بولعجول يوضح شروط لوحات الترقيم للسير الدولي ويطمئن المسافرين المغاربة    الكونغرس الأمريكي يناقش مشروع قرار لتصنيف "البوليساريو" منظمة إرهابية    الحسيمة.. تفكيك شبكة للتهجير السري وحجز قوارب ومبالغ مالية    الوزارة تدعم العمل الثقافي والمهرجانات بأزيد من 9 ملايين درهم سنة 2025    تعيين محمد رضا بنجلون مديرا جديدا للمركز السينمائي المغربي    مرسوم جديد لتحديث وضعية أساتذة كليات الطب والصيدلة    تفعيل خدمات جديدة في مجال النقل الطرقي عبر "نظام الخدمات عن بعد" ابتداء من فاتح يوليوز    ارتفاع مؤشر الإنتاج في قطاع المعادن بأكثر من 10 في المائة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إحداث "Uni Fiber" و"Uni Tower" لتسريع نشر شبكات الألياف البصرية والجيل الخامس    سيوفر آلاف الوظائف.. الجرف الأصفر يحتضن أول مجمع صناعي ضخم لمواد بطاريات الليثيوم بالمغرب    رئيس الحكومة يترأس الدورة الثامنة للجنة الوطنية للاستثمارات المحدثة بموجب ميثاق الاستثمار الجديد    الطالبي العلمي: حل الدولتين السبيل الوحيد لتحقيق السلام وإنهاء الصراع في الشرق الأوسط    رغم إصابته في حادث بأمريكا.. بنهاشم يصر على قيادة الوداد أمام العين    الزيات يعلن ترشحه لرئاسة الرجاء ويعد بمرحلة جديدة مع تفعيل الشركة    الصحراالمغربية: برلمان أمريكا الوسطى يجدد تأكيد دعمه لمخطط الحكم الذاتي وللوحدة الترابية للمملكة    النيابة العامة تتحرك لتتبع صعوبات المقاولات    "إسكوبار الصحراء": بعيوي يجهش بالبكاء نافيا علاقته بتهريب المخدرات    شاب يلقي بنفسه من سطح منزل أسرته بطنجة وسط قلق حول ارتفاع حوادث الانتحار    الحكومة توافق على تحويل المكتب الوطني للهيدروكاربورات والمعادن إلى شركة مساهمة    الصحافي رضا بن جلون مديرا للمركز السينمائي المغربي    بعد غياب 6 سنوات..المعرض الوطني للكتاب المستعمل يعود في نسخته الثالثة عشر بالدارالبيضاء    ادريس الروخ يشرع في تصوير مسلسل درامي جديد    الطالب الباحث عبد الفتاح موليم ينال شهادة الماستر في القانون العام بميزة مشرف جدا            أخنوش يدعم السكوري ويقرر إعفاء مديرة "لانبيك"    الحسيمة.. تحويط حريق بغابة "ثاندا إفران" وجهود متواصلة لإخماده    عواصف عنيفة تضرب فرنسا وتخلف قتلى ودمارا واسعا    في الأمم المتحدة.. المغرب يدعو لتحرك جماعي لحماية المدنيين من الفظائع    وفاة رجل أضرم النار في جسده وسط الشارع العام بطنجة إثر خلاف تجاري    مونديال الأندية.. إنتر يتفوق على ريفر بليت ويعتلي الصدارة ومونتيري يعبر برباعية    جمعيات تحذر الوزارة الوصية من "تفويت" 54 مركزا للشباب    الذكاء الاصطناعي و"كابسولات الميوعة"..حين تتحوّل التقنية إلى سلاح لتفكيك الهوية المغربية    القضية ‬الفلسطينية ‬في ‬ضوء ‬بيان ‬اسطنبول    عبد الكبير الخطيبي: منسي المثقفين    أسعار الذهب ترتفع وسط تراجع الدولار الأمريكي    إدانة رابطة مغربية لتأخير رحلة Ryanair بمطار الرباط    مغاربة العالم يعقدون ندوة حوارية بباريس حول الورش الملكي الخاص بالجالية    "الحسنية" تأذن بسفر المدرب الجديد    الرباط تحتضن دوري الراحل بوهلال    الابتزاز وراء عقوبتين بالكرة النسوية    الاحتيال يهدد زبائن تأجير السيارات    معرض يستحضر الأندلس في مرتيل    أكاديمية المملكة المغربية تكرم 25 سنة من الأدب الإفريقي في "غاليمار"    توقعات طقس اليوم الخميس بالمغرب    طفل في كل فصل دراسي مولود بالتلقيح الصناعي ببريطانيا    احذر الجفاف في الصيف .. هذه علاماته وطرق الوقاية منه    سوق الكوكايين العالمية تحطم أرقاما قياسية    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. فلومينينسي يعبر إلى ثمن النهائي عقب تعادل سلبي أمام صنداونز    تثبيت كسوة الكعبة الجديدة على الجهات الأربع مع مطلع العام الهجري    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة    عودة الدواجن البرازيلية إلى الأسواق المغربية بعد زوال المخاطر الصحية    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تَنوِيعَاتٌ مُختَلِفَة علىَ أَوْتَار الكَآبَة
نشر في هسبريس يوم 13 - 09 - 2016

(مَشاهد مُؤلمة،ومَظاهر حزينة لواقعنا الكئيب ما بَرحتْ تَقضُّ مضجعَنا،وتؤرقُ مَعيشَنا، وتُثقلُ كواهلَنا، رصدٌ، وفضحٌ ،وإماطة لثام، وإدانة صارخة لبعض التقاليد البالية المُجترّة،والعوائد العتيقة المتوارثة منذ عهود الظلمات ما فتئت تُعشعشُ بين ظهرانيْنا ،و ما إنفكّت تملأ حياتَنا على مَضض بإصرار إلى اليوم)
الشّاطئ يمتدّ عبر المدىَ البعيد،الصّخورالمُدبّبة تملأ المكانَ حتى ليتعذّر على المرء المشي بمحاذاة السّاحل إلاّ بحَذرٍ شديد،الأمواج الهادرة غاضبة مُزبدة، تتلاطمُ على الصّخور الكبيرةَ التي تواجهها فى صمودٍ حادٍّ عنيف ، يتطاير رذاذها المتناثر فى كلّ إتجاه . أخذ بعضُ الصيّادين أمكنتهم المعتادة بين الصّخور، ينظرون إلى ثبج البّحر فى صبر، وإصرار، وأناة ،حتى ليخيّل للناظر إليهم أنّهم تماثيل حجرية منصوبة على أشكال مُجسّمات أدمية متباينة منذ أقدم العصور. بعض السّكارى يتكوّمون عند مدخل مغارةٍ مظلمة ، يحتسون فى سلام أردأ أنواع النبيذ، يحدّقون فى البّحر، ولكنّهم يلتفتون بين الفينة والأخرى صوبَ ناحيةٍ من نواحي الشاطئ المترامي الأطراف، الذي تمتدّ على مقربة منه طريق طويلة تؤدّي إلى سوق الخُضر، وإلى ضريحٍ تعلوه قبّة ناصعة البياض، يقع بمحاذاة الشاطئ ،أكثرُ روّاده ممّن هم واقعون تحت وطأة الخرافات، والأضاليل، والشعوذة،أو ممّن بهم جنون، أو مسّ، أو مروق ،أو من الإناث اللاّئي يبحثنَ عن فارسٍ من فوارس الأحلام، بعد أن خانهنّ الحظّ فى العثور على شريك العمر ، إذ فى إعتقاد السكّان أنّ من قصدت منهنّ هذا الضريح لا يحولُ عليها الحولُ حتى تصبحَ فى عِداد المتزوّجات..! فى هذا المكان تقام ما يُعرف عندهم بالحضرة، وعلى أنغام موسيقى الكناوة الصّاخبة تهتزّ، وتتمايل أجساد النساء والصّبايا، قبل أن يتبرّكن بدماء الذبائح والقرابين لطرد السّحر، أو إبطال مفعول الثقاف المعقود على أجساد الضحايا البريئات.
* * * * *
على الجانب الأيسر من الشاطئ تنتشر دور الصّفيح ،وأكواخ الخشب المختلفة الأشكال والأحجام ، وغيرُ بعيدٍ يوجد الحيّ الشعبي الذي يحمل إسمَ دفين الضريح الوليِّ الصّالحِ "سيدي موسىَ" رحمه الله. عند كلّ مساء يخرجُ السكّان ، قبيل غروب الشّمس إلى أبواب أكواخهم ليهيّئوا بعضَ الطعام، وقبالة كلِّ بيتٍ من هذه البيوت مجموعة من الأطفال الصّغار عراة إلاّ من سترات رثّة،وأردية بسيطة تقيهم لفحاتُ البّحر القارصة، كلّهم تبدو عليهم الفاقة فى أحلك وأحطّ صورها، مُعظمهم يصرخ لأسبابٍ أو بدونها، وفوق سطوح البيوت المتواضعة نُشرت بعض الألحفة والحُصُر منذ الصّباح الباكر لتُبعِد عنها أشعّةُ الشمس آثارَ رطوبة اللّيل ،وبلله، وبرودته التي تحوِّلُ ليلَ السكّان إلى عذابٍ مقيم حتى الصّباح .
بعيداً عن البحر تمتدّ بعض المراعي والحقول، التي ظلّت جرداءَ،قاحلةً، يابسة على الرّغم من أنّ الفصل كان ربيعاً..! وفي بعض جوانبها ترعى أسرابٌ من الحيوانات من أبقار،ومعز، وأغنام، ودوابّ بقايا الكلإ، والحشائش الجافة ، تبدو هزيلة، نحيلة ومُرهَقة.. وحول جدران أطلال بالية مهدّمة تتسكّع بعض الكلاب السّوقية الضّالة، تشمّ الأرضَ،وتحشرُ أفوفَها أسفلَ أجداعَ الأشجار بدون إنقطاع ،فى عصبيّة وتوتّر وهلع، وعبر الطريق الطويلة الممتدّة نحو السّوق والضريح تمرّ بين الفينة والأخرى بعض العَرَبات المُحمَّلة بأنواعٍ مختلفةٍ من الخُضر،والفواكه الموسميّة، وبعضُ الدرّاجات النارية، والعَجَلات، وبعض المارّة .
هذه الصّورة المتداخلة والمتعدّدة المشاهد، لا يمكنك أن تظفر بها فى مختلف أرجاء هذه المدينة البيضاء العتيقة، مدينة الأولياء والصّالحين المحاذية لوادي أبي رقراق إلاّ إذا جلستَ عند مقهى الحاج علاّل، الذي كان موفّقاً فى إختيار هذا الموقع حيث نصبَ بعضَ الأخشاب المهترئة ليقيم بها شبهَ مقهى متواضعة يؤمّها بعض المارّة ،وعشّاق البّحر، ولكنهم قليلون جدّاً بالقياس إلى الأكوام البشرية الهائلة التي تقطع الطريقَ الطويلة كلّ يوم بدون إنقطاع منذ الفجر حتى آخر النهار.
* * * * *
أخذتُ مكاني كالعادة على مقعدٍ مُنحنٍ من المقاعد الخشبيّة القديمة الموجودة عند مدخل المقهى التي غيّرَ أشكالَها البللُ،وكستها رطوبةُ البحرلوناً رماديّاً باهتاً، وأضفتْ عليها شكلاً دامغاً بالياً مهترئاً،فإذا بالحاجّ علاّل يُسرع نحوي هاشّاً باشّاً وهو يقول بصوتٍ مبحوح :
- أهلاً بالأستاذ..مرحباً لم أرك منذ مدّة ..؟
شكرته على ترحيبه، وملاطفته ،وطلبتُ منه كوباً من القهوة المُرّة الخالية من السكّر أو السّكارين..عاد إلى داخل المقهى يجرّ الخطىَ بتؤدةٍ ، وتثاقل . كان الحاج علاّل رجلاً بديناً، ضخمَ الجسم ، يرتدي سروالاً مغربياً تقليدياً أصيلاً يزيد من بدانته، يطلق عليه أهل البلد "القندريسة"،لم أفكّر قطّ فى إقتفاء أصل، أو أثل، أو جِذر هذه الكلمة.. وحول خصره يلتوي شالٌ أحمرُ اللون قانٍ بدأ البلىَ يدبّ فيه، وقميصاً بالياً رثّاً لا ترتاح العينُ لرؤيته، وتغطّي فروة رأسه قلنسوة فى لون شاله تلفّها عمامة بيضاء اللّون يشبك حواشيها بدبّوس عند أعلى القلنسوة،على طريقة لبس أهل الشّام . وأوّل ما تصيب العينُ من هذا الرّجل البدين هو شاربه المعقوف الكثيف الأشيب الذي يحجبُ فمَه الصّغير،كما أن ّ حاجبيْه كانا كثّيْن أشيبيْن يكادان يغطّيان عينيْه لولا أنّه يرفعهما نحو الأعلى عندما يتحدّث، ويصعبُ عليك إدراك إذا ما كان الحاج علاّل سعيداً أم حزينا إلاّ من جرّاء حركات رأسه.
* * * * *
عاد إلى داخل المقهى ،وسرواله الفضفاض يجعله يبعد قدميْه عن بعضهما عند المشي وهو يهزّ رأسَه فرحاً جذلاً بمقدمي. لقد تعوّدتُ زيارة هذا المكان لكونه كان مرتعَ صباي وطفولتي ،ويصعبُ على المرء أن يطرد من ذاكرته بقايَا الماضي، ورواسبَ الطفولة البعيدة ،وأشلاءَ الزّمن الغابرالتي تظلُّ عالقةً ،لصيقة بأهداب عقله الباطن وماثلةً نصبَ عينيْه إلى أن يوارىَ التراب.
إنّني لست أحسن حالاً ممّا كنت عليه من قبل. حتى ولو أصبحتُ أحمل لقباً أمقته لأنّه لا يمنحني صفتي الحقيقية ، ولا يزيد فى فتات مرتّبي الشّهري المتواضع حبّة خردل، فأينما حللتُ أو إرتحلتُ أو أقمتُ أجده أمامي ، فأنا أستاذ عند الجزّار،أستاذ عند البقّال،أستاذ عند الخُضري، أستاذ عند الحدّاد ،أستاذ عند الإسكافي،وأستاذ عند الحاج علاّل، جميع أهل مدينتي الصغيرة يلحقون بي هذه الصّفة ، وإن أنا فى الواقع إلاّ "مدرّس" بسيط يلّقّنُ الأطفالَ الصّغارَ أبسطَ المبادئ الأولى للكتابة والهجاء..
كان والدي صيّاداً ماهراً، كان ذا قوّةٍ وصبرٍ عجيبين فقدهما مع مرور الزّمن، وتقدّم العمر وبتأثير رطوبة البّحر، وصقيع الليل، وطول السّهر،وذاك الدّخان الرّخيص اللعين القاتل، ولكنّه ، مع ذلك، كان يوفّر لأسرتنا معيشة أكثرَ رخاءً ممّا أوفّره لها أنا اليوم..!
منذ أن توفّيّ والدي أصبحتُ العائل الوحيد لأخواتي الصّبايا الثلاث اللاّئي فاتهنّ قطار الزّواج ، ووالدتي العجوز، ولزوجتي وولدي الوحيد، وحتى ولو إنتقلنا للعيش فى مدينة مجاورة لهذا المكان، فإنّه كثيراً ما يحلو لي أن أزوره بين المرّة والمرّة.
* * * * *
حضر الحاج علاّل وقطع عليّ حبلَ تفكيري بسُعاله الجريح المُحشرج الذي يخيّل لسامعه وكأنّه يُخفي مرضاً فاتكاً بين ثنايا ضلوعه. وضع الفنجانَ على الخشبة المتآكلة الموضوعة أمامي، وهزّ رأسَه معتذراً عن نوبة السّعال التي عاودته وانصرف.
أحسستُ بنوعٍ من الإشمئزاز من القهوة التي حملها إليّ ،وتخيّلتُ أنّه أصابها برضاب فمه أثناء السّعال، ولكنّي مع ذلك لم أجد بدّاً من شربها، فصرتُ أحسوها ببطء ، وأشعلت سيجارة ،من نفس الصّنف الرّديئ الذي كان يدخّنه بشراهة والدي، وطفقت أسرح بنظري، وفكري،وخيالي هنا وهناك حول تلك الصّخور المُدبّبة ،التي حفرها تحاتّ البّحر،ومرور الزّمن بالثقوب، وملأها بالتجاويف، و تمتدّ على يساري المراعي البئيسة التي كانت يوماً مّا مرتعاً لطفولتي البعيدة،وملاذاً لسعادتي وأفراحي الصغيرة. وتدور فى مخيّلتي أشرطة الذكريات ، وأنا أهزّ رأسي أسفاً وحسرةً على فقدان ذلك الوقت الذي ولّى، ومضى،وإنقضى وليس له إيّاب. وعلى النقيض من ذلك تولّدتْ فى نفسي فجأة سعادة غامرة عابرة دبّت كدبيب النمل فى كلّ جسمي، فتناسيتُ قليلاً البيتَ ومشاكلَه ، وزوجتي، وولدي، وأخَوَاتي الثلاث، ووالدتي العجوز،ونسيتُ الدّنيا وكلّ ما حولها.
- آه يا والدي العزيز كيف خلّفتَ وراءك ولداً وثلاثَ بنات..؟ ألم تفكّر فى المستقبل ..ولكن أنَّى لك ذلك..؟ ثمّ إنّ الذنب ليس ذنبك ، فليس أقسى عليّ أن أرى هؤلاء البئيسات القعيدات، وهنّ يسرعن الخُطىَ كلّ يوم إثنين مُهرولاتٍ لملاحقة عربة من العربات التي تجري حاملة فوقها أكواماً من النساء ،والذبائح ،والقرابين، من خرفان، وتيوس، ودواجن، وسوى ذلك من الزّاد والمُؤن إلى هذا الضريح، لعلّ اللهَ يسهّل عليهنّ أمرَ الزّواج .!
مذ كنتُ صغيراً وأنا أرى ذلك المنظر الذي كنت فيما مضى أومن به إيماناً راسخاً من أعماقي . غير أنّ إيماني به اليوم إندثر وتلاشى تماماً عندما عايشتُ تجربة أخَوَاتي اللاّئي أخفقنَ جميعُهنّ فى العثور على زوجٍ صالحٍ أو طالح، وهنّ من أكثر الصّبايا إرتياداً لهذا المكان..!.
* * * * *
كانت الأفراح بهذه المنطقة تكتسي صبغة غريبة من الحزن والكآبة، فقد كان محظوراً على السكّان أن يَضحكوا بأصوات عالية مُجلجلة، أو أن يُغنّوا، أو يزغردوا، أو يَرقصوا بتبرّج إحتراماً لقدسية هذا المكان الذي تُقام فيه طقوس غريبة من السّحر، والشعوذة، والدّجل، والخرافات، والغيبيّات، لذا قلّتِ الإبتساماتُ فيما بينهم ، وملأت الكآبةُ والحزنُ،والوجومُ والشّجنُ والترقّبُ وجوهَ الجميع .
كانت الشمس آيلة نحو المغيب ، وبدأ قرصُها الأحمر الذهبيّ يدنو من الأفق البعيد رويداً رويداً ،وصار يختفي بين السّحب الداكنة، والغيوم الملبّدة شيئاً فشيئاً ، وطفقت بعض البيوت تغلق أبوابَها الصّغيرة ، وبدأ عدد الأطفال يقلّ تدريجياً،كما أنّ الأبقار، والمواشي ، والدوابّ تستعدّ هي الأخرى للعودة إلى إصطبلاتها من حيث أتت.
الكلُّ فى حركةٍ دائبةٍ، وفى هرولةٍ وعجلةٍ من أمره، إلاّ أنا فقد خيّل لي فى تلك الهنيهة أنّني كنت أستمتعُ بأسعد لحظات عمري. بينما أنا على تلك الحال إذا بموكبٍ يتراءى لي من بعيد، فَخِلتُه بحكم العادة أنّه موكبُ إحتفالٍ إمّا بعقيقة، أو إعذار، أوعرس أنهى مراسيمَ التبرّك بأعتاب الضريح الصّالح وهو عائد من حيث أتى. فتسمّرتْ عيناي محدّقتين فى ذلك الحشد البشري الهائل القادم نحوي، وجالت الذكريات من جديد بخاطري، فتمثّلت أمامي أيّام الطفولة البريئة، وهنيهات الصّبا الأغرّ، أيّام َ مَا كنتُ صغيراً أركضُ وراء هذه الجموع الغفيرة لعلّي أظفر فى الأخير ببعض الحلوى أو الأكل الذي غالباً ما كان "الكُسكُس"، وصرتُ أرقب الحشدَ عن كثب، والبسملة لا تفارق شفتيّ . كانت أصواتُ الموكب تنتهي إليّ من بعيد متداخلة، لم يتبيّن لي مدلولها بعد ،ووجدتُ نفسي فى حالةٍ من الذّهول، لهذه الصّدفة الغريبة التي سأزداد بها متعة لا شكّ ، واصلَ الحشدُ مسيرتَه البطيئة فى إتّجاهي، وما أن دنا منّي حتى داهمني صوتٌ جهوريٌّ رهيب أحال إبتسامتي إلى وجوم،وجَذلي إلى خشوع :
- لا إله إلاّ الله..محمّد رسولُ الله ..البقاء للّه ..
كان الجميع يردّد هذه الكلمة فى رتابة ،وفى آلية، ولا مبالاة غريبيْن ،كان النعش يتوسّط عربة حصان، وكان الحصان ذميماً هزيلاً،ونحيلاً تعلو عنقه الكدمات ، لابدّ أنّه كان حصاناً مريضاً أو عجوزاً، كان يمشي الهُوينى، ويهزّ رأسَه من أعلى إلى أسفل بدون إنقطاع ، حول النعش إلتفّ جمعٌ غفير من المُشيّعين ، وقد إتكأوا بلا إكتراث على المَحمل وهم ينظرون إلى الغادي والرّائح مردّدين بشكلٍ متوالٍ رتيب نفسَ الكلمة المُرَخّمة المألوفة :
– لا إله إلاّ الله..محمّد رسولُ الله..البقاء لله..
كان الناظر إليهم يحار فيما إذا كانوا حقّا حزانى أم لا..!
تابع الموكبُ طريقه فى لامبالاة ، ولم يلتفت أحد إلى الموكب الجنائزي ،ظلّ الصيّادون فى وضعهم السّابق، أصوات السّكارى لم تنقطع عن الوشوشة والعربدة، صيحات الأطفال بقيت كما كانت عليه من الصّراخ والصيّاح، نباح الكلاب لم يهدأ.. حتى الحاج علاّل لم يكفّ عن السّعال وعدم الإكتراث، كنت الوحيد المتتبّع للموكب ، ظللتُ أرمقه بنظري برهةً حتى بَعُد عنّي وخفّت أصوات الحشد . ثم غاب عن الأنظار.
لم أفق من سباتي أو غفوتي، إلاّ عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي بلطف وهو يقول :
- الأستاذ..الأستاذ.. هل أنت نائم..؟
أدرتُ رأسي نحوه، فإذا به يبتسمُ لي وهو ينتظر الحساب ، ولم أدرِعلى وجه التحديد هل كنتُ نائماً حقّاً ، أم كنت فى حالةِ غفوةٍ ،أو صحوةٍ ،أوذهول... إرتبكتُ قليلاً ، ثم نهضتُ من مكاني ، ودفعتُ له الحساب،ثمّ حيّيته وإنصرفت.
* * * * *
فى طريق العودة إلى البيت، إلتقيتُ بجموع النّساء الغفيرة العائدات من الضّريح الصّالح إلى بيوتهنّ ، وعلامات الغِبطة والجذل، والإنشراح تملأ وجوهَهنّ بالبِشْر، و الأمَل، والحُبور، بعد أن قمنَ بجميع الطقوس اللاّزمة للغاية التي قَدِمنَ من أجلها إلى هذا المكان، وكلّهنّ شوقٌ، وتطلّعٌ، وترقّبٌ، وإنتظارٌ لما سوف يأتي به الغدُ القريب من أخبار سارّة قد تنبئهنّ بقدوم فوارس الأحلام ، وشركاء العمر، وهم يمتطون صَهوات جِيادهم المُسوّمة البيضاء..! عندئذٍ تذكّرتُ أخَواتي البنات الصّبايا الثلاث الحسيرات ، الكسيرات،الكسيفات ، وأسِفتُ لعدم قدومهنّ اليوم كذلك ليجرّبنَ حَظّهنّ ، هنّ الأخريات مرّة أخرى من جديد، بعد أن سبق أن قَدِمْنَ إلى هذا المكان مرّاتٍ،ومرّاتٍ عديدة من قبل دون جدوى...!
الآن تذكّرتُ، وأيقنتُ أنّه عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي،وصحوتُ من غفوتي خُيِّل لي أنني رأيتُ فى منامي فيما يراه النائم وقت الظهيرة، أنّ الحشد الجنائزي الهائل المَهيب الذي مرّ أمامي قبل قليل،والذي ذهبَ بدون رِجعة، وإختفى عن الأنظار ، لابدّ ولا جَرَمَ أنّه كان يحملُ معه داخلَ النعش ليُوَارىَ التراب كومة التقاليد البالية السّائدة، أو رزمة العوائد المتوارثة العتيقة .؟! ..كانت بقايا أصداء أصواته المُبهمة، والغامضة ما زالت تزدحمُ،وتتفاقمُ،وتتلاطمُ بداخلي فى عنفٍ وزخمٍ ، وتملأ أسماعي،وأعماقي بنفس تلك النّبرة الحزينة، القويّة، الرّخيمة ، الحادّة،المؤثّرة والرتيبة إيّاها.
* كاتب وباحث ومترجم وقاصّ، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - كولومبيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.