تفكيك خلية إرهابية موالية ل"داعش" ينشط أعضاؤها بمدينتي تزنيت وسيدي سليمان    جامعة شعيب الدكالي تنظم الدورة 13 للقاءات المغربية حول كيمياء الحالة الصلبة    البسيج يفكك خلية إرهابية موالية ل"داعش"    توقعات أحوال الطقس اليوم الثلاثاء    نقيب المحامين بالرباط يتحدث عن المهنة وعن المشاركة في المعرض الدولي للكتاب    موعد لقاء الرجاء الرياضي والنهضة البركانية    الدورة الثالثة للمشاورات السياسية المغربية البرازيلية: تطابق تام في وجهات النظر بين البلدين    بطولة فرنسا: مبابي يتوج بجائزة أفضل لاعب للمرة الخامسة على التوالي    الشيلي والمغرب يوقعان اتفاقية للتعاون في مجال التراث الوثائقي    المغرب يستعيد من الشيلي 117 قطعة أحفورية يعود تاريخها إلى 400 مليون سنة    اعتقالات و"اقتحام" وإضراب عام تعيشه تونس قبيل الاستحقاق الانتخابي    إسطنبول.. اعتقال أمين متحف أمريكي بتهمة تهريب عينات مهمة من العقارب والعناكب    عجز الميزانية المغربية يفوق 1,18 مليار درهم عند متم أبريل    الإعلان عن موعد مقابلتين للمنتخب المغربي برسم التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    العثور على باندا عملاقة نادرة في شمال غرب الصين    بنموسى يكشف العقوبات ضد الأساتذة الموقوفين    إسبانيا ترد على التهديد الجزائري بتحذير آخر    قناة أرضية تعلن نقلها مباراة الإياب بين بركان والزمالك    كيف بدأت حملة "مقاطعة المشاهير" التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي؟    اتفاقية مع "عملاق أمريكي" لتشغيل 1000 مهندس وباحث دكتوراه مغربي    بنموسى يعلن قرب إطلاق منصة رقمية لتعلم الأمازيغية عن بعد    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    مخرج مصري يتسبب في فوضى بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    الصحافة الإسبانية تتغنى بموهبة إبراهيم دياز    ميراوي محذرا طلبة الطب: سيناريو 2019 لن يتكرر.. وإذا استمرت المقاطعة سنعتمد حلولا بخسائر فادحة    انقلاب سيارة يخلف إصابات على طريق بني بوعياش في الحسيمة    القوات المسلحة الملكية.. 68 عاماً من الالتزام الوطني والقومي والأممي    وزير التربية متمسك بالمضي في "تطبيق القانون" بحق الأساتذة الموقوفين    الأمثال العامية بتطوان... (597)    جائزة أحسن لاعب إفريقي في "الليغ 1" تعاكس المغاربة    تنظيم الدورة ال23 لجائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية التقليدية "التبوريدة"    اليابان عازمة على مواصلة العمل من أجل تعاون "أوثق" مع المغرب    الجمعية المهنية تكشف عدد مبيعات الإسمنت خلال أبريل    النيابة العامة التونسية تمدد التحفظ على إعلاميَين بارزَين والمحامون يضربون    أمن ميناء طنجة يحبط تهريب الآلاف من الأقراص الطبية    المركز الثقافي بتطوان يستضيف عرض مسرحية "أنا مرا"    الاتحاد الأوروبي يرضخ لمطالب المزارعين ويقر تعديلات على السياسة الفلاحية المشتركة    أضواء قطبية ساحرة تلون السماء لليوم الثالث بعد عاصفة شمسية تضرب الأرض    أوكرانيا تقر بالنجاح التكتيكي لروسيا    المندوبية العامة لإدارة السجون تنفي وجود تجاوزات بالسجن المحلي "تولال 2" بمكناس    طقس الثلاثاء.. عودة التساقطات المطرية بعدد من الأقاليم    شح الوقود يهدد خدمات الصحة بغزة    الطلب والدولار يخفضان أسعار النفط    الزمالك يشهر ورقة المعاملة بالمثل في وجه بركان    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الارتفاع يطبع تداولات بورصة الدار البيضاء    الدرس الكبير    مصر على أبواب خطر داهم..    الأساطير التي نحيا بها    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    الأمثال العامية بتطوان... (596)    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا جديد سياسيّا في الأفق
نشر في هسبريس يوم 18 - 10 - 2010


بين الجدّ والهزْل
تتشبَّهُ بعضُ المنابر الصحفية عندنا بالصحافة في البلاد الديمقراطية، التي ما زلنا نتمنى أن تكون حياتنا السياسية على طِرازها، فتتحدثُ عن "الدخول السياسي" الجديد، وكأن سياسيينا كانوا في عطلة مستَحقَّة بعد جهود مضنية، في الموسم الفارط، في خدمة المواطنين والمصلحة العامة، ثم هم اليوم عائدون إلى العمل، يستقبلون موسما جديدا، يتطلب منهم التشمير والمثابرة والسعي الدؤوب والسهر المتواصل، لمعالجة قضايا الوطن الملحة، والعكوف على إيجاد الحلول المناسبة والفعّالة للمشاكل المطروحة، ولهذا وجب أن يتحدثَ الإعلام عن دخولهم الجديد، ويتابعَ ترتيب الأوليات في برنامج عملهم، ويسلطَ الأضواء على ما سيكون منهم تجاه القضايا والموضوعات البارزة التي تشغل بال الرأي العام، إلى آخر ما يفيدُ الاهتمام بهم وبعملهم، ويجعلُ المواطنين على علم بمختلف أنشطة قادتهم وصناع القرار السياسي في أمتهم.
تشَبّهٌ أراه في غير محلّه، بل أراه، من بعض النواحي، عملا ساذجا كاريكاتوريا، كسذاجة وكاريكاتورية من يصور حزب الاستقلال حزبا حاكما في المغرب لمجرّد أنه رُفِع إلى المرتبة الأولى في انتخابات2007، ولكون أمينه العام عُيِّن وزيرا أول.
وماذا عند وزيرنا الأول المسكين من سلطة وصلاحيات حتى نصوره حاكما؟
وماذا تملك أحزابنا الفائزة في الانتخابات، على افتراض أن هذه الانتخابات كانت صافية من الغش والتزوير، من سلطة اتخاذ القرارات وصناعة السياسات حتى تستحق أن توصف بأنها تحكم؟
بل ماذا عند الحكومة والبرلمان وسائر الهيئات المنتخبة مجتمعة من حرية في النظر والاجتهاد، ومن استقلالية في وضع السياسات وتسطير البرامج، ومن سلطة مادية وصريحة في الحسم في القرارات والتوجهات والاختيارات، حتى يقول عنها قائل إنها تحكم؟
إن الحديث عن الدخول السياسي الجديد عندنا تشبُّهاً بالدول التي لها تقاليد عريقة في الحريات والممارسة الديمقراطية هو في اعتقادي نوع من الهزْل الذي ينبغي الإعراض عنه، والاهتمامُ بالجدّ الذي قد يكون وراءه بعض طائل.
ومن الجدّ في هذا الصدد أن نُذكّر بأن الدخول السياسي، إن كان هناك دخولٌ أصلا، هو دخول مخزني بامتياز، لأن المخزن هو الفاعل الأساس والأوحد في اللعبة السياسية بأسرها، أما الآخرون، فهو أتباع وأعوان وموظفون سامون، يتلقون الأوامر، ويتبعون التعليمات، وينفذون ما يُؤمرون، لا فرق بين وزير أول، وبين وزير دولة أو وزير قطاع من القطاعات، أو رئيس الغرفة الأولى أو الثانية، أو مدير عام مؤسسة كذا أو مكتب كذا وكذا؛ الكل مأمور وتابع فيما يتعلق بالسياسات العليا للدولة، واختياراتها الكبرى، وقراراتها الحاسمة.
خروجٌ مطبوع بالظلم والعدوان
إن جواز الحديث عن دخول المخزن السياسي، يعني، ضمنا ولزوما، جواز الحديث عن خروجه، وأقصد هنا ما كلَّلَ به موسمَه السياسي السابق.
وفي رأيي، وحسب رؤيتي وتقديري السياسي للأمور، فإن نهاية الموسم المخزني الماضي وغالبا ما تتحدد هذه النهاية ببداية العطلة الصيفية قد طُبع بأربعة أحداث تحدث عنها الناس في حينها، وكان لها صداها في الأوساط السياسية والإعلامية، لكن سرعان ما طوتها العطلةُ الصيفية، ثم رمضانُ المعظم، ثم الدخولُ المدرسي، لكنها بقيت، ولا شك، حيّة حاضرةً عند أصحابها المعنيين بها، وعند من يهتمون بالشأن السياسي المغربي، بلبّه لا بقشوره.
وحتما، لقد سعت الدولة المخزنية ووراءها إعلامُها المُهيمن بكل أشكاله، وما تزال تسعى، لكي لا يكون لتلك الأحداث أثر وحضور يشوش على المخزن دخولَه الجديد. وقد تتبعنا كيف اجتهدت الدولةُ المخزنية، ووراءها إعلامُها المهرّج الواسع، في مسرحيّة تمثيلية صاخبة ومُملّة، للتغطية على مشاكلنا الحقيقية، ومنها المشاكل السياسية والحقوقية المُزمنة، وتَتْوِيهِ انتباهِ المواطنين وإلهاء الرأي العام بأخبارِ الصحراوي مصطفى سلمة ولد سيدي مولود، وأخبارِِ المغاربة الذين تعرضوا للضرب والإهانة على يد الشرطة الإسبانية، وكأن المواطنين المغاربة لا يُضربون يوميا ويُهانون على يد شرطة بلادهم، بل ويُختَطفون ويُعذبون خارج مؤسسات القانون ومساطره ومقتضياته.
قلت، لقد تميزت نهايةُ الموسم السياسي المخزني السابق بأربعة أحداث أُريد لها أن تٌنسى بسرعة وألا تنالَ من الاهتمام ما تستحق. واختيارُ هذه الأحداث، من بين أحداث أخرى كثيرةٍ، وتحديدُها في أربعة هو اجتهاد مني، فقد يرى غيري، حسب تقديره واجتهاده، أحداثا أخرى غيرَ ما رأيت، ويحددُها في عدد مختلف قد يزيد على أربعة وقد ينقص. فالأمر في هذا الشأن قائم على الاجتهاد والتقدير الشخصي للأحداث. ثم إن المهم عندي ليس في الرقم، وإنما هو في المضمون السياسي الذي يجمع الأحداث المختارة.
الحدث الأول، كان في فجر يوم الاثنين 28 يونيو2010، حينما اختطفت عصابةٌ بوليسية سبعة قياديين من جماعة العدل والإحسان في فاس، خارج مقتضيات القانون طبعا، وفي جو مطبوع بالعنف والإرهاب والسباب البذيء وغيرها من أنواع الإهانات والاعتداءات اللفظية والجسدية، التي لم تستثن أحدا، لا أطفالا، ولا شيوخا، ولا نساء، ولا جيران.
ولقد أقامت الدولة المخزنية القيامة احتجاجا على الإهانات التي تعرض لها بعضُ المغاربة على يد الإسبان، وسكتت سكوتَ القبور إزاء الأخبار والتقارير والشهادات التي تحدثت عن اختطافات فاس، إلا كلماتٍ ملتوية، قليلة ومحسوبة، صدرت من بعض أبواق الدولة، تميزّت بالتمادي في التعنّت والجحود والتكبّر والعناد.
وقد فرض هذا الحدثُ نفسَه خلال فصل الصيف، من خلال التقارير الحقوقية العديدة التي صدرت عن هيئات داخل المغرب وخارجه، والتي طالبت بفتح تحقيق جاد في الموضوع، وعبرت عن قلقها تجاه ما يعانيه المعتقلون وعائلاتهم.
وقد كان القمعُ الذي تعرض له المواطنون الذين حجّوا لمحكمة الاستئناف، بمناسبة عرض المتهمين على وكيل الدولة، ومثولهم أمام قاضي التحقيق، مناسبة أخرى لبقاء الأضواء مسلطة على هذا الملف، الذي لم تفلح الدولةُ في جعله ملفا عاديا، كسائر الملفات الجنائية الكثيرة المعروضة على المحاكم. بل لقد انفضح الطابعُ السياسي لهذا الملف، حتى بات حديثَ المهتمين وغيرِ المهتمين، فضلا عن التغطية الإعلامية الواسعة التي حظي بها داخل البلد وخارجه، في القنوات الفضائية، وفي الإذاعات المسموعة، والجرائد المقروءة، وما لا يُحصى من المواقع الإلكترونية، الإعلامية وغير الإعلامية.
والحدث الثاني كان هو الآخر في نهاية يونيو2010، يوم 28 أو 29، لا أعرف بالضبط، ويتعلق بما سمّيته، في مناسبة سابقة، انفجارَ النائب البرلماني، عن حزب العدالة والتنمية، الأستاذ مصطفى الرميد، حينما هدّد بالاستقالة من البرلمان محتجا على القيود التي تمنعه أن يقوم بعمله كما يجب، وعلى التدخلات الحكومية السافرة في شؤون البرلمان، الذي يفترض فيه أنه سلطة مستقلة عن الحكومة.
لقد أعلن السيد الرميد تمرّده على قواعد اللعبة السياسية المخزنية حينما رفض أن يستمر في لعب دور "الكومبارس"، حسب تعبيره، أي دورِ النائب البرلماني الذي ليس له إلا صلاحيات شكلية محدودة، يُستغَلُّ وجودُه لتزيين واجهة ديمقراطية ليس وراءها إلا السلطة المخزنية المطلقة.
لقد قالها الأستاذ الرميد بكل صراحة؛ ليس البرلمان، في "اللعبة" السياسية المغربية، إلا آلة مطواعة في يد الدولة، تتحكم في كل شؤونه، بل لا تترد في التطاول على صلاحياته القليلة أصلا، المحدودةِ الأثر في رسم سياسات الدولة وصياغة القرارات المهمة.
ومع هذه التبعية التي تَضرب في الصميم مصداقية المؤسسة التشريعية، هناك الإهانات التي يتعرض لها النواب في كثير من المناسبات، وهو الفعل الذي يؤكد أن الأصل في عمل النائب المنتخب، في قواعد اللعبة المخزنية، أن يكون هذا النائب دائرا في فلك الدولة، خادما لسياساتها، خاضعا لسلطانها، ومتجاوبا مع أهوائها، ولو على حساب المصلحة العامة ومصالح المواطنين الناخبين.
لكن تمرّد السيد الرميد لم يدم طويلا، إذ سرعان ما أعلن، في مؤتمر صحافي عقده يوم 30 يونيو2010 عن تراجعه عن الاستقالة التي هدّد بها، معللا قراره بالتراجع بإجماع أعضاء الأمانة العامة، فضلا عن إجماع آخر في دائرته التشريعية، على رفض استقالته.
والمثير في هذا الحدث أن الدولة لم تستسغه، إذ قامت قيامتها، فرأيناها تتحرك من خلال صدور ثلاثة بيانات كلها إدانةٌ لما قام به الأستاذ الرميد، وتشكيكٌ في نيته وهدفه، وتجريحٌ وتهديد وتنبيه، ورسائلُ أخرى مدسوسة بين السطور.
البيان الأول كان مشتركا بين أربع وزارات في مقدمتها وزارة الداخلية أم الوزارات، كانت وما تزال، ووزارات الصحة والتعليم والاتصال، والثاني من مكتب مجلس النواب، والثالث من مجلس المستشارين. ويضاف إلى هذه البيانات النارية الثلاثة ردودُ وزير الداخلية في جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس النواب يوم الأربعاء 07 يوليوز2010، التي امتازت بالشدّة والتهديد المعهودين في اللغة المخزنية.
والمغزى من ذكر هذا الحدث من بين ما ميّز السنة السياسية المخزنية الماضية أن السيّد الرميد هو واحد من "أبناء الدار"، أي واحد من المشاركين في اللعبة السياسية وفق الشروط المخزنية، وواحد من المدافعين عن النظام وثوابت دولته وتوجهات سياساته، ولم يشفع له كل ذلك لدى الدولة عندما تجرأ فقلب الطاولة، وفضح جوانبَ من التمثيلية السياسية التي تتخذ من البرلمان والبرلمانيين واجهة لتجميل وجه الاستبداد القبيح.
وأنا لا أستبعد أن يكون للدولة وضغوطاتها المتنوعة، الخفية والعلنية، يدٌ، ولو بشكل غير مباشر، أو من طريق طرف ثالث، في رجوع السيد الرميد عن الاستقالة التي هدد بها.
والحدث الثالث كان يوم 17 يوليوز، حيث أعلنت محكمة الاستئناف بسلا، تخفيضَ الحكم على السياسيين الخمسة، السادة محمد المرواني، ومصطفى معتصم، وعبد الحفيظ السريتي، والعبادلة ماء العينين، ومحمد الأمين الركالة، المتهمين في ملف ما عُرف ب"خلية بليرج"، إلى عشر سنوات، أما السادس محمد ناجيبي، الذي حكم عليه ابتدائيا بسنتين، فقد كان أنهى محكوميته قبل الاستئناف.
والذي يعنينا في هذا الحدث الذي ميّز، في رأيي، الموسم السياسي المخزني السابق، هو إصرار الدولة المخزنية على الظلم الذي أوقعته على الرجال الستة، الذين لم تستطع المحكمة أن تثيت عليهم شيئا يمكن الاعتداد به لإدانتهم. ورغم سطوع براءتهم، فإن المحكمة ثبّتت حكم الإدانة في الاستئناف، وإن جاء الحكم مخففا بالمقارنة إلى الحكم الابتدائي، رغم الوعود التي صدرت عن الدولة بضمان محاكمة عادلة للمتهمين أثناء مرحلة الاستئناف، بعد أن خاض المتهمون الستة ومعهم عائلاتهم والمتعاطفون معهم وهيئاتٌ حقوقية عديدة أشكالا نضالية مختلفة، للتعريف بمظلوميتهم والمطالبة بإنصافهم.
تثبيت حكم الإدانة في الاستئناف، وإن بأحكام مخففة، يعني تثبيت ما أسميه "وضعَ اللاعدالة" في المحاكمات السياسية، التي تكون الدولة فيها دائما خصما وحكما معا، والتي ما تزال أي المحاكمات السياسية الظالمة من سوءات الدولة المخزنية ومميزاتها السوداء في مختلف العهود.
وها هي ذي الأخبار في هذه الأيام تتحدث عن استعداد السياسيين الستة المظلومين لخوض ما أسموه "معركة الموت"، حيث من الممكن، حسب ما يروج، أن يستأنفوا إضرابهم المفتوح عن الطعام الذي كانوا علّقوه في 9 أبريل2010 بعد أن سمعوا وعودا بأن تكون محاكمتهم في الاستئناف عادلة.
ولقد أخلف المخزنُ وعده، إذ مرّ الاستئناف وليس ثمة إلا "اللاعدالة".
والحدث الرابع، الذي ميّز نهاية السنة المخزنية الماضية، في تقديري، هو إعفاء الدكتور رضوان بنشقرون من رئاسة المجلس العلمي لعين الشق بالدار البيضاء. ويُرجّح أن هذا كان في 15 يوليوز. وبخصوص تواريخ هذه الأحداث، أريد أن ألفت انتباه القارئ الكريم أن تحديد اليوم بالضبط ليس مهما، لأن الغرض الأساس فيما نحن بصدده هو الحدث نفسه، ثم الشهر الذي وقع فيه، وليس تاريخ يومه بالتحديد.
والسبب المباشر وراء هذا الإعفاء الذي لم يصدر عن الدولة في شأنه أي بيان، وحسب ما نشرته كثير من وسائل الإعلام، وكذلك حسب ما يمكن استنتاجه من سيرة الأستاذ بنشقرون ومن بعض آرائه وخطبه التي لم تكن تلقى استحسانا لدى الدولة المخزنية، وإن كان الرجل هو الآخر، مثل الأستاذ الرميد، من أبناء الدار، ومن العلماء "الرسميين" المدافعين عن سلطات أمير المؤمنين السياسيةِ والدينية المطلقة
قلت السبب المباشر في إعفاء الأستاذ بنشقرون، كما ترجّح الأخبار المتوفرة، هو توقيعه مع أعضاء المجلس المحلي الذي كان يترأسه بيانا يعارضون فيه استدعاء المغني اللوطي الشاذ إلتون جون للمشاركة في مهرجان موازين بالرباط، في ماي2010. وقد ذكرتُ في غير هذا المكان سببا مباشرا آخر وراء إعفاء السيد بنشقرون وهو مشاركته في الجمعية الثالثة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، التي انعقدت في مدينة إستنبول بتركيا في نهاية شهر يونيو وبداية شهر يوليوز2010.
وقد يقول قائل إن إعفاء السيد بنشقرون هو حدث عادي لا يستحق أن يُسلك في مميِّزات الموسم السياسي المخزني المنصرم.
أنا لا أملك إلا أن أحترم رأي هذا القائل المُفترَض. ولقد قلت وأكرر أن اختياري لهذه الأحداث وتحديدَ عددها هو اجتهاد مني خاضعٌ، بالضرورة، للزاوية التي أُطلُّ منها على المشهد السياسي المغربي، وللخلفية التي أقرأ بها الأحداثَ وأقيّمها وأصنفها وأرتبها.
وعندي أن إعفاء السيد بنشقرون يؤكد الطابع الاستبدادي للدولة، ويفضحُ دعوى استقلالية العلماء، وأن من مهامهم حمايةَ الأمن الروحي للمغاربة، والدفاع عن الإسلام، والتشبث بالمذهب المالكي روحا جامعاً ومرجعية فقهية عاصمةً من التشتت والفرقة المذهبية.
إن السيد بنشقرون، ومعه أعضاء المجلس العلمي لعين الشق، لم يقولوا إلا النزرَ اليسير مما يجب عليهم قولُه، ورغم ذلك لم يُقبلْ منهم، ولو من باب غض الطرف وكأن شيئا لم يكن.
المخزن وما أدراك ما المخزن يريد أن يجعل من السيد بنشقرون عبرة للآخرين الذين تسوّل لهم أنفسهم أن يقولوا بمقالات لا ترضى عنها الدولة، ولا تتناغم مع سياساتها، وخاصة في المجال الديني، حيث القولُ الفصل للدولة، وحيث العلماء تابعون مأمورون، لا سلطة فعليةً لهم للتعبير عن أحكام الإسلام بكل حرية، ولإفتاء الناس في أمورهم مُبيِّنين غيرَ كاتمين.
باختصار، المخزن لا يريد للعلماء أن يكونوا ورثةً للأنبياء، بل يريدهم أن يكونوا موظفين لدى الدولة، يصنعون لها ما تريد من الفتاوى والبيانات، ويُؤمِّنُون لها الواجهةَ الدينية المطلوبة، التي تسترُ توجهاتٍ وسياساتٍ واختياراتٍ قوامُها لائكيةٌ هجينة، هي أخطر على المسلمين في آثارها من اللائكية الأصيلة في منبتها اللاديني؛ لائكيةٌ هجينة تُفرغ الإسلام من مضامينه الحقيقية، الإيمانية والعملية والسلوكية والأخلاقية، وتُحيله قشورا بلا لُباب، وطقوسًا فولكلورية، وشعوذاتٍ وخليطاً من الممارسات المنحرفة والضلالات الشيطانية، التي تفتح الباب واسعا لنشوء الظواهر "اللادينية" الخطيرة، كظاهرة "المُجاهرين بالإفطار في رمضان"، وظاهرة "اللوطيين"، وظاهرة "عبدة الشيطان"، وظاهرة "المهرجانات"، التي أصبحت تعجّ بكل أنواع الموبقات، والتي دفعت أمثال الأستاذ رضوان بنشقرون إلى الانتفاضة ضدها.
لكن، كم عندنا اليوم من أمثال السيد بنشقرون، وخاصة من بين علماء الدولة الرسميين؟
دخولٌ مخزني بامتياز، ولا جديد في الأفق
لماذا دخولٌ بامتياز؟
لأنه دخولٌ تميّز، أول ما تميّز، بالظلم والاستبداد، وهما، في اعتقادي، خصلتان من لوازم نظامنا السياسي الجبْري اللاشوري، بهما يتميز من بين الأنظمة، وبهما تكاثرت وتراكمتْ وترسّخت الصفحات السّوداءُ في ملفه الحقوقي خلال عقود وعهود.
وقد تجلّت خصلةُ الظلم المخزني، أوضحَ ما يكون التجلّي، يوم 04 أكتوبر2010، تاريخ انعقاد أول جلسة في محاكمة أعضاء جماعة العدل والإحسان الثمانية، منهم السبعةُ المعتقلون الذين اختُطفوا وعُذّبوا، في خرق سافر لكل نصوص القانون ومساطره، قبل أن تُلفَقّ عليهم تُهمٌ يشهد تلفيقُها بأن دولةَ المخزن عندنا، من شدة التجبّر والتكبّر والعدوان على جماعة العدل والإحسان، لم تعد تحتاج إلى اللجوء إلى التحايل والتستّر، ولا إلى الاستعانة بوسائل التجميل والتمويه والخداع لإخراج ظلمها في شكل يمكن إقناع بعض الناس بقبوله، بل بات ظلمُها سافرا بلا قناع ولا حياء ولا وجل، ولْتَذهبْ التقاريرُ الحقوقية المندّدة، والشكاياتُ المُتظلّمة، والأصواتُ المحتجة، والحقائقُ الصارخة، والوقائع الفاضحةُ إلى الجحيم.
المخزنُ يعني الظلمَ، والظلمُ يعني المخزنَ. إذن، لم نعد نحتاج إلى ما يُثبت واقعَ الظلم، ما دام هذا الواقعُ بات متلبسا بوجود النظام، لا ينفك عنه ولا يزول.
وقد تابع الناسُ من كل الطبقات والحيثيات والتوجهات، إما مباشرة في فاس، وإما من طريق وسائل الإعلام العديدة، حالة الاستنفار الأمني الاستثنائية التي عرفتها مدينة فاس في يوم الجلسة الأولى في محاكمة سياسية ألفا في المائة، أراد لها صانعوها أن تكون محاكمة جنائية عادية، فانقلب السحرُ على الساحر، وبات القاصي والداني، إلا من أراد أن يغالط ويعاند، على علم بأن ما جرى في مدينة فاس في ذلك اليوم، وفي محيط محكمة الاستئناف على الخصوص، كان بسبب محاكمة أعضاء جماعة العدل الإحسان المظلومين، الذين اختُطفوا بغير حق، وعُذبوا بغير حقّ، واتُهموا بغير حق، وأن تهمتهم الأصلية والحقيقية هي أنهم أعضاء في جماعة لا تبرح تقول: "لا" للمخزن، "لا" للحكم الجبر الاستبدادي، "لا" لدولة القمع والمنع والتعليمات، "لا" لدولة الإرهاب البوليسي والاختطاف والتعذيب.
لقد كان يوم 4 أكتوبر، سمة بارزة في بداية الموسم السياسي المخزني. وستكشف لنا الجلسات المقبلة لهذه المحاكمة بقية السمات، ولست أراها إلا سوادا في سواد.
أما خصلةُ الاستبداد التي ميّزت بداية الموسم المخزني الجديد، فقد تجلّت، في رأيي، في افتتاح السنة البرلمانية الجديدة يوم الجمعة 8 أكتوبر2010.
باختصار، لقد حضر البرلمانيون من المجلسين للاستماع إلى خطاب الملك الافتتاحي، الذي لا يُناقش، حسب الفصل الثامن والعشرين من الدستور الممنوح.
لقد قرأ الملك خطابه على الحاضرين، وعرض عناوين البرنامج الذي على المجلسين التزامُه والاجتهادُ في استيعابه ووضع التشريعات المناسبة لتنفيذه، خلال السنة التشريعية المُفْتَتَحة، محددا في هذا الخطاب الأولويات حسب رؤية السلطات العليا في البلاد، لا حسب رؤية الحكومة ومن ورائها أحزاب "الأغلبية"، كما يُسَمُّونها، ولا حسب برامج النواب المُنتخَبين ومن ورائهم برامجُ أحزابهم وأصواتُ ناخبيهم.
برنامج البرلمان هو بالضرورة مستوحى من خطابات الملك في الجلسات الافتتاحية، ومن غيرها من التوجيهات والتعليمات والأوامر. وكذلك برنامج الحكومة، فهو برنامج الملك، لأن الحكومة في العرف السياسي عندنا هي حكومة الملك.
رُفعت الأقلامُ وجفّت الصحف، وليذهَبْ كلُّ واحد لعمله، ولْيهتمّ بشغله.
وحينما أتحدث هنا عن الاستبداد، فإني لا أقصد سبّا ولا تجريحا، وإنما أصف ما هو مدوّن في فصول الدستور الممنوح، وما هو مؤكد بالأفعال والممارسات في أرض الواقع، فضلا عن الطقوس والتقاليد المخزنية الموروثة، التي تُعتبر دستورا عرفيا، والتي تضع بيد الملك مطلقَ السلطات، وترفعه فوق كل المؤسسات، وتقدسه وتنزهه أن يناله نقد أو مراجعة أو حساب.
ولقد سبق لي أن نبهت في مناسبة سابقة، وأكرر الآن نفس التنبيه، "أن استعمال كلمة "استبداد" هنا هو استعمال لغوي بريء، ليس يُقصد منه سبّ ولا قذف ولا إهانة ولا تجريح؛ في لسان العرب: استبدّ فلان بالأمر إذا انفرد به دون غيره...إذن، أليست مؤسسة الملك تنفرد بجميع السلطات دون غيرها من المؤسسات؟ ألم يخاطب الحسن الثاني، رحمه الله وغفر الله لنا وله، أعضاء مجلس النواب، سنة1963، قائلا: "...إن الوزراء هم أعواني، وأنتم[يقصد النواب] كذلك أعواني..."؟ أليس هو القائل: "إن الدستور لم يمنح الممثلين سلطات، بل منحهم التزامات..."؟ ألم يؤكد الحسن الثاني استبدادَ الملك بجميع السلطات حين قال: إذا كان هناك فصلٌ للسلطات، فإنه لا ينطبق على مستوانا، بل على المستوى الأدنى"؟". انتهى التنبيه.
إذن، فلننتظرْ أن تيقى دارُ لقمان على حالها، ما دام سياسيونا المرضيّ عنهم، قانعون بالحديث في القشور السياسية حفاظا على امتيازاتهم ورواتبهم ومصالحهم الشخصية المادية ومصالح أحزابهم الضيقة، إن كان لهم أحزاب.
فلننتظرْ سنةً سياسية عجفاء جديدة ما دام أحسنُ سياسيينا المشاركين في "اللعبة" طريقةً، وأكثرُهم جرأة على الموضوعات السياسية، في هذه الأيام، لا يتعدّى الحديث المهموس، في كثير من الأحيان، عن تعديل مدونة الانتخابات، وإعادة النظر في نمط الاقتراح، ومحاربة ظاهرة الترحال السياسي، وأمثال هذه من القضايا القِشْريّة، التي لا تقترب من اللب ولو بالتلميح والإشارات البعيدة، والويلُ ثم الويل إن هو همس بشيء له علاقة بتعديل الدستور لصالح المؤسسات المنتَخَبة؛ فالوقت هو وقت الإعداد لمأدبة2012، والحكمةُ عندهم، والحنكة، والكياسة، والذكاء، والدهاء، والسياسة طبعا، ألا يعرّجوا ناحية الملك وحماه الواسع الذي لا حدود له.
وعِنْدَ الله وحده، سبحانه، (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلا هو)(سورة الأنعام)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.