تتكون كلمة " نوستالجيا " من مقطعين يونانيين، " نوستوس" و تعني العودة إلى الوطن، و المقطع الثاني وهو " ألجوس" و تعني الألم، و قد استعمل هذه الكلمة هوميروس كثيرا في ملحمة "الإلياذة "، واستعمل الكلمة الباحث السويسري "يوهانز هوفر" سنة 1688 للتعبير عن حنين الجنود السويسريين إلى وطنهم و الذين كانوا يحاربون في فرنسا و ايطاليا. و قد دلت الكلمة سنة 1850 على مرض في الجسد، و يعود المفهوم في بداية القرن العشرين إلى دلالته النفسية المرتبطة بالحنين إلى الوطن، خاصة مع الحرب العالمية الأولى و الثانية، و يعمم بعد ذلك على الإحساس بالفقدان و الحنين إلى ماض ولى و لم يعد، أو الحنين إلى زمن الطفولة، كما ظهر مع الشعراء الرومانسيين، أو الحنين إلى شخص مات، أو وطن دمره الاحتلال، أو ما كانت تعرفه الذات من أمان، أليس هذا هو الزمن العربي الآن بامتياز ؟ زمن اجتمعت فيه كل النوستالجيات و أنواع الحنين، حتى الحنين إلى الإبل، فقد جاء في الأثر (أن العرب لن تدع الشعر حتى تدع الإبل حنينها)، حكمة العرب ما عادت تجدي في زمن الفتن و الحروب، لست أدري أي لعنة أصابت الشعر العربي ؟ هل الخليل بن أحمد الفراهيدي أخفى مفتاح الأوزان الشعرية ؟ هل البيت الشعري لم يعد سكنا ؟ متى كان الشاعر العربي يختار قصيدته ؟ عفوا أين هو الشاعر العربي في الليلة الظلماء حيث يفتقد البدر ؟ لا فض فوك يا متنبي العرب، شيء من نرجسيتك في زمن الذل و الهوان، شيء من عزتك و كرامتك، و كأنك جمعت الإحساس العربي ما استبقيت شيئا. نوستالجيا " حضرة الغياب" "خارج المكان": في زمن النوستالجيا العربية، أصبحت تختفي الأمكنة التي عرفناها أو زرناها في وطننا العربي، و تتغير فيه لغتنا التي تعلمناها، و أصبحت المشاهد التي لم نكن نراها إلا في الأفلام معهودة نتلذذ بمشاهدتها، فالصورة الحية أصبحت لغة العصر،يختزل فيها العالم، تخلق مفارقة بين الصورة الواقع و الصورة الحنين إلى واقع بديل، أصبحت تقام المؤتمرات من أجل صورة طفل على شاطئ أروبي و لا تقام من أجل حضارة تدمر، فما الذي بقي من حضارة بلاد الرافدين و من دجلة الخير؟ صورة قد تحركها السياسة بينما معارض صور لأطفال فلسطين ماتوا بكل أشكال الموت، و لا خبر. نحن إلى عصر لم نكن نرى وجوهنا إلا في المرآة، أما اليوم فقد تعددت الشاشات و بعدت المسافات و انضاف الصوت إلى الصورة، و أصبح العالم في الجيوب لمتابعة المصائب. إن العلاقة بين الإنسان و المكان مهددة بالزوال في أي لحظة من الزمان. و للمنافي رائحة الحنين، رائحة تقودك إلى رائحة المكان الأول، رائحة المطر التي تقود إلى الشجر الذي شب في "حضرة الغياب" بتعبير محمود درويش، و دخلت أغصانه من نافذة بيت منحوت من ثلاثة جدران و الرابع ظهر الجيران، بيت لو رأيته عن بعد لحسبته لوحة رسمها فنان أعمى على عجل، و نسي أن يرشه بنعمة اللون، فقد كان خائفا أن يرى ما صنعته يداه، أما النافذة فهي تطل على جهة واحدة: جهة الظالم والمحتل. إن النوستالجيا العربية تحكي سيرة وطن بأشكال مختلفة، تعيد تشييده " خارج المكان" على حد تعبير ادوارد سعيد في سيرته الذاتية، حيث البحث عن الطفولة البعيدة بين القدس و القاهرة و عن شبابه بين مدن العالم، إختراق للزمان و المكان، مجالدة مع الذاكرة و ضدها، استرجاع للضياع و إبقائه حيا عبر الكلمات. هكذا أصبح الأدب العربي يعيد بناء وطن مفقود و يواجه غربة بصيغة الجمع من فلسطين إلى حدود الجرح، يستعيد الأدب مجد وطن انقلب على أبنائه، عراق لم يكن يعرف الطائفية، كان يحترم النساء و يؤمن بالعلم، عراق ضاع مع أنهار الدم، و تبقى النوستالجيا هي السبيل لعدم السقوط في فخ الهويات القاتلة على الرقعة العربية. النوستالجيا و مقاومة النسيان: إن الذكرى مواجهة قاسية مع الذات، تفسح المجال لتساؤلات لا تخلو أحيانا من قسوة و رثاء، و الأحلام لا تجد متسعا في بيت يحشر فيه المتنكرون للوطن، لا أحد ينادي الآخر باسمه منذ أن صار التاريخ ذاكرة، و صار الاسم ذكرى فراشة، فالفراشات هي الذكريات لمن يحسن الدوران على النار مقتبسا ضوء الحنين. إن النوستالجيا العربية هي المقاومة بالذاكرة، هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع واقع مهترئ و الحفاظ على ماض ينفلت من بين أيدينا، هي السماح للوعي باختراق جدار العتمة، لتضميد الجراح و النفس المثقلة بالحنين. لقد صارت النوستالجيا إلى حد الألم، حزنا على ماض تولى، حنين إلى شيء ما يشعرنا بالأمل، يوم كان الشعور متسقا بالوطن. إن اللغة و الجغرافية يلتقيان في الذكرى، مغادرة للمكان من أجل العودة إليه رمزيا و إعلان الانتماء و الإمساك به إلى آخر رمق، وعي بأحابيل التاريخ و مداراته من أجل مقاومة النسيان. يا أحمد العربي، تذكر نفسك قبل الهباء، تذكر أصابعك العشر و ملامح وجهك و انس الضباب، تذكر الذكرى و انس قبضة الظلم والقهر.