أكتب على السجية الآن. لا أهتم بزخرفة الألفاظ، ولا بتلوين الجمل. إنما هي يدي "من" تكتب، لا أنا. راودني عشق المسرح في سني عمري المبكرة. كانت أجمل لحظات أيام براءتي الأولى – كما تعبر الأغنية – حين أمعن النظر في الأجساد المتحركة على خشبة المسرح. لم تمنعني، في تلك الأيام الخوالي، ندرة المسارح في مدينتي الصغيرة من شهود الحركية المسرحية المغربية والعربية. قرأت الكثير من المسرحيات المغربية والعربية والعالمية، وتطاولت على "النقد المسرحي"، فقرأت الكثير من ما خطه جهابذة هذا "النقد" في العالم. ثم خطوت خطوة – كانت لازمة وقد امتلأ جوفي "مسرحا" – فمثلت وألفت وأخرجت مسرحيات أحسب أنها كانت لإثبات الذات، لا لعيون المسرح الساحرة. وكأي معاق حركي، كان هاجسي من وراء كل ذلك أن أنتصر على نفسي – على عجزي الجسدي، وهو الصحيح. وانتصرت ! على خشبة المسرح هزمت إعاقتي. حدث ذلك، قبل أن تنفتح تحت بصري فجوات كبيرات في أفقي المسدود، وأشب عن طوق التمثلات الاجتماعية السلبية. فهمت، بعد جهد، أن إعاقتي جزء مني، أستوعبها، ولا أنتصر عليها. أعيش بها، ولا أتعايش معها. كنت أعلم، وأنا أحث خطاي المسرحية الوئيدة قبل سنوات، أنني لن أصير يوما رجل مسرح. لكن بحثي المضني عن إثبات ذاتي كان يحركني في كل اتجاه باحثا عن موطئ قدم في دنيا الناس. موطئ قدم واحدة، لا موطئ قدمين. وفي زحمة الأقدام، لم أجد ! أذكر يوم وقفت على خشبة المسرح، أودي دور معاق يُتسول به. فصلت الدور، في مسرحيتي المونودرامية، على مقاسي. معاق يتيم، يعيش عالة على عمه في أعلى الدار، هناك في "السطح"، يخرج كل يوم مع شروق الشمس، يتسول به المتسولون، ثم يعود حين غروبها. ولأن الدار كانت آيلة للسقوط، فقد تقرر هدمها في الصباح عند شروق الشمس، لكن أهله نسوه، هناك في أعلى الدار لتهدم على رأسه. كان يصرخ، حين سمع ضجيج آلات الهدم: "عمي، لعلك لم تنس فرشاة أسنانك.. وتنساني هنا ! أوقفوا الهدم.. لا يزال هنا إنسان". لكن صوته ضاع وسط ضجيج الجرافات. واليوم، أستعيد هذه الذكريات بالكثير من الحنين. انقدحت في دواخلي هذه الذكريات حين قرأت خبر وفاة المسرحي المتألق الطيب الصديقي، رحمه الله. تعلمت منه، من بعيد، ما أنا به مدين. ولئن شاءت الأقدار أن لا أكمل مسيرتي المسرحية المتواضعة، فقد اصطبغت شخصيتي بهذا الفن. والفضل في ذلك لهؤلاء الرواد، أمثال الصديقي، الذين علمونا كيف نرى الجمال في كل متحرك وساكن، وكيف نرى – قبل ذلك وبعده – حياتنا جميلة وجديرة بأن تعاش.. وعلموني أنا، العبد المعاق، كيف أحب إعاقتي، محنتي ومنحتي.