حصل أن راودَه حلم في طفولته التي امتدّت ما بين الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، فما كان منه إلاّ أن قبض على حلمه ككلّ من حلمُوا بصدق وعملوا بتفانٍ من أجل تحقيق ما راودهم عن النجاح في الميدان الذي عرفوه منذ نعومة الأظافر.. والنتيجة أن أعماله الفنيّة التشكيليّة يراها المغاربة بشكل يوميّ، بل ويحتفظون بها وسط جيوبهم ومحافظهم. إنّه أحمد بن يسّف، الفنان الذي يعيش عقده السابع بسعادة طفوليَّة قلّما تتحقق في مثل من هم في عمره.. هو من تخرج من مرسمه إبداعات تشكيليّة يتطلع إليها المغاربة عير الأوراق المالية والقطع النقديّة الصادرة عن بنك المغرب.. تطوانيّ النشأة وإسبانيّ التكوين والخبرة، يعيش مراكما الماضي ولا فخر له إلاّ بما سيحققه في حلمه المستمرّ بالمستقبل. أحمد بن يسّف هو واحد من مواليد العام 1945 بمدينة تطوان، منحدر من عائلة محافظة، وخريج لمدرسة الفنون الجميلة بتطوان، وكذا المدرسة العليا للفنون الجميلة بمدينة إشبيلية الإسبانيّة. في الطفولة، كما المراهقة، وأيضا خلال الدراسة بمختلف الأسلاك بالمغرب، لم تراكم بن يسّف غير الذكريات الجميلة عن مساره.. إذ استهلّ تعليمه بابتدائيّة حرّة، دأب في كل ولوج إليها على تحيّة العلم الوطني المغربي رفقة أقرانه، وحين غادرها كان ذلك نحو ثانوية القاضي عياض التي نال بها شهادة البكلوريا. بعد تخرجه من "الفنون الجميلة" لتطوان قرر الالتحاق بالمدرسة العليا للفنون ب "سِيفِييّا"، وقد ساهم في اختياره كون اساتذته بمدرسة تطوان خريجين لذات المؤسسة الإسبانية. شغب مبكّر يقول أحمد بن يسّف إنّه كان "مشاغبا بالفطرة"، مستدلا على ذلك بما كان يقوم به أثناء حصص التمدرس الأولى وهو ينشغل وسطها برسم أساتذته.. "اليوم، وأنا أنظر إلى ذلك بالبعد الزمني، أجزم بأن كل ذلك كان إيجابيا، فقد كان تعبيرا عن موهبتي" يزيد بن يسّف. ذات التشكيلي المغربي، وهو الذي شق طريقه بعصامية وسط الخطوط والألوان، أحسّ بمجال الرسم حين أحس بوجوده في الحياة، كيف لا وهو يقول عن ذلك: "لا أعرف أمورا أخرى قمت بها.. ذلك أن هدفي كان هو الرسم طيلة حياتي، ولا أعرف نفسي إلاّ رسّاما". تكوين كلاسِيكيّ أسلوب التكوين الذي كانت تنهجه مدرسة إشبيلية للفنون الجميلة كان له دور مفصلي في تنقل بن يسف نحوها، فتعليمها كان جديا بمنهجية تشمل كل القواعد الأساسية لتركيبة اللوحة، سواء على مستوى الرسم والألوان والنوعيات وكل الخصائص التقنية.. وعن ذلك يقول أحمد: "للوحة التشكيلية قراءة أدبية وأخرى تقنية، فالأولى تأخذ بعين الاعتبار خلفيات المتلقي المشاهد، أمّا الثانية هي أكثر دقّة وتلتصق بالتشكيليّن جميعا". "عند دراستي الإعدادية والثانوية كنت أتوفر على معلومات جيدة تهمّ أحسن مدارس الفنون التشكيلية بأوروبا، ومدرسة إشبيلية كانت أفضلها، لأنّ طريقة التدريس بها كانت كلاسيكية محضة، عكس التعليم الفني بباقي دول أوروبا الذي طالته حرية زائدة، وأنا أومن بأنّ للحرية حدودا ضافت أو اتّسعت.. ورأيت فيها مؤسسة مناسبة لأسلوب حياتي الذي هو فوضى منظّمة، تماما كإيماني بأن من يبتغي الهدم عليه إتقان البناء، والعكس بالعكس" يصرّح بن يسّف. خبز الفنّ يتذكّر أحمد بن يسّف عديد الأسئلة التي هبّت عليه ممّن شاركوه التخرّج من المدرسة العليا للفنون الجميلة بإشبيليَة الإسبانيَة، متلهفين لمعرفة ما يخطط له الخريج الفذّ.. كما لم ينس جوابه الذي صدم الجميع وهو يكشف أن التشكيلي المغربيّ لا يمكن له أن يعيش من شيء آخر دون فنّه.. رافضا النصائح التي قدّمت له بالفبض على وظيفة تدريس، بالمغرب أو إسبانيا، ومزاوجتها بلوحات يرسمها خلال أوقات الفراغ. وساند خيار أحمد تحصّله على ثلاث جوائز، أولاها عن الرسم القديم، والثانية عن الصباغة الزيتيّة، بينما الأخيرة كانت عبارة عن منحة من أجل المناظر الطبيعية وتخوّل له الإقامة في غرناطة على حساب مؤسسة محترمة ومختصّة من طينة مؤسسة رُودرِيغِيث أكُوسْطَا "هدفي الآول من الفن التشكيلي هو العيش منه وإليه، بالرغم من صعوبة الرهان على ميدان الفنون التشكيلية كمصدر للرزق".. كان هذا هو ردّ بن يسّف على أسئلة مستفسريه من خريجي دفعته، وغالبيتهم ممّن احترفوا تدريس الفنون الجميلة بعدها.. أبواب المجد يؤمن نفس الفنان التشكيلي بأنّ عيش أي رسام حقيقي لا يمكن أن يكون إلاّ من أجل نيل لقمة العيش، من جهة، وتحقيق المجد، من جهة أخرى.. "من لا يشتغل فنيا من أجل العيش والمجد عليه الانسحاب من المجال والبحث عن نفسه في ممارسات أخرى بعيدة عن الفنّ" يقول بن يسّف. اسم ذات الفنان المغربي، اليوم، موجود في كل المراجع العالمية للفن التشكيليّ، كما أنّ معارض لوحاته، وباعتبار الامتداد الجغرافي لانتشارها، طالت 5 قارّات بالتمام والكمال على مستوى المعمور.. والأدهَى من ذلك أنّ أعمالا تشكيليّة لأحمد بن يسّف تتواجد بجيوب كلّ المتعاملين بالعملة المغربيّة بفعل وجود رسوماته على الأوراق المالية والقطع النقديّة لبنك المغرب. بن يسّف يستغل بشكل يوميّ وهو في ال69 من عمره اليوم، معتبرا أنّ ذلك "أهمّ شيء حقّقه".. ويصرح عن ذلك: "لقد كان هذا هدفي منذ صباي، يمكن القول بأنّي أحرزت كل ما كنت أصبو إليه في أحلام الطفولة وريعان الشباب، لذلك تخالجني سعادة غامرة لا يمكن أن أصفها بالكلام". إعجاب ملك المغرب يقول بن يسّف إنّه، بعد المسيرة الخضراء، ارتأى الملك الحسن الثاني تخليد الحدث بمنطوق تشكيليّ، وذلك في ظل وجود منتجات أدبية وفنية خلدت للحدث.. وارتأى ملك المغرب، وقتها، اللجوء لوسطاء اتصلوا بتلميذ لبن يسف من أجل اقتراح لوحة في الموضوع، لكنّ الإنجاز لم يرق الحسن الثاني. "الملك الحسن الثاني كان قد كلّم مولاي الحسن بلمهدي، والي المغرب آنذاك، بعدما اقترحني الأخير، كي يتصل بي.. وكذا نائبه أحمد بناني.. وقد أمضيت سنتين أشتغل على الموضوع الذي طلب منّي.. وحين قدمت التسويدات الأوليّة لبلمهدي وبناني، وهما عرضاها على الملك الحسن الثاني، نالت لوحتي إعجاب الملك الذي رآها موفقة وأمر بطباعتها على الأوراق المالية" يقول بن يسّف. وكان هذا التعاطي من القصر الملكي المغربي مع لوحة "المسيرة الخضراء" للفنان التشكيلي أحمد بن يسّف سابقة جعلت ذات الفنان أول تشكيليّ مغربي ومغاربيّ وعربيّ تبرز لوحة له على الأوراق الماليّة وهو على قيد الحياة، بل أضحى، وفقا لجريدة "إلبايّيس" الإسبانيّة، ثالث فنان تشكيليّ، على المستوى العالميّ، يشاهد رسوماته على أوراق نقديّة وهو على قيد الحياة.. فكان بذلك استحسان الحسن الثاني منطلقا لتعامل بن يسّف مع بنك المغرب الذي يمتدّ حتّى الحين. الحاجة للنصيحة يرَى الفنان المغربي أحمد بن يسّف أنّه في حاجة للنصيحة أكثر من غيره، كتحفظا عن قدرته في تقديم "وصفة نجاح لغيره من تشكيليّي المستقبل".. لكنّه يورد في ذات السياق: "يصعب علي تقديم النصح ،لأني بدوري محتاج للنصيحة، لكن يمكنني القول بأن المواظبة والجدية والتشبث بالاستمرارية في العمل، زيادة على أهمية الممارسة المستمرّة والإخلاص، كلها عوامل ضامنة للنجاح وتحقيق الأحلام".. ويزيد: "اللوحات الفنية التي أفتخر بها هي تلك التي سأقوم بإنجازها مستقبلا.. أما ما اقترن بالماضي فهو من الماضي".