إذا كانت المباركة قاسما مشتركا بين المسجد الحرام و المسجد الأقصى، و إذا كانت التلبية استجابة لنداء حج بيت الله الحرام، فإن تلبية "نداء الأقصى" ذات بعد تعبدي، " تلبية المساندة " و "الدفاع عن الحرمة المقدسة ". " التلبية " شعار يتوحد عليه أكبر عدد من الناس في أقدس مكان، "تلبية التفاني" و التجرد من الذات، كما قال عليه الصلاة و السلام : " لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة ". إنها " تلبية الإخلاص"، صلة الوصل بين الإنسان و خالقه، أمر للتجنيد التعبدي، فالناس يقولون: "سمعا و طاعة" للبشر، و أنت تقول "لبيك" للخالق. إن من معاني " التلبية" " الاقتراب" فهي مأخوذة من "الإلباب"، و هو اقتراب بعد اقتراب، و الاقتراب مفهوم تعبدي، ( و ما اقترب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). إن المرابطين في المسجد الأقصى ملبون بالكلام و في المكان، فمن اشتقاقات التلبية فعل " لَبّ بالمكان" ، إذا أقام به ولزمه، فهؤلاء ملبون، ملتزمون، مطيعون، نائبون عن الأمة. إن القدس "أم لَبًة "محبة لأبنائها بمسقط الرأس و بالتبني و بالإحساس، اختارها المرابطون حبا و طواعية، فهي قلب الأمة النابض، قبلتهم التعبدية الأولى، ومهبط الأنبياء و مسرى سيد البشرية. إن التلبية شعار التوحيد، ملة إبراهيم، الذي قام في الخليل ثم رحل إلى مكة ليعود إلى فلسطين، وهو محور التلبية و المباركة، من الخليل إلى الكعبة ومن الكعبة إلى الخليل، اكتمال ل"دائرة المباركة" بين رحلة " الأب إبراهيم " و رحلة الإبن " عليه الصلاة و السلام ". إن التلبية قاسم مشترك بين " الحجاج و المرابطين و الحجر "، فالكل في عبادة و توحيد، كما جاء في الحديث النبوي: " ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا ". و للحجر في الحج عمق رمزي: من الحجر الأسود إلى الصفا و المروة إلى حصى الجمرات المختلفة، فالحجاج يرمون، برمزية، الشيطان، و المرابطون يرمون، بالحقيقة داخل المسجد الحرام، الصهاينة المحتلين، فبالحجر قد تبني البيت و قد تدافع عن حرمة الأمة و الوطن. إن التلبية شعار مؤتمر الحج، من البداية إلى النهاية، تقولها و أنت بالطائرة، حين تصل إلى مواقع الإحرام، سلوك عميق فوق السماء قد تتضجر منه "المضيفات" و قد تدرك بعضهن علاقة الأرض بالسماء. " لبيك "، جمالية الإجابة التاريخية لنداء إبراهيم عليه السلام بالحج " إجابة بعد إجابة"، "إجابة تستلزم إجابة" "، "إجابة تعطيك دوام الإجابة"، إجابة يعبر عنها الحجاج المغاربة ب" شبكنا في سيد النبي"، و من " شبك يعيش إحساس "التشبيك" طول عمره"، و يعتبرون أن من لم يشبك فهو محروم، و يدعون بإحساس جميل، " اللهم لا تحرم مسلما من ذلك المقام"، إنه عمق نداء إبراهيم عليه السلام و آذانه : ( و أذن في الناس بالحج يأتوك )، كل الناس ليس الميسورين فقط، فقد تتاح الفرصة للجميع، لا عليك، استجب للدعاء و قل " لبيك" و ستجد قدر الحج يهيئ لك الطريق، و أغلب المغاربة يدركون ذلك، فعائق لبيك الوحيد هو " القرعة ". فلا تكن تعيسا شقيا ترفض الإجابة، فقل " لبيك " في هذه الأيام لعلك تكتب من "الحجاج بالنية"، أو لعل الله يهيئ لك قدرا بالقرعة أو بالإقامة أو بالسياحة أو بالعمالة أو بالمشاركة في ندوة، أو بغيرها من أقدار الحج ، المهم أخلص النية و أحسن الظن، فالله عند حسن ظنك، فلديه تأشيرات خاصة للمخلصين، لا تطلع عليها السفارات. إن التلبية روح العبادات كلها، تأخذ رمزيتها بالمقصود بها، ولهذا كانت شاملة للحمد و النعمة و الملك، اعتراف شامل بالألف واللام المفيدة للاستغراق، ثلاثة عناصر ، العلاقة بينها تفيد عمق العبودية بكل أنواعها، و نطرح السؤال للتأمل حول العلاقة بين الحمد و النعمة و الملك بين الواقع و القدس؟ إن التلبية لحظة تأمل في الذات و الواقع، كان أنس بن مالك، رضي الله عنه، إذا أحرم لم يتكلم في شيء من أمر الدنيا حتى يتحلل من إحرامه، وكان شريح، رحمه الله، إذا أحرم كأنه حيّة صماء من كثرة الصمت والتأمل والإطراق لله تعالى، إنها " تغطية التلبية ". أما تأمل "تلبية المسجد الأقصى" فهو استغراب من حال الأمة التي تعيش "خارج التغطية" الزمانية و المكانية، هذه التغطية الذي يدركها العدو جيدا، فهو يختارها و يقسم القدس زمانا و مكانا، و يستغل " فتنة العرب " بالحروب و الأحوال الخاصة، في تحد لهم و للعالم.