21 وزيرا، عشرة منهم من حزب الاستقلال وخمسة من حزب الشورى والاستقلال، ووزير واحد من حزب الأحرار المستقلين، وخمسة وزراء مستقلين. وما كادت الحكومة الأولى في تاريخ المغرب تتم سنتها الأولى حتى بدأت صحافة حزب الاستقلال في الانتقاد والتهجم على وزراء حزب الشورى والاستقلال، معتبرة حزب الاستقلال مجرد أقلية داخل الحكومة رغم دوره الكبير في استقلال المغرب. وفي غشت من سنة 1956 اجتمع المجلس الوطني لحزب الاستقلال، فلوح بالخروج من الحكومة وتقديم وزراء الحزب لاستقالاتهم، بل إن أعضاء المجلس الوطني لحزب الاستقلال اعتبروا حكومة البكاي مجرد نتاج لمحادثات إكس ليبان. الأزمة الحكومية الأولى بعد شهرين على الأزمة الحكومية قدم امبارك البكاي استقالته إلى الراحل محمد الخامس، لأن البكاي اعتبر تلويح الاستقلاليين بتقديم استقالاتهم أزمة ثقة لأن الحزب المحتج يشكل أكثر من نصف الوزراء. هكذا لم تدم الحكومة الأولى في تاريخ البلاد أكثر من عشرة أشهر، ليكلف الملك من جديد البكاي بتشكيل حكومة جديدة تكون منسجمة، فشكل البكاي الحكومة الثانية التي قلص فيها تمثيلية حزب الشورى والاستقلال، ما جعل هذا الأخير يرفض المشاركة في الحكومة الثانية احتجاجا على الحقائب الممنوحة له التي اعتبرها لا تترجم حجمه الحقيقي في الساحة السياسية وقوته. من جهة أخرى حاز حزب الاستقلال على وزارات مهمة. ولأن حزب الشورى والاستقلال يعتبر نفسه مقصيا من هذه الحكومة فإنه وقف منها موقف المعارضة وشحذ صحافته لذلك، فضغطت الحكومة على مكاتبه وصحافته، بل إن المعركة تحولت إلى معركة مفتوحة بين حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، وتحولت إلى معارك كلامية على صفحات الجرائد. آنذاك، يحكي الحاج الحسين برادة، استغل وزير الداخلية السلطات الاستثنائية التي منحت له عقب غارات الطائرات الفرنسية على ساقية سيدي يوسف بتونس، ليقرر منع الاجتماعات العامة ومنع صحافة حزب الشورى الاستقلال من الصدور. أحرضان والخطيب يدخلان على الخط في خضم هذا الصراع اصطف الدكتور عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان في صف حزب الشورى والاستقلال عندما قاما بتأسيس حزب الحركة الشعبية، ليقف في وجه حزب الاستقلال، وهو ما جعل إدريس المحمدي وزير الداخلية آنذاك يعزل المحجوبي أحرضان من منصبه كعامل على ناحية الرباط. ومن جهته امبارك البكاي لهبيل أبدى تعاطفه مع حزب الحركة الشعبية، الأمر الذي جعل صحافة حزب الاستقلال تهاجم رئيس الحكومة والحركة الشعبية التي اعتبرتها من بقايا الاستعمار في البلاد. وهو التهجم الذي لم يستسغه حزب الحركة الشعبية، ما جعله يرفع عرائض إلى رئيس الحكومة تتعلق بالحريات العامة، فرفعها البكاي بدوره إلى الراحل محمد الخامس. احتج الاستقلاليون على ذلك معتبرين هذا السلوك خروجا عن الأسس التي تشكلت على أساسها الحكومة وخروجا للبكاي عن حياده كرئيس للحكومة، كما اعتبروا ذلك تناقضا للبكاي مع مواقفه التي أعلن عنها في اجتماع مجلس وزاري حين قال: إن هذه الحركة لا تحترم القوانين الجاري بها العمل. الاستقلاليون ينسحبون في الخامس عشر من أبريل سنة 1958 نفذ حزب الاستقلال الذي ظل يلوح به في كل مناسبة وهو تقديم وزرائه لاستقالاتهم من حكومة امبارك البكاي. وبلور الاستقلاليون موقفهم في رسالة رسمية إلى الملك شرحوا فيها الأسباب التي دفعتهم إلى الاستقالة. إذ قالوا فيها أن البكاي لم يعد شخصية مستقلة، لأنه لا يحترم استقلال الرأي. وجاء أيضا في هذه الرسالة أن البكاي "أصبح يؤيد حركة قرر هو نفسه في مجلس في مجلس وزاري أنها غير مرغوب فيها، لأنها لم تحترم القوانين الجاري بها العمل، ولأنها لا يتفق وجودها مع مع المصلحة الوطنية للبلاد". وقد تهجم حزب الاستقلال في هذه الرسالة على حزب الحركة الشعبية، واتهمه بخيانة الوكن حين قالت الرسالة: "... وقد احتمى بها عدد من الخونة والمشبوه في ماضيهم الطين التجئوا إلى هذا النوع من العمل. المآل الذي آلت إليه الحكومة كان منتظرا منذ تشكيل الحكومة الأولى، لأن حزب الاستقلال كان يرمي إلى تشكيل الحكومة بمفرده، وكان يعتبر مشاركته في الحكومة الأولى والثانية تضحية. أمام هذا الوضع اضطر رئيس الحكومة امبارك البكاي إلى تقديم استقالة حكومته. حكومة حزب الاستقلال قبل تشكيل الحكومة الثالثة أجرى الملك محمد الخامس عدة اتصالات بالهيئات السياسية والنقابية، وبممثلي المقاومة وجيش التحرير لتستمر الاستشارات معم شهرا كاملا. ثم بادر إلى الإعلان عن "العهد الملكي" الذي كان عبارة عن ميثاق للإصلاحات الدستورية والسياسية. ونادى بإقامة المؤسسات، كما أعلن إجراء انتخابات للمجالس البلدية والقروية. بعد هذه الحزمة من الإصلاحات عهد الراحل محمد الخامس إلى أحمد بلافريج (الصورة) الأمين العام لحزب الاستقلال بتشكيل الحكومة الثالثة، فألف بلافريج حكومته كلها من حزب الاستقلال باستثناء وزير الداخلية ووزير الصحة ووزير البريد. لكن لم تمر أسابيع على حكومة حزب الاستقلال حتى بدت بوادر التصدع تظهر من داخل حزب الاستقلال. زاد من ذلك أن مسيرة عمالية خرجت إلى شوارع الدارالبيضاء في 12 ماي من سنة 1958، فتعرضت لقمع رجال الأمن. وبما أن العمال المحتجين كان جلهم ينتمي إلى حزب الاستقلال فإنهم جمدوا أنشطتهم من داخل الحز، بل إن عبد الله إبراهيم الناطق باسم الحركة العمالية تهجم على الحكومة على صفحات جريدة الحزب. بعد ذلك احتجزته الشرطة وبدأت في التحري في أمواله. هكذا بدت بوادر الانشقاق في حزب الاستقلال، وأصر بلافريج على عدم البقاء رئيسا للحكومة، فبادر محمد الخامس من جديد إلى التدخل وتكليف عبد الله إبراهيم بتشكيل حكومة رابعة.