الناس يتفاعلون مع رمضان سلبيا، فيعتبرونه مشقة و إكراها، ضعفا في العطاء و الإنتاجية، فراغا و انتظارا بفارغ الصبر لآذان المغرب، صوما بالمنة على الله، حرارة مفرطة في بدايته هذه السنة، حظا تعسا للتلاميذ الذين امتحنوا خلاله، إنفاقا و غلاءا و خرقا للميزانية، فكيف نجعل من هذه السلبية حالة ايجابية ؟ كيف نجعل من السلوك تعبدا ؟ و كيف نجعل من رمضان فرصة ل " التأمل" لا ل" الاسترخاء"؟ التأمل وصفة علاجية : يرى العلماء أن الدماغ به ملايين الوصلات العصبية و الخلايا، تعمل كأعقد جهاز في الكون و هي تحتاج إلى التأمل و التفكر لتستعيد نشاطها و إلا ستموت باستمرار. و أثبتت الدراسات العلمية أن التأمل في حد ذاته معالجة للأمراض، و تقوية للذاكرة، و زيادة للإبداع و الصبر، و أنه يقي القلب من الاضطراب و يخفف من الإجهاد عنه و يمنحه الاستقرار، علما أن أمراض القلب هي السبب الأول في الموت. كما يعالج التأمل ضغط الدم العالي و الاكتئاب و القلق و الإحباط ( أمراض العصر)، و يمنح ثقة أكثر و تحملا لهموم الحياة، هذا التأمل المجرد، أما إذا ارتبط بالتفكر و التدبرو أخذ العبرة و التركيز على الهدف أصبح تعبدا. التأمل و إطالة العمر: و يرى العلماء أيضا أن الدماغ يصدر ترددات "كهرطيسية " حسب نشاط الإنسان، ففي حالة العمل و التركيز، يطلق موجات اسمها " بيتا " يتراوح ترددها بين 15 و 40 ذبذبة في الثانية، في حالة التأمل العادي و الاسترخاء يطلق موجات" ألفا " تتراوح بين 9 و 14 ذبذبة، أما في حالة النوم و الأحلام و التأمل العميق يطلق موجات " ثيتا " بين 5 و 8 ذبذبات، و أخيرا في حالة النوم العميق بلا أحلام يطلق الدماغ موجات " دلتا " ذبذبتها أقل من 4. نخلص أن الإنسان كلما كان في حالة تأمل تكون موجات الدماغ أقل ذبذبة، و هذا يريح الدماغ و يقويه و يعالج الاضطرابات النفسية التي تصيبه و الانفعالات التي ترهقه و تقصر العمر، بينما التأمل يريح الدماغ و يطيل العمر. فأهم موجات الدماغ هي ذات التردد المنخفض الناتجة عن التأمل، تؤثر على خلايا الجسم و مناعته و بالتالي تقدم علاجا وقائيا، و تعيد برمجة خلايا الدماغ و تقويها. و الغريب أن بعض الباحثين في " كلية هارفارد الطبية " وجدوا أن حجم الدماغ الذي يكثر التأمل أكبر من الدماغ الذي لا يتأمل، فتزداد القدرات على الإبداع، و كلما كانت مدة التأمل أكبر كان التأثير أوضح على حجم الدماغ و استقرار عمله. و بالتأمل تصبح قشرة الدماغ أكثر سمكا في بعض جوانبه، و تتناقص كلما تقدمنا في السن، فإذا كان التأمل يطيل العمر فقد يبطئ تقدم الهرم، و هذا سر أنك ترى الناس في نفس العمر، منهم من هرم في ريعان شبابه، و منهم من لم يأخذ الزمن منه شيئا. كما أثبتت الدراسات أن التأمل يعالج الآلام المزمنة، فقد قام باحثون بدراسة دماغ أشخاص طلب منهم أن يضعوا أيديهم في الماء الساخن و تم رصد نشاط الدماغ نتيجة الألم، و أعيدت التجربة مع أناس تعودوا على التأمل المنتظم، فلوحظ عدم استجابة الدماغ للألم، أي أن التأمل مانع للألم و إثارة الدماغ، و من هنا العلاقة بين التأمل و الصبر و ضبط النفس الذي يحث عليه " تكوين رمضان ". إن التأمل يعين على الصبر و الاستعداد لتحمل المشاق، فهو مهارة و دربة كما أن الصبر مصابرة و اصطبار. رمضان شهر التأمل الذاتي: أشرنا سابقا أن رمضان شهر الاهتمام بالذات لا بالاهتمامات التي لا تنتهي، فرصة لمکاشفة النفس و البحث عن نقط الضعف و القوة، عن المحاذير و الفرص المتاحة، عن سبر الأغوار و ملامسة الخبايا و الأعماق. و التأمل في رمضان وقفة لاتخاذ القرارات التغييرية اتجاه الذات، وهو أمر قد يثقل على النفس شأن من لا يريد إجراء الفحوصات الطبية خوفاً من اکتشاف المرض. إن التأمل إرادة، والإرادة أقوى من العادة، وشهر رمضان أفضل فرصة و أقوى إرادة لنفض وترك العادات و العقد و شحذ الهمم و التوبة من الذنوب والأخطاء. إن التأمل حاجة ضرورية يشمل مجالات الحياة كلها، يشمل الأفكار و القناعات و السلوكات و الصفات النفسية و الاجتماعية: من خوف و بخل و جرأة وتردد، و حزم و لين، و صدق وكذب، و كسل و نشاط، حيث يتم التساؤل عن حقيقتها و عن تجذرها في الذات، و عن الإسقاطات الاجتماعية التي يتخذها الإنسان أحيانا تبريرات فيصبح المقياس أقوال الناس و أحكامهم و ردود أفعالهم، أي أنك تتصرف و الرقيب الاجتماعي لك بالمرصاد، و لن ترضيه أبدا، لأن إرضاء الناس جميعا أمل مستحيل . صفات تربوية تاريخية، قيم و توجيهات أخذناها دون أن نتأمل فيها أو نخضعها للعقل، سلوكات اجتماعية اتجاه الأسرة و العائلة و الأصدقاء و المحيط ، حيث أصبحت التزاماتها أكثر من الشرع، فالتأمل الاجتماعي في رمضان يخلق الصفاء و الارتقاء وتجاوز الأوهام و العوائق، و التحرر من الموائد " الخبزية " و البرامج و القنوات " التافهة ". إن مهارة التأمل في رمضان تتجسد بالتفكر في القرآن و التمعن في آياته و التمرن العقلي و الروحي، ثم تأتي الصلاة لتعطي شحنة التأمل المباشر، حيث اللقاء مع الله تعالى بعيدا عن اليومي، خاصة في التراويح، خلوة و طرح للملفات الخاصة و العامة، ملفات السنة الجارية و المراحل الإستراتيجية، و يأخذ التأمل اكتماله بقراءة القرآن والأدعية المأثورة و "الأدعية السياقية "التي تكون تلقائية و بأي لغة، المهم أن تدعو حسب احتياجاتك و سياقك الخاص، فلكل شخص دعاء و لكل نفسية دعاء و لكل حالة دعاء، و قد تعجز أحيانا عن الدعاء فترفع عينيك إلى السماء و تصمت أو تتنهد أو تذرف دمعة و لسان حالك يقول: ( علمه بحالي يغنيني عن السؤال ). إن الدعاء قمة التأمل في الذات، فيه المكاشفة و المصارحة و كشف ما بالنفس و طلب تغيير ما بها، كشف للذنوب التي لا يطلع عليها غيره، تعترف بها و تتأمل كيف قمت بها، وكيف ضعفت و فقدت إرادتك، و تتأمل كيف أن لك ربا يغفر الذنوب بل يفرح بتوبتك. فهنيئاً لمن يستفيد من أجواء رمضان مکاشفة مع الذات، وإصلاحا للأخطاء والعيوب، وسدا للنواقص والثغرات و مراجعة للأفکار والآراء، بموضوعية و نكران الذات، وتأملا في نقاط القوة والضعف، وتفحصا للسلوک من أجل بناء علاقات أصفى و أرقى. تأملوا قبل أن ينتهي شهر رمضان، فتتأملوا آنذاك كيف مضى.