التَّارِيخُ الدِّبْلُومَاسِيّ لِلْمَغْرِب مٌنْذ أَقْدَمِ العُصُور

على هامش النّدوة العلميّة "ستّون سنة من الدبلوماسية المغربية"
إحياءً للذّكرى الستّينيّة لليوم الوطني للدبلوماسية المغربية،وعلى هامش الندوة العلمية التي نظمها النادي الدبلوماسي المغربي بتعاونٍ مع وزارة الشؤون الخارجية والتعاون يوم 27 أبريل الفارط 2016 بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية، تحت عنوان : " ستون سنة من الدبلوماسية المغربية منجزات وآفاق"، جدير بنا أن نقوم بهذه المناسبة بإطلالة على أكبر مؤلَّف وُضِع حول تاريخ الدبلوماسية المغربية من تأليف الأديب، الباحث، المحقّق، المؤرّخ، الرحّالة، الدبلوماسي، الأكاديمي المشارك العلاّمة الصّديق الدكتور عبد الهادي التازي رحمه الله، الذي نحيي هذه الأيام الذكرى الأولي لرحيله، حيث كان قد لبّى نداءَ ربّه يوم 3 أبريل من عام 2015 بمدينة الرباط عن سنّ تناهز الرّابعة والتسعين عاماً .
إذ من بين العديد من المؤلّفات التي خلّفها لنا هذا الباحث الجهبذ كتابه الكبير" التاريخ الدبلوماسيّ للمغرب منذ أقدم العصور إلى اليوم" الذي يقع فى عشرة مجلدات ،ولقد إستغرق تأليف هذا العمل أزيد من ربع قرن،ويلقي هذا الكتاب الأضواءَ بكيفية علمية توثيقية رصينة على مختلف المراحل التاريخية التي مرّت بها الدبلوماسية المغربية منذ أقدم العهود إلى يومنا هذا.
يشير الدكتور عبد الهادي التازي فى تقديمه لهذا الكتاب:" أنه يتناول الصّلات التي ربطت العالم الإسلامي كلّه بالعالم المسيحي ،لماذا..؟ لأنّ المغرب- وهو يكوّن جزءاً كبيراً من الدولة الإسلامية الكبرى- قام بدور جدّ حاسم وخطير ومهمّ فى المجموعات الدّولية،ومن ثمّ يسوغ القول بأنه مصدر من مصادر تاريخ العلاقات الدولية لملّة الإسلام قاطبة مع الملل الأخرى ...وهل سجّل التاريخ الدولي للإسلام لقطةً أقوى وأكثر دلالةً من التي سجّلها عندما وردت سفارة من ملك إنجلترّا جون على الخليفة الناصر الموحّدي (609 – 1213) يطلب إلى العاهل المغربي أن يقدّم عونه المادي لإنجلترّا فى مقابل أن يعتنق جون دينَ الإسلام وأن يحمل أمّته على أن تحذو بكاملها حذوه..".
عن السّفارات والبعثات الدّبلوماسيّة
وقد عمل الدكتور التازي فى مقدّمة كتابه على إبراز سائر العناصر التي إسترعت نظره وهو يحرّر أبواب الكتاب وفصوله ،وهكذا – حسب قوله- :" نظراً لأهمية المراجع التي إستشرتُها خصّصتُ جانباً من المقدّمة لمصادر التاريخ الدبلوماسي للملكة المغربية، أتيتُ فيه على معظم ما توفّرت عليه من مصادر مخطوطة أو مطبوعة سواء أكانت باللغة العربية أو غيرها من اللغات الأخرى، ويضيف:" وجدتُ نفسي أمام (مناجم) إن صحّ هذا التعبير وليس أمام خزائن لآلاف الملفّات، وعشرات الآلاف من البطاقات، والخطابات،ومئات من الإتفاقيات،والمعاهدات، والبرتوكولات..فضلاً عن مئات من السّفارات، والبعثات الدبلوماسية لكلّ جهةٍ من جهات العالم ". كما تناول المؤلف فى مقدمة هذا الكتاب موضوع أصالة الممارسة المغربية فى باب التعامل الدّولي ،فضلاً عن حديثه المستفيض عن المدرسة البلوماسية المغربية حيث نجد عدداً من الدّول تلتجئ إلى المغرب ليقوم بمساعيه الحميدة من أجل إصلاح ذات البين ،وبناء قواعد السّلام ،حيث توسّط المغرب بين عدد من الدّول الأسيوية والإفريقية، وتحقّقت وساطات المغرب أيضاً بين قارة وقارة، حيث وجدناه يسعى للصّلح بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين بعض الأيالات فى إفرقيا وبين قادة المغرب العربي. وعندما يتحدّث المؤلف عن السّفراء المغاربة يتعرّض " لأوراق الإعتماد ونوعية المرشّحين للمهام الدبلوماسية ،ونشاط السفراء المغاربة فى الخارج ،ومجاملاتهم، ..وعن البعثات المتنقّلة أو البعثات المقيمة،وعن تفوّق المغرب فى تنقّلاته السياسية".
ويتضمّن الكتاب معجماً للدبلوماسيين المغاربة، حيث نجد أنفسنا أمام لائحة طويلة للذين كانوا مبعوثين أمناء للتعريف بالمغرب ،كان من بينهم سيّدات مغربيات وأخريات من أصل مغربي، هذا كما يحتوي الكتاب على باب طريف يسجّل فيه الدكتور التازي إنطباعات الزوّار الأجانب الذين كانوا يفدون على المغرب :" حول سياسة الحُكم فى المغرب ،وعن قوّة الحكم والحنكة والممارسة المتوازية ،والإستفادة من الظروف،والتسامح، والعفو، والعدل والتقوى، وإعطاء المثل للقدوة الحسنة ،وظاهرة التخلّص من عقد النقص فى الحكم المغربي ،فالدّولة اللاحقة لا تتهيّب الثناء على الدولة السابقة ،المرابطون يثنون على الأدارسة،والعلويّون يشيدون بالسّعديين ...".
ويوجز الكتاب أهدافَ السفارات المغربية على إمتداد العصور فيشير: " علاوةً على التوسّل لتحرير الثغور المحتلّة وتصفية قضايا الحدود، هناك أهداف الإخبار بالإنتصارات وإستمزاج الرّأي ،وإستقدام الخبراء،ومصاحبة البعثات الطلاّبية وتفقّدها ،وإبرام عقود السلام والتجارة،ورفع التهاني،وتقديم التعازي،ومواساة الدّول التي تتعرّض لكوارث طبيعية ،أو آفات سماوية ،كما يسمّيها إبن خلدون . وقد كان من هدف السفارات المغربية أيضاً فى بعض الأحيان شرح أهداف الدين الإسلامي، والدعوة إلى إعتناقه ،هذا إلى جانب إسترجاع المخطوطات العربية من المدن المسيحية، ودعم الصّلات مع دول المشرق وخاصةً عند مواسم الحج ".
مذكّرات السّفراء المغاربة
ويتعرّض المؤلف عند تقديمه لهذا الكتاب إلى موضوع لا يخلو من طرافة، وهو المذكرات أو الكتابات التي خلفها بعض السفراء المغاربة على إثر سفارات أو بعثات لهم إلى بلدان شقيقة وصديقة ،وتحفل تلك المذكرات فى غالب الأحايين بغرائب الأخبار، وطرائف المعلومات عن الحياة اليومية والإجتماعية لتلك البلدان وعن تاريخها،وسياستها، وثقافتها، وفنونها،وعاداتها، وتقاليدها، وأعرافها..إلخ.ففي هذا الكتاب نقرأ على سبيل المثال حديثاً ممتعاً عن يحيى الغزال عند سفارته لدى الرّوم فى العصور الوسطى ،وعن إبن العربي فى بعثته لدى البلاط العبّاسي،ولإبن بطوطة فى رحلته حول العالم حيث تُتّخَذ له صورة عند زيارته للصّين ،وعن التمكروتي بإسطانبول ،وعن أفوقّاي فى لاهاي،وعن الوزير الإسحاقي فى سفارته صحبة الأمير محمد بن عبد الله ،والسفير أحمد الغزال فى رحلته إلى الأندلس،والسفير إبن عثمان المكناسي وهو بإسبانيا،وإيطاليا،وتركيا،ويتّخذ له بطاقة زيارة ،ويتحدّث عن الثورة الأمريكية من أجل الإستقلال،ومذكرات السفير الزيّاني بمناسبة بعثته كذلك إلى إسطنبول ،والناصري فى المشرق، وأشعاش فى فرنسا،وبن إدريس بباريس،والشامي والغسال فى إسبانيا،والزبدي فى بلدان أوروبا الأربع، فرنسا، وإنجلترّا، وبلجيكا، وإيطاليا، والكردودي فى إسبانيا، وإبن سليمان فى روسيا..."وسواهم.
ونجد بين دفّتي هذا الكتاب فصلاَ عن إبرام الإتفاقيات باللغة العربية كوسيلة وحيدة للتعامل فى الداخل والخارج ،وكيف أنّ المغرب كان يرفض تسلّم الرسائل غير المحرّرة باللغة العربية،على الرّغم من وجود قلم الترجمة بالبلاط المغربي على مرّ العصور،ولأنّ المغرب ظلّ يعتمد فى توثيق معاهداته مع الأجانب على التاريخ الهجرى من غير أن يجافي أحياناً التقويم الشمسي ،كما يعتمد على إستعمال الأرقام المعروفة فى الموسوعات العالمية بالأرقام العربية .كما نجد حصراً لبعض القصائد التي تسجّل مواقف سياسية أو دبلوماسية،فى مختلف الأحقاب.
مراسيم ورود السّفارات
ويتعرّض هذا الكتاب السِّفر كذلك إلى عدّة مواضيع وأمور وأخبار لها صلة بالعمل الدبلوماسي بشكل أو بآخر فيوفيها حقّها من العناية والدّرس ،فهو يحدّثنا بإفاضة عن مراسيم ورود السّفارات،وتقاليد إستقبالهم من طرف الملوك المغاربة،وعن اللوحات التي يرسمها بعض الفنّانين المرافقين للبعثات الأجنبية ،وعن اللاّجئين السياسيين الذين إستقرّوا فى المغرب من العرب والعجم.
كما أنّ هناك فصلاً عن الهدايا المتبادلة بين المغرب وغيره من الأمم،وعن البعثات القنصلية المقيمة فى المغرب،ووضعية الدبلوماسيين الأجانب ،وعن الحصانة ،وحريّة العقيدة، والإعفاء من أداء الرّسوم الجمركية ،ومبدأ المعاملة بالمثل،منذ عهد الدّولة الموحّدية.
وقد أفرد الكتاب نبذاً حول بعض المدن المغربية العريقة التي كانت عواصم الدّول المتعاقبة فى المغرب،مثل مدن فاس،ومرّاكش ،ومكناس،وسلا، والرباط، أومدن مثل تطوان، وبادس الأمازيغية ،والعرائش،وطنجة،التي كانت لها أهميّة قصوى فى تاريخ المغرب.
ويتحدّث الكتاب بغير قليل من التفاصيل عن تتبّع المغرب لما يقال عنه وما يجرى من حواليه على الضفّة الأخرى لحوض المتوسّط ،كما يتحدّث عن إستقدام البعثات العلمية، وتشجيع الدراسات الرياضية ،وإنشاء المطابع وتعريب العلوم ،وتعميم الدراسات الحربية ،ولا يهمل شعور المسؤولين المغاربة –على حدّ تعبير المؤلّف – بسوء الظنّ من مضاعفات النهضة الأوروبية التي كانوا يخشون أن تغزو تقاليدهم، وقيمهم، وتقضي على هويّتهم.
كما نجد فى الكتاب عرضاً حول الجيش المغربي ،وعن المناورات والإستعراضات ،والأسلحة النارية ،والمؤلفات العسكرية ،وعن الأساطيل المغربية، ،ودور الصناعة،وإرسال البعثات الطلاّبية للخارج للإستفادة من الخبرة الأجنبية،بالإضافة إلى معلومات غزيرة حول تاريخ البريد فى المغرب ،وإنشاء أوّل إدارة عصرية للبريد عام 1891 ،وظهور الطوابع البريدية المغربية منذ وقت مبكّر ،ويحفل الكتاب بأخبارعن الصّحافة فى المغرب والنّشرات التي تصدرها البعثات الأجنبية فى المغرب.
كما تناول الكتاب من جهة أخرى معظم مظاهر الحضارة المغربية من عمارة وصناعة تقليدية، وطبخ،وطرائق إعداد الشّاي المغربي وتقاليد شربه ،والعطورفى الحياة المغربية...إلخ.
وإستعرض الكتاب آراء لبعض المؤرّخين القدامى فى المغرب عند هيرودوت،وعلاقات المغرب بالفنيقيين، والقرطاجنيين، والرّومان، والوندال،وعن علاقات المغرب بالخلافة الأموية بالأندلس، والصّلات المغربية الأندلسية منذ بداية تواجد االمسلمين فى شبه الجزيرة الإيبيرية إلى سقوط غرناطة 1492،ودور المغرب فى نشر الإسلام فى القارة السّمراء وتغلغل تأثيره الدّيني والحضاري فيها.ويتناول الكتاب بداية إتصال المغرب بالدّول الأوروبية وعلاقاته بها منذ بداية الدّولة العلوية، وللعلاقات المغربية الإسبانية حضور قويّ فى هذا المؤلَّف مبرزاً مشكل الثغور المغربية المحتلّة ،والسّفارات المتبادلة بين البلدين ، وعلاقات المغرب مع البرتغال،والإنجليز،وهولاندا وبروسيا،والنّمسا،وروسيا، والدانمارك، والسّويد، والنرويج، وإيطاليا،والولايات المتحدة الأمركية وسواها من البلدان الأخرى.
وبالجُملة لم يترك المؤلّف فى هذا الكتاب صغيرةً أو كبيرة ً إلاّ ورصدها،وأحصاها، وسجّلها فى أسلوب آسرِ جذّاب. وقد إهتم الكتاب باختيار ما يربو على أزيد من ألف رسم ليقف القارئ على الوسط أو المحيط أو الأجواء التي يحكي عنها الكتاب، فضلاً عن لوحات تاريخية ،ووثائق، ومستندات وخرائط لم يسبق نشرها من قبل، وجعل الكتاب شارة على غلاف كلّ مجلّد ترمز إلى حدث مهمّ فى تاريخ المغرب،علاوةً على ملاحق، ونصوص إتفاقيات، وخطابات، وفهارس للأعلام البشرية، والجغرافية، والأمم، والشعوب، والمصطلحات، والأختام، والأيام والأحداث والمواقع..إلخ. وَحَسْبُ القارئ الكريم أن يعرف أنّ هذا الكتاب يقع فى 3330 صفحة من القطع الكبير ،وهو يخرج ولا ريب من هذه السّياحة التاريخية، والدبلوماسية، والعلمية، والأدبية وقد غنم الكثير.
وما زال هذا الكتاب الضّخم يحتلّ مكاناً أثيراً على رفوف مكتبتي وفى قلبي فى آنٍ واحد، وفى مرّاتِ عديدة أجد نفسي مسوقاً ومنقاداً للرجّوع إليه وتصفّحه ،وإعادة قراءة فصول جديدة منه، ولا أخفي سرّاً إن قلتُ أنّني أجد متعةً كبرى لا حدّ لها وأنا أعيد قراءة الكلمة الرّاقية التي كان قد تفضّل المرحوم مشكوراً وكتبها أمامي على الصّفحة الأولى من المجلّد الأوّل من هذا السِّفرالكبيرعند صدوره وإهدائه لي،كنت عندئئذ أقيم بحُكم عملي فى السّلك الدبلوماسي خارج المغرب متنقلاً بين مختلف بلدان العالم، وبشكلٍ خاصّ العالم الناطق باللغة الإسبانية ،فقال لي عند تسليمي الكتاب بلهجة مغربية أصيلة قحّة مُميّزة : ( أرجوك أسّي محمّد بَرَّحْ به فى كلّ مكان حللتَ به ..) ( أيّ عَرِّفْ به..) والله يشهد أنني قد فعلتُ وما زلت...! **.
*سفير سابق، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- ( كولومبيا).