بعيدا عن المصطلحات الغليظة والمفاهيم المعقدة، علمت بقصة تُصَوِّرُ مشهدا من مشاهد الكثير من المغاربة، لكنها تختزل كل أوصاف وتحاليل الواقع دون استعمال "لغة" النخبة. "" إنها قصة امرأة وقفت أمام محل جزارة مشدوهة تحدق في لحوم "البقري" و"الغنمي" المعروضة.. ولما سألها الجزار عما تريد، كان جوابها اختزالا لواقع حال الكثير من المغاربة، إذ قالت :" آولدي أنا ماكليت اللحم منذ شهور، تنشوف فيه غير معلق عندك"، فقال لها الجزار مبتسما "واش بغيتي ندير ليك يا ميمتي؟"، فقالت "واش يمكن تعطني 4 دراهم ديال الكفتة؟"، فرد عليها "أش غادي دير ليك 4 دراهم ديال الكفتة وكيفاش غادي نعبرها ليك يا ميمتي؟"، تنهدت المرأة وأردفت "بغيت غير نديرها في الكاميلا ونشمها راه شحال هادي ما شميت اللحم طايب..."، فلّم الجزار حوالي 150 غراما من الكفتة ومدها للمرأة رافضا أخذ 4 دراهم، وقال لها "والله يا ميمتي لو كانت الحركة دايرة شي شوية حتى نعطيك أكثر من هذا، لكن الغالب الله". إنها قصة تختزل، ببساطة مرة، واقع حال الكثير من المغاربة، ففي زمن الارتفاع الصاورخي للأسعار وتدني الأجور ببلادنا السعيدة، وفي وقت ارتفعت فيه أصوات من جديد للتنديد بالغلاء الذي أتى على آخر هامش من القوة الشرائية لأغلب المواطنين، وظهر فيه الوجه الحقيقي للسياسة الأمنية المعتمدة والرغبة في العودة إلى عقلية سبق لها وأن اعتمدت ذريعة الخطوط الحمراء لإسقاط الرؤوس "القاسحة" بالقصر الكبير وبني ملال والآن بصفرو، ها هو خط أحمر جديد (منع الوقفات الاحتجاجية) أعيد تفعيله مؤخرا لاغتيال ثقافة الاحتجاج، والتي لا ديمقراطية دونها، أراد من أراد وكره من كره. هذا في وقت شمل التذمر والسخط رجال الأمن ومتقاعدي الجيش وأوسع فئات الشعب، والتعامل مع ثقافة الاحتجاج أضحى من المؤشرات الدالة على التفعيل الحقيقي لمسلسل الانتقال الديمقراطي، إذ أنه عبر التعامل معها تتجلى أهمية صيرورة الانتقال من مؤسسات الدولة إلى دولة المؤسسات، ومن قانون وحق الدولة إلى دولة الحق والقانون، ومن الاستفراد بصناعة القرار إلى تفعيل آليات المشاركة وإمكانيات أخذ مطالب الشعب بعين الاعتبار، ومن الحيف الاجتماعي الممنهج إلى العدالة الاجتماعية؛ وفي هذا الصدد شكل التعاطي مع "انتفاضات الخبز أو الجوع" امتحانا عسيرا للحكومة كشف رسوبها بامتياز. هل الاحتجاج أضحى جريمة في عرف القائمين على أمورنا؟ وهل ليس من حق المغاربة أن يكون الاحتجاج من "شيمهم" رغم أن "الشوكة وصلت للعظم"؟ وهل طريق النضال الحقوقي، في العهد الجديد لا زال طويلا ومريرا ومحفوفا بالمحن لكون الدولة لم تتشبع بعد بثقافة حقوق الإنسان وضرورة وجود ثقافة الاحتجاج؟ وهل هذه من الإشارات الفاضحة لكون القائمين على الأمور لم يختاروا بعد الديمقراطية كنهج رغم شراكتهم في الأرضية المواطنة لنشر ثقافة حقوق الإنسان؟ لقد سبق وأن تم التنبيه إلى أن مغاربة اليوم ليسوا هم مغاربة الأمس، وأن استمرار تدني الأوضاع المعيشية هي قضية تدعو للقلق حقا، وها هي أحداث صفرو وضواحيها تؤكد ذلك. فمن الطبيعي والمنطقي أن يعبر الساخطون عن مواقفهم، وفعلا كان شكل هذا التعبير واضح المعالم، سواء على مستوى المشاركة السياسية أو من خلال تصاعد موجات الاحتجاجات الاجتماعية، وكان من المفروض أن يولي القائمون على الأمور الأهمية البالغة لهذا، وذلك اعتبارا لخطورته، خصوصا وأن الجميع يدرك أن البلاد تعيش ظرفية خاصة، إذ ينتظر المغاربة بداية إرساء أسس ديمقراطية شاملة وبلورة سياسات وإجراءات من شأنها تمكين استدراك النواقص المتراكمة في مختلف المجالات السياسية، الاجتماعية والاقتصادية التي جعلت المغرب يعيش وضعا هشا. فكيف والحالة هذه، قبول استمرار القائمين على الأمور في وهمهم القاضي بأن مختلف الإجراءات القمعية والاستفزازية هي السبيل لوضع حد للسخط المتنامي في صفوف السواد الأعظم من المغاربة الذين فقدوا قدرتهم الشرائية جراء الارتفاع الصاروخي، غير المسبق، لكلفة المعيشة وبفعل جمود وتقهقر الأجر والدخل؟ ألم يدركوا بعد أن دواعي السخط والتذمر "مستدامة" الوجود ولا يمكن بأي حال من الأحوال، التصدي لها بالقمع والتنكيل والإفراط في استعمال القوة؟ فكيف لا تتسع دوائر السخط والتنديد وانتفاضات "الخبز" أو "الجوع" وآليات التفقير لا زالت تحصد الضحايا؟.