)هل سيعيد التاريخ نفسه؟) لقد أشرنا في مقالة سابقة بأن العالِم الديني، لا ينتظر منه أن يتكلم في كل شيء بصفته متخصصا في كل مجال، وإنما يتكلم مع أصحاب التخصصات كلها بصفته يحمل علما نزل من عند الله ليخرج {الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط مستقيم}، وهذا العلم للنفس البشرية كالغيث للأرض؛ يحييها ويغذيها وينعشها، وهكذا العلم الذي جاء من عند الله؛ يصحح التصور ويقوِّم السلوك ويهدي للتي هي أقوم، ومن هنا فإن كل إنسان يحتاج إلى توجيهه وإرشاده، وكل المجالات تحتاج إلى هدايته .. وعليه فإن المشاركين في التعديلات الدستورية من لجان وأحزاب سياسية وجمعيات ..، كل هؤلاء في حاجة إلى هداية القرآن والسنة، وتتأكد الحاجة في حقهم أكثر من غيرهم؛ لأنهم يشاركون في تدبير مرحلة تاريخية وحساسة من تاريخ هذا البلد الكريم، ويتحمّلون جزءا من مسؤولية الإصلاح الذي أضحى مطلبا ملحا وضرورة ماسة لإنقاذ المغرب من مخالب الفساد، والحفاظ على كرامة المواطن، والمحافظة على أسمى مقومات شعبه الأبي؛ ألا وهو الإسلام الحنيف، الذي يضمن –في حال تحكيم شريعته- كرامة المواطنين ويحفظ حقوقهم كاملة. وإذا كان الملك محمد السادس قد أكد على أن إسلامية الدولة أمر لا نقاش فيه، وأن الإسلام أول ثوابت الدستور، -وما يستلزمه ذلك من تفعيل دور الإسلام في تأطير السياسة و(تخليقها)-؛ فإننا نعلم أيضا أن ثمة توجهات تريد أن تجهض هذه الحقيقة، وأن تفرغ هذا المعطى من مضمونه، وأن تحاصر الإسلام في زاوية ضيقة من المجتمع لا تتجاوز المسجد وقلوب المؤمنين. وفي انتظار قيام علماءنا الأحياء بواجبهم الشرعي وإصدار مذكرة تضع خارطة طريق نحو ترسيخ مكانة الشريعة الإسلامية في الدستور، وبيان سموها على غيرها من تشريعات البشر، ودسترة الآليات التي تجعل أحكامها مقدمة على غيرها في التقنين وسياسة البلاد. وفي انتظار قيامهم بواجبهم الشرعي في توجيه النخب وتنوير الشعب بتفاصيل معنى إسلامية الدستور، والخروج بهذا المعنى من العموم والإجمال إلى البيان الشافي. وفي انتظار فتحهم لمنتديات خاصة وعامة؛ لمناقشة العلمانيين الذين يعتقدون تاريخانية الشريعة وأولوية التشريعات الدولية، من خلال حوارات حضارية مفيدة. في انتظار ذلك كله؛ نستشرف تاريخنا القريب، لنقتبس من مشكاة علماءنا الأموات رحمهم الله؛ كلمات مضيئة تلخص حقيقة الدستور الذي يريده العلماء. قال العلامة الفقيه الرحالي الفاروق: "من العدل مراعاة الشعور الوطني والقومي في صنع الدستور، حتى يكون مطابقا لما تجيش به صدورهم، وتؤمن له قلوبهم، وحتى يكون مبنيا على الأسس الطبيعية والتاريخية للبلاد، وهي التي نص عليها الخطاب الملكي الشريف، وهي التي عاش المغرب مكافحا من أجلها قرونا متطاولة ومتباعدة، وتاريخه السياسي حافل بمآثر الحضارة العربية والإسلامية، وشاهد صدق على تمسك المغاربة بهذه الدعائم وافتخارهم بها طيلة التاريخ، فلا سبيل إلى الخروج بهم عن صبغتهم وحقيقتهم، ولا إلى تحويلهم عن وجهتهم وقبلتهم. ومن شأن القوانين الداخلية أن تنبت من داخل البلاد، لتلتقي مع العادات والطبائع والعقائد، فلا ترتبك الحياة، ولا تتعطل المصالح، ولا تتساقط الفضائل.
ونحن الآن بحول الله مقبلون على خوض معركة جديدة وتحمل تبعة عظمية، فلابد من شجاعة كافية لتحقيق دستور إسلامي يراعى فيه تاريخ ونظام المغرب العربي المسلم ويراعى فيه التطور الصحيح، والرقي المتين الذي يحمي ساحة الدين والأخلاق، ويرفع مستوى الحياة والأفكار، ويحفظ الحقوق والواجبات، ويوضح شكل الدولة والحكومة، وينظم السلطات المختصة، والعلاقات الاجتماعية. وكتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم هما المصدر الأول للدستور الإسلامي، وهما المرجع الحقيقي في حل مشاكل الحياة، وفض النزاع الطارئ. وكذلك أعمال الخلفاء الراشدين، وأفكار العلماء المجتهدين الذين لا يخرج اجتهادهم عن قواعد الإسلام الصحيحة، ومبادئه الثابتة. ومما لا ريب فيه أن الإسلام نظام علمي يقوم في سائر الوجوه والأحكام، على خلاف ما يظنه الجاهلون؛ أنه بعيد من الحياة قريب من العبادة: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا}، بل الكون والحياة والإنسان في نظره وحدة متناسقة متعاونة بحكم صدورها عن إرادة واحدة مطلقة كاملة. فلا يمكن لمن آمن به أن يخرج عن روحه ونظامه، ولا يصح التبعيض في أحكامه وشرائعه ولا يغني التمسك به في الأقوال دون الأعمال، صدق الله العظيم الذي يخاطب رسوله بقوله: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}"اه[1]. هذا توجيه العلماء الذي صدعوا به منذ أول دستور سيضعه المغرب، وهذا هو الجانب الأهم الذي رأوا أنه ينتظم الجوانب كلها؛ لأن الدين للأمة كالقلب للجسد؛ إذا صلح صلحت أحوالها كلها، وإذا فسد فسدت. والذي يقرأ التاريخ يعلم أن هذا التوجيه تم الالتفاف عليه بمكر وخداع كبيرين، تولت كبرهما عصابة من الفاسدين العملاء الذين راكموا ثروات هائلة بسبب موالاتهم للمستعمر، وانخراطهم في تطبيق (أجنداته)، وإن استلزم ذلك انقلابهم على أهم ثوابت وطنهم .. وكما حدثنا التاريخ عن الدستور الذي يريده العلماء، فقد حدثنا عن أولئك السياسيين المتنفذين الذين رفضوا مشروعهم الإصلاحي الكبير، الذي كان كفيلا ببناء مغرب قوي ومزدهر، ينعم شعبه بعدالة اجتماعية وكرامة كاملة .. يحدثنا التاريخ عن الموقف الاستبدادي الذي وقفه الوزير أحمد رضا كديرة ضد العالم السلفي؛ شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي! لأنه وقف في وجه الفساد والمفسدين، وأبدى اعتراضه على بعض ما جاء في الدستور الأول، وبلغت الوقاحة بالوزير إلى حد وصف العالم المصلح بالرجل الضال عن الصراط المستقيم!! وبالرجوع إلى التاريخ نعلم من هو الضال والفاسد منهما؟ ومن مات زاهدا قنوعا، ومن اشترى بالملايير مقهى الأوبيرا بباريز، واشترى لزوجته بآلاف الملايين؛ منزلا بحي (هنري مارتان) في باريز؟! لقد وعد الملك محمد الخامس رحمه الله شعبه بتحقيق الملكية الدستورية والحكم الديمقراطي في ظل الحياة النيابية النزيهة، وشرع في ذلك بكل قوة وإقدام، إلا أن أعداء الإصلاح التفوا حول ذلك المشروع الإصلاحي وأجهضوه. (انظر: التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير للفيلالي ج 12/ ص 344 فما بعدها). وقد كشف هذا الأخير في الصفحة (346) أن أحد أولئك المجهضين لمشروع مغرب العدل والحقوق، استغل منصبه كمدير للديوان الملكي ثم وزيرا للداخلية؛ فأسس بواسطة ما بيده من سلطات (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية)، فكانت جبهة استبداد وإفساد، وبعدها بسنة أسس ما أسماه: (الحزب الاشتراكي الديمقراطي...) قال الفيلالي: "في هذا التاريخ؛ عرفت الحياة العامة إطلاق الحبل على الغارب، ودلع "القوم" الذين وجدوها فرصة للتوزيع؛ فوزعوا الغنيمة بينهم بطريقة لم ولن يعرف لها شبيه عبر تاريخ المغرب السياسي، حتى أصبحت القاعدة المشتركة: "اسرق قبل أن تُسرق"، و"اغنم قبل أن تصبح غنيمة"، وتبخرت الآمال في الإصلاح، وأصبح عبثا ما كنا ننادي به على منصة البرلمان من تشريع قانون: "من أين لك هذا؟" وهو اقتراح تقدمت به يوم 19/11/1965". قال: "وقبل أن ينتهي العقد؛ عرف المغرب الهزة التي قط ما كان أحد يتصور أنها ستحصل، وعلى تلك الحال التي انتهت إليه يوم 10/7/1971، وكان المنتظر أن يتذكر القوم وأن يتعظوا لكنهم لم يقدروا قول الله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}، بل عادت حليمة إلى عادتها القديمة، كما يقول المثل المغربي، وبمنطق القرآن العظيم: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم}، وأطلقوا العنان للشهوات وجموح الفساد من جانب، وللظلم والجبروت من جانب آخر، فصدق عليهم قول الله: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} ..". وقد ختم الفيلالي الكلام عن هؤلاء بقوله: "فعلى مؤسس الجبهة والمقتدين به أن يتمعنوا نتائج أعمالهم وما جلبته من الشر...؛ لقد ظلموا الشعب، وأساءوا إلى المقدسات الدينية من أجل أن يكونوا هم كل شيء، في شعب لا يعرف عنهم إلا الشر، وبقوة الحديد والنار، زوروا إرادته، وحاربوا كل فضيلة في مجتمعه، عملا بتوجيهات خصومه، وخصوم دينه وماضيه وأصالته"اه[2] لا أظن أن القارئ بحاجة إلى ذكاء خارق ليدرك أن ثمة تشابها بين (جبهة الدفاع عن الدستور)، و(حركة لكل الديمقراطيين)، وبين (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) و(حزب الأصالة والمعاصرة)، .. فهل ستنجح إرادة الملك والشعب هذه المرة في التغلب على الاستبداديين؟ أم أن التاريخ سيعيد نفسه ..؟؟ ****** [1] مقالات ومحاضرات الشيخ الرحالي الفاروق (ج 3 / ص. 50-52). [2] التاريخ السياسي (12-357).