تعرف دواليب الحكم في الجارة الجزائر نقاشا محتدما حول حزمة التعديلات الدستورية التي وعد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة بتنزيلها في سنة 2015. وكانت لجنة الخبراء القانونيين التي كلفت من طرف الرئيس بإعداد مسودة هذه التعديلات قد أتمت مشروعها التي تضمن 47 تعديلا على الدستور الحالي، تمس عدة فصول دستورية منها: تحديد الفترة الرئاسية في ولايتين فقط، وتوسيع صلاحيات رئيس الوزراء في مقابل صلاحيات رئيس الجمهورية، ومنح المعارضة صلاحيات مهمة في البرلمان، وتعزيز الحريات الفردية، وتوفير ضمانات للمحاكمة العادلة، وسن إجراءات لمكافحة الفساد. سياق هذه المبادرة الدستورية يأتي هذا التعديل الدستوري في إطار الوعود التي أطلقها الرئيس بوتفليقة في حملة ترشيحه للانتخابات الرئاسية لسنة 2014، والتي تضمنت إضافة إلى مراجعة الدستور، تشجيع الاستثمار، ورفع وتيرة التشغيل، وتحسين الظروف الاجتماعية للمواطن الجزائري. غير أن الرياح أتت بما لا تشتهيه السفن، إذ بعدما أعلنت الحكومة الجزائرية أنها تخلصت من المديونية سنة 2014، وتجاوز نسبة النمو خارج المحروقات حاجز 7 بالمائة، لم تستطع مجاراة تهاوي أسعار النفط العالمية، وبلغ عجز الميزان التجاري الجزائري خلال ثمانية الأشهر الأولى من العام الجاري 9.06 مليارات دولار، بعد أن عرف في الفترة نفسها من العام الماضي فائضا ب4.32 مليار دولار. هذه الأزمة الخانقة التي ألقت بظلالها على الاقتصاد الجزائري، والتي وصفها الرئيس الجزائري ب"القاسية"، معتبرا أنه "لا يمكن التكهن بانعكاساتها على الأمد القريب، جعلت حكومة عبد المالك سلال تتخذ حزمة من الإجراءات التقشفية لمواجهة تراجع أسعار النفط، تتمثل في تجميد التوظيف في القطاع العمومي في 2015، ووقف بعض من المشاريع الكبرى. ومن شأن هذه الإجراءات أن تؤثر على الوضع الاجتماعي المضطرب في الجزائر، مما دفع حكام البلد إلى استعجال التعديلات الدستورية، في محاولة لتطويق أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية سائرة نحو مزيد من الاحتقان. هل تتحول الجزائر إلى دولة مدنية؟ منذ ماي 2012 والمشاورات السياسية مستمرة حول الإصلاحات الدستورية، إذ عرفت في البداية مشاركة 150 طرفا مدنيا وسياسيا وشخصيات وطنية، غير أن مشاورات يونيو 2014 حول وثيقة تعديل الدستور المقترحة عرفت مقاطعة أحزاب وقوى المعارضة، بسبب ضعف جوهر التعديلات التي وصفت بأنها سطحية لا تمتد إلى تغيير نظام الحكم العسكري إلى دولة مدنية ديمقراطية. المشيدون بمسودة التعديلات الدستورية يصفونها بكونها مخرجا من الأزمة السياسية، وعودة إلى مضمون دستور 1996 الذي كان قد حدد فترة الرئاسة في ولايتين، قبل أن يعدلها الرئيس الحالي الذي يمضي حاليا ولايته الرابعة على التوالي، ومحطة أساسية لتقويم الاقتصاد الجزائري عبر مراجعة قوانين الاستثمار، وتوسيع مجال المراقبة البرلمانية على ميادين كانت خارج دائرة الرقابة. بينما يؤكد المعارضون أن مشروع التعديلات الدستورية غير كاف لإصلاح الوضع، وليس سوى حزمة مساحيق تجميل لذر الرماد في العيون، ويتطلب الأمر وضع دستور جديد يرتقي بالجزائر إلى دولة مدنية حقيقية مستقلة عن هيمنة العسكر، الحاكم الفعلي للجزائر منذ استقلالها، بغض النظر عن فترتي حكم "أحمد بنبلة" و"الشاذلي بنجديد". الجزائر: أزمة فساد أم أزمة تدبير؟ ينكب الخبراء الجزائريون على دراسة حلول جذرية للخروج من الأزمة الاقتصادية المترتبة عن تراجع عائدات المحروقات التي تشكل لوحدها ما يقارب 95 في المائة من مداخيل الميزانية العامة. ومع الرفض الشعبي المتزايد لاستغلال مقدرات الغاز الصخري الذي كان منتظرا منه أن يعزز الصادرات الطاقية للبلاد، لم يعد هناك بديل عن مراجعة شاملة لميزانية الدولة عبر إصلاحات هيكلية عميقة، ووضع إجراءات قوية لمحاربة الفساد الذي أنهك البلاد، إذ لازالت قضية محاكمة المتهمين في قضية الطريق السيار التي تم تحريكها من طرف القضاء الجزائري منذ سنة 2009 مستمرة. وترجع ملابسات هذه القضية إلى كشف تلاعب في مشروع تم تقديره في 6 مليارات دولار، ليصل في إنجازه إلى أكثر من 13 مليار دولار أمريكي. وبالإضافة إلى القضية المذكورة سابقا، تم الكشف عن وجود شبكة دولية كبيرة للفساد، تشمل مسؤولين جزائريين في قطاع الطاقة ومسؤولين في شركة "سوناطراك"، كانت تتلقى رشاوي وعمولات من شركات أجنبية تنشط في الجزائر، مقابل الحصول على صفقات مع شركة النفط الجزائرية. وفي مقابل قضايا الفساد التي فاحت رائحتها في نهاية الولاية الثالثة لبوتفليقة، يرى المحللون الاقتصاديون أن "الجزائر" لم تحسن تدبير سنوات الرخاء التي ارتفعت فيها عائدات الطاقة ومكنت البلاد من التخلص من المديونية ووضع مخطط خماسي للاستثمار العمومي قدرت ميزانيته ب262 مليار دولار، إذ لم تضع سياسة لتدبير المخاطر متعلقة بتقلب أسعار الطاقة في السوق الدولية، والبحث عن مداخيل أخرى لتعويض الخسائر المرتبطة بتراجع أثمنة البترول، ووضع صندوق ادخار لبرمجة الفائض الحقيقي لإنجاز مشاريع استثمارية مربحة. الجزائر.. "أزمة معارضة سياسية" كان من المتوقع أن تستفيد المعارضة السياسية من إخفاقات الحكومة الجزائرية وفشل الرئيس الحالي في تحقيق وعوده، والصراع الذي تفجر بين أجنحة الحكم الاستخباراتية والعسكرية، من أجل نيل شرعية للتحرك والمطالبة بالمحاسبة والإصلاح السياسي، غير أنها لم تستطع توحيد صفوفها من أجل ردة فعل تتوافق مع حدة هذه الإخفاقات. ويرجع الأمر إلى أن بنية النظام السياسي في الجزائر منذ الاستقلال وقبل إرساء التعددية لا تساعد على الانتقال مباشرة نحو النظام الديمقراطي، بفعل التراجع عن حقوق المعارضة السياسية التي كانت موجودة في دستور 1989، والتدخل المطلق لمؤسسة الجيش الجزائري الشعبي. كما أن مختلف الأطراف المشاركة في العملية السياسية تفتقد إلى أدنى مقومات الثقافة السياسية، إذ يلاحظ ضعف المشاركة الانتخابية والانخراط في الأحزاب، وعدم إيلاء أهمية كبيرة للتثقيف السياسي من طرف مؤسسات التنشئة الاجتماعية ووسائل الإعلام. الأحزاب السياسية بدورها تعاني من أزمة تنظيم وضبط لأعضائها، إذ يلاحظ نقص أو انعدام للولاء للحزب؛ مما انعكس على تمثيله البرلماني، وساهم في انشقاقات عديدة وخلق حالة تشرذم مؤثرة على أداء المعارضة عموما. ورغم مبادرة "التسعة عشر" التي تشكلت من مجموعة شخصيات تضم مجاهدين، ووزراء سابقين، ورؤساء أحزاب، بداية نونبر الماضي، والتي أعلنت مساعيها إلى مقابلة رئيس الجمهورية بغرض إخطاره بالأوضاع الخطيرة التي تمر بها البلاد، إلا أنها فشلت في ضم المعارضة السياسية إلى جانبها، وعرفت انسحاب عدد من أعضائها، بسبب ما أسموه "السذاجة السياسية" في التعامل مع الوضع الحالي. وتترقب الشقيقة الجزائرية إذن تغييرا ملموسا يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي وتجاوز حالة الإحباط المجتمعي التي تمر بها، ويبقى المدخل الدستوري عنصرا أساسيا في مسلسل الإصلاح المنشود، ينبغي استغلاله بشكل ذكي من لدن قوى المعارضة لتحقيق تغيير جذري يقطع مع السلوك المستبد للعسكر الحاكم ويمهد لدولة مدنية جديدة.