التوفيق: المذهب المالكي يقي من الجهل والغلو ويلبي حاجات العصر    الكاتب الأول للحزب ، إدريس لشكر، في افتتاح أشغال الدورة الأولى للمجلس الوطني . .قيم الأسرة الاتحادية مكنتنا بالفعل من الاطمئنان إلى ما أنجزناه جميعا    أولاريو: مواجهة المغرب الرديف قوية وسنلعب بطموح العبور إلى نهائي كأس العرب    المغرب يوقّع على سابقة غير مسبوقة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    تقرير: نصف المجتمعات المحلية فقط مطلعة على أداء المدارس رغم تقدم تنظيم التعليم بالمغرب    تونس.. فيلم "فلسطين 36" للمخرجة آن ماري جاسر يفتتح أيام قرطاج السينمائية    أكادير تحتفي بعشرين سنة من تيميتار: دورة إفريقية بامتياز تسبق كأس أمم إفريقيا وتجمع الموسيقى الأمازيغية بالعالم    توقيف مشتبه به في حادث جامعة براون    من شفشاون إلى الرباط: ميلاد مشروع حول الصناعة التاريخية    تطبيق "يالا" يربك الصحافيين والمشجعين قبل صافرة انطلاق "كان المغرب 2025"    أوجار من الناظور: الإنجازات الحكومية تتجاوز الوعود والمغاربة سيؤكدون ثقتهم في "الأحرار" عام 2026    عشرة قتلى على الأقل إثر إطلاق نار عند شاطئ بونداي بأستراليا خلال احتفال بعيد يهودي    آيت بودلال: قميص المنتخب شرف كبير    قبل أيام من انطلاق الكان... لقجع يؤكد الإنجازات التي حققتها الكرة المغربية    ائتلاف يدعو إلى وقف تهميش المناطق الجبلية وإقرار تدابير حقيقية للنهوض بأوضاع الساكنة    شغب رياضي يتحول إلى عنف خطير بالدار البيضاء    بعد فاجعة فاس... لفتيت يحرك آلية جرد المباني الآيلة للسقوط    دعم 22 مشروعًا نسويًا بالمضيق-الفنيدق بتمويل من المبادرة الوطنية    تمديد فترة الترشيح للاستفادة من الدورة الثانية من برنامج "صانع ألعاب الفيديو" إلى 21 دجنبر الجاري    احتفال يهودي بأستراليا ينتهي بإطلاق النار ومصرع 10 أشخاص    أمن مولاي رشيد يوقف 14 مشاغبا اعتدوا على الأمن وألحقوا خسائر بسيارات عمومية    الجيش الموريتاني يوقف تحركات مشبوهة لعناصر من ميليشيات البوليساريو    إقبال كبير على حملة التبرع بالدم بدوار الزاوية إقليم تيزنيت.    مجلس النواب والجمعية الوطنية لمالاوي يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون البرلماني    استقالات جماعية تهز نقابة umt بتارودانت وتكشف عن شرخ تنظيمي.    إسرائيل تندد ب"هجوم مروع على اليهود"    طلبة المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بأكادير يعلنون تصعيد الإضراب والمقاطعة احتجاجاً على اختلالات بيداغوجية وتنظيمية    قتيلان في إطلاق نار بجامعة أميركية    مباراة المغرب-البرازيل بمونديال 2026 الثانية من حيث الإقبال على طلب التذاكر    كرة القدم.. إستوديانتس يتوج بلقب المرحلة الختامية للدوري الأرجنتيني    زلزال بقوة 5,1 درجات يضرب غرب إندونيسيا    ألمانيا: توقيف خمسة رجال للاشتباه بتخطيطهم لهجوم بسوق عيد الميلاد    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    أخنوش من الناظور: أوفينا بالتزاماتنا التي قدمناها في 2021    مسؤول ينفي "تهجير" كتب بتطوان    افتتاح وكالة اسفار ltiné Rêve إضافة نوعية لتنشيط السياحة بالجديدة    إطلاق قطب الجودة الغذائية باللوكوس... لبنة جديدة لتعزيز التنمية الفلاحية والصناعية بإقليم العرائش        البنك الإفريقي للتنمية يدعم مشروع توسعة مطار طنجة    إسرائيل تعلن قتل قيادي عسكري في حماس بضربة في غزة    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    محمد رمضان يحل بمراكش لتصوير الأغنية الرسمية لكأس إفريقيا 2025    بورصة البيضاء .. ملخص الأداء الأسبوعي    تعاون غير مسبوق بين لارتيست ونج وبيني آدم وخديجة تاعيالت في "هداك الزين"    من الناظور... أخنوش: الأرقام تتكلم والتحسن الاقتصادي ينعكس مباشرة على معيشة المغاربة            المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    الممثل بيتر غرين يفارق الحياة بمدينة نيويورك    تشيوانتشو: إرث ابن بطوطة في صلب التبادلات الثقافية الصينية-المغربية    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    تناول الأفوكادو بانتظام يخفض الكوليسترول الضار والدهون الثلاثية    منظمة الصحة العالمية .. لا أدلة علمية تربط اللقاحات باضطرابات طيف التوحد    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرآن لساناً وعربيا: معنى الرسوخ في العلم

الراسخ عالمٌ، مهما قل علمه؛ وليس العالم بالضرورة راسخاً مهما بلغ علمه. نفهم من ذلك أن الرسوخ لا يشير إلى كثرة العلم وكمه، بل هو علم نوعي، قليل بطبعه "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، يقود صاحبه إلى الإيمان واليقين، وإلى الإسلام والإحسان، وإلى حسن الخلق وحسن المعاملة، وينأى به عن مزالق الشك ومهاوي الافتتان بالدنيا.
هذا كله مستنبط مباشرة من القرآن الكريم لساناً عربيا.
دعونا نبدأ من حيث نلتقي ونتفق جميعاً.
لا شك أن أول الراسخين في العلم عندنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد رسخ، أي ثبت، صلى الله عليه وسلم أول ما بُعث بالحق بشيراً ونذيراً. لقد ثبته الله سبحانه وتعالى بالقول الثابت. ونعرّف الرسوخ، كما هو في اللغة، بالثبات. وندرك من كون الرسول صلى الله عليه وسلم رسخ منذ مستهل بعثته أن الرسوخ هو الثبات على قاعدة من المعرفة ضرورية لكل إنسان إلا وهي العلم بربوبية الله عز وجل وبعبودية الإنسان لله عز وجل. ذلك هو الجُزَيء الأساسي المكون لمادة الرسوخ، وتلك هي القاعدة الصلبة التي يقف عليها العالم فيكون راسخاً، أو يفتقر إليها العالم فيظل يتخبط في قيعان ما لها من قرار. كلما ازداد العالم الراسخ علماً ازداد رسوخاً، وازداد ادراكا لقلة علمه؛ أما العالم المتهاوي، غير الراسخ، فكلما ازداد علماً، ازداد عجباً بنفسه، وتاه في مهاوي الأماني.
الرسوخ هو معرفة الله ربا، مالكاً لكل شيء وبيده الأمر كله، ومعرفة الخلق عبيداً لا حول لهم ولا قوة إلا بالله، والتصرف انطلاقاً من تلك القاعدة الراسخة.
تلك هي الكلمة الطيبة.
تلك هي الشجرة الطيبة: "أصلها ثابت وفرعها في السماء". الأصل الثابت هو معرفة ربوبية الله وعبودية المخلوق، وأما الفرع الذي يصل إلى السماء فهو الرفعة والجزاء الحسن الذي يناله العبد من ربه.
والكلمة الخبيثة هي الكفر بالله؛
والشجرة الخبيثة هي تلك الشجرة التي تعجز أن تغرس جذورها في تربة العبودية لله، فلم ترسخ ولم تورق ولم تثمر، فكان مصيرها أن اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27﴾، سورة إبراهيم.
الكلمة الطيبة هي كلمة الإيمان؛ والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه مسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة -من رضوان الله تعالى- يرقى بها إلى أعلى عليين؛ وإن الرجل ليتكلم بالكلمة -من سخط الله تعالى- يهوي بها إلى أسفل سافلين".
لقد رسخ الرسول صلى الله عليه وسلم منذ مستهل بعثته، وكان كلما زاده ربه علماً وأدباً ازداد اطمئنانا في ثباته. هذا كان حاله صلى الله عليه وسلم وحال جميع الأنبياء من قبله. فسيدنا إبراهيم عليه السلام كان ثابتاً بالقول الثابت ولكنه أراد المزيد من الاطمئنان، فسأل الله المزيد من العلم، فأراه الله كيف يحي الموتى فازداد علماً ورسوخاً. وهكذا كان حال الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم، الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقتدي بهم، فكلهم نجومُ هدى، وكلهم عالمون بدينهم، راسخون ثابتون على قاعدة الإيمان والإسلام والإحسان.
العلم كمٌّ، والرسوخ محتوى نوعي من العلم.
الرسوخ علم بالضرورة، وليس العلم رسوخا بالضرورة.
العلم علمان: علم معلومات، وعلم رسوخ. وعلم المعلومات لا يغني عن علم الرسوخ. لكن علم الرسوخ يغني عن علم المعلومات.
علم المعلومات قليل مهما رأيناه كثيراً. وعلم الرسوخ أيضاً قليل ولكن خيره كثير ونفعه دائم. وعلم المعلومات له منافعه وله أضراره، وقد يكون ضرره أكثر من نفعه إن لم يقترن بعلم الرسوخ، أو الرسوخ في العلم.
جاءت عبارة "الراسخون في العلم" في القرآن الكريم لتحدد لنا معنى العلم الذي يُعتد به، ولتميز لنا من هم العلماء الذين يُعتد بهم.
يا لعظمة كلام الله، ويا لشموله!
بحسب القرآن هناك راسخون في العلم مسلمون:
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"، آل عمران (7)؛
لكن هناك أيضاً راسخون في العلم من غير المسلمين:
"لكن الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا"، النساء (162).
الراسخون في العلم من المسلمين يؤمنون بالقرآن كله، ويقبلون بأحكامه كلها، ولا يتخيرون من المعاني ما يروق لهم، ولا يحملِّون الآيات ما لا تحتمل تأييداً لأهوائهم وأغراضهم.
أما الراسخون في العلم من غير المسلمين، فلا يختلفون في الجوهر، فهم متى سمعوا الحق عرفوه، ومتى عرفوه اتبعوه، لأن الحقيقة ضالتهم، لا يصرفهم عنها انتماؤهم، ولا ولاؤهم، ولا أهواؤهم.
الراسخون في العلم يقفون على قاعدة صلبة من الإيمان والنزاهة وعدم الافتتان بالرغبات وأهواء النفس. ورسوخهم إيمانهم الذي لا يتزعزع، مهما كانت الفتن؛
رسوخهم أخلاقهم: تواضعهم ونزاهتهم؛
رسوخهم: زهدهم في الدنيا وفي عروضها؛
رسوخهم: أنهم لا يخشون في الحق لومة لائم، ولا أحد يرغّبهم في باطل ولا أحد يرهبهم .
هذا الرسوخ، القائم على الإيمان والأخلاق وحسن المعاملة، هو رسوخ علماء المسلمين، الذين، حين يقرأون القرآن، ويقعون على المحكم منه والمتشابه، يقولون "آمنا به كل من عند ربنا"، وهم الجديرون بالتذكر، لأنهم هم أولو الألباب"؛
هذا الرسوخ، القائم على الإيمان والأخلاق وحسن المعاملة، هو نفسه رسوخ علماء أهل الكتاب الذين، حين يقرأون القرآن، يقولون آمنا به وبما أنزل من قبله، وإنا كنا من قبله لمسملين.
ذكر القرآن الكريم العلماء وأولو الألباب مرات كثيرة، وذكر "الراسخون في العلم" مرتين فحسب: مرة بخصوص المسلمين، والأخرى بخصوص أهل الكتاب. والرسوخ في العلم الذي ذكره القرآن، سواء بخصوص المسملين أو غير المسلمين، هو الذي يحدد من هم العلماء، العلماء الذين يُعتد بعلمهم، ومن هم أولو الألباب.
إذن من الخطل الاعتقاد أن الرسوخ في العلم يعني كثرة المعلومات، أو كثرة الإجازات العلمية والشهادات. بل الرسوخ، كما قلنا، هو قاعدة صلبة من الإيمان والأخلاق، لا سيما التواضع والنزاهة، تجعل العالم ثابتاً ثباتاً لا تزعزعه الفتن، ولا يضعضعه الخوف من أصحاب البأس والسلطان، ولا تضعفه الرغبة في ما أيدى الناس من زينة الدنيا وشهواتها. العالم الراسخ لا يرجو منصباً ولا مكانة ولا أي عرض من عروض الدنيا، لأنه قد علمَ، علم يقين، أن ما عند الله خير للأبرار، وهو يرجو أن يكون من الأبرار، وأن لا أحد يملك له ضراً ولا نفعاً، فسعى إلى مرضاة الله لا يبالي بشيء سواها.
هناك من يعتقدون أن الرسوخ لا يكون إلا في العلم الشرعي، وهذا وهمٌ بيِّن. فعلماء أهل الكتاب غير معنيين بفقهنا وأصوله، ولا بعلم حديثنا، ولا بتجريح الرواة، ومع ذلك قال عنهم القرآن الكريم إن من بينهم راسخين في العلم يؤمنون بالقرآن حين يطلعون عليه. إذن فرسوخ هؤلاء هو إيمانهم بالله وبالغيب، وتمتعهم بالحيدة والنزاهة والتواضع وعدم التعصب لنحلة أو لمذهب. إن وجود راسخين في العلم من أهل الكتاب دليل على أن الرسوخ في العلم ليس حكراً على العلم الشرعي ولا لأي مجال من مجالات العلوم والمعرفة.
الرسوخ محدد المحتوي: فهو معرفة بالله، ومعرفة بالنفس والمخلوقات، وهو أخلاق وسلوك ومعاملات تمليها تلك المعرفة؛ أما العلم فهو مفتوح لكل المجالات، فهناك الفقيه الراسخ، والفقيه غير الراسخ، والمفكر الراسخ والمفكر غير الراسخ، وعالم الطبيعة الراسخ وعالم الطبيعة غير الراسخ، وعالم الطب الراسخ وعالم الطب غير الراسخ، وهلمجرا. وليس سبب عدم الرسوخ هو قلة المعلومات، ولا قلة الشهادات والإجازات، بل هو الافتقار إلى المحتوى الإيماني والأخلاقي الذي يجعل ذلك العلم، وتلك المعلومات الكثيفة، تقف على قاعدة راسخة تمكنها من معرفة الحق واتباعه.
هب أن عالماً فقيهاً نال من الشهادات والإجازات العملية ما لم ينله غيره، لكنه محب للشهرة، ويعجبه الظهور القنوات وكثرة "التويتات" أو التغريدات، فهل هو عالم راسخ، أم هو عالِم "متهاوٍ" أو "مهزوز"؟
وهب أن امرأة في قرية تحب قراءة القرآن وكتب الفقه والعلوم تقرباً لله ونفعاً لأهل قريتها، لا طلباً لنيل الشهادات ولا لاكتساب الشهرة، وكان الناس يقصدونها مستفتين، وكانت تجيبهم إن عرفت، وتقول لا أدري حين لا تدري. تالله إن تلك المرأة عالمة راسخة رغم قليل علمها.
إن الرسوخ هو الغاية من العلم، وهو، في الوقت نفسه، وسيلة لنيل العلم، لأن الرسوخ يورث التقوى والتقوى تورث العلم: "واتقوا الله ويعلمكم الله". المتقون، أي الراسخون، موعودون بالعلم من الله سبحانه وتعالى: سواء كان علماً مكتسباً أو حكمة يوفقهم الله إليها.
نعم، لئن كان الرسوخ هو الغاية من العلم، فهو كذلك وسيلة إلى العلم، لأن الراسخ هو المتواضع، والتواضع هو المطية الموصلة إلى العلم، يقول لقمان الحكيم ما معناه: "لكل شيء مطية توصل إليه، ومطية العلم التواضع". إن التواضع هو جماع الأخلاق. ولئن كان الدين حسن الخلق، فكفى بالتواضع جامعاً لكل الأخلاق الحسنة؛ ولئن كان الدين المعاملة، فكفى بالتواضع معاملة حسنةً. كل خلق وكل معاملة بلا تواضع محض رياء مهلك. وبُعث الرسول (ص) ليتمم مكارم الأخلاق، فكانت مكارم الأخلاق كلها موجودة، إلا التواضع، فجاء به الرسول (ص)، فتمت مكارم الأخلاق. أجل، جاء الرسول (ص) بالإسلام، إسلام الأمر كله لله، وما ذاك والله إلا التواضع: أن تضع نفسك فلا ترى لنفسك حولا ولا قوة ولا فضلاً. أعاد الرسول (ص) التواضع، أي الإسلام، الذي كان دين الأنبياء قاطبة من لدن آدم حتى عيسى عليهم السلام.
إن الرسوخ، ببساطة، هو إسلام القلب للحق، لله سبحانه تعالى؛ إسلام الأمر كله لله، والتخلص من كل حول مزعوم ومن كل قوة مزعومة، والتيقن من أن الحول كله والقوة كلها لله سبحانه تعالى وبالله سبحانه تعالى. وبذلك تتحقق العبودية التي خلق الله الجن والأنس من أجلها: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". وما من كلمة نستطيع أن نشرح بها معنى الإسلام ومعنى العبودية ومعنى التقوى ومعنى الرسوخ مثل التواضع. التواضع هو الوسيلة الوحيدة الموصلة إلى العلم؛ من لم يتواضع قلبه وتتواضع جوارحه لم يعلم، ولم يرسخ؛ ومن تواضع فقد علم ورسخ؛ وكفى بالتواضع علماً ورسوخاً، وكفي بالتكبر جهلاً ومهوىً ومهلكة.
الرسوخ في العلم هو معرفة الله وخشيته؛ ومعرفة حقيقة الحياة وأنها لا تساوي جناح بعوضة، ما يستلزم عدم الاغترار بأي شيء من مباهجها ومفاخرها، وعدم الخوف من أي شيء من مكارهها؛ ومعرفة أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا وأن الباقيات الصالحات من الأعمال خير ثواباً؛ ومعرفة الشيطان عدواً واتخاذه عدوا ومعرفة أن النجاة من كيد الشيطان الضعيف لا تكون إلا بالهروب إلى الله القوي المتين؛ فضعف الشيطان ليس أمام قوتنا نحن، فنحن لوحدنا، لا طاقة لنا بمقارعة الشيطان، وإنما يضعف كيد الشيطان أمام كيد الله المتين؛ ومعرفة أن الشيطان يجري في نفس ابن آدم جري الدم في العروق، وأن النفس أمارة بالسوء لأنها تأتمر بوسوسة الشيطان وإيحاءاته وإملاءاته ودعواته، وتأتمر بفعل تخويفه وتحزينه وتيئيسه لها وتزيينه لها السيئات؛ والرسوخ معرفة أن الصراط المستقيم هو القرآن الكريم، وهو يحتوي على كل لوازمنا العقدية والأخلاقية والتعاملية، وأن القرآن الكريم هو أغلى وأعظم وأنفع وأحلى ما هبانا الله في هذه الحياة، وطالما كان في أيدينا وقلوبنا وصدورنا فنحن أغنياء به عن كل ما سواه، وبه ندرك كل ما سواه؛ ومعرفة أن عبوديتنا لله تستلزم تسخير بدننا وجوارحنا للعبادة من صلاة وصوم وقيام ليل، وتسخيرها للعمل من أجل الخير للناس وكف الأذى عنهم، والبعد عن الكسل والتواكل.
والعالم الراسخ ذو خلق وتواضع وحسن معاملة؛
فهو بعيد عن الكبر والعجب، يرد الفضل كله لله، فحتى العلم وحتى التقوى والهداية توفيق من الله، لا فضل لأحد فيه؛
وهو حليم لا يغضب و لا يسب ولا يشتم ولا يغلظ في القول؛
وهو لا يسخر، ولا يحتقر، لأنه يعلم أنه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه؛
وهو زاهد في الدنيا لا يسعى لشهرة ولا لجاه؛
وهو يعلم أن الأمور بيد الله فلا يخاف ذا سلطان لسلطانه؛ ولا يتقرب من ذي مال لماله؛
وهو يعلم أن طلب الثروة وطلب الرئاسة هما الذئبان الجائعان اللذين حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منهما فقال إنهما يقضيان على الدين كما يقضي الذئبان الجائعان على الغنم؛
وهو ثابت لا تزلزله الفتن ولا تضعف إيمانه؛ وهو يعلم أن أعظم الفتن فتنة الدجال، وأن مبلغ الفتن أن يصنع الدجالون من المعدن عجلاً جسداً حياً من لحم ودم، وعندما ينصرف الناس عن عبادة الله يقول لهم: " يا قوم إنما فُتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري"؛
وأخيراً، العالم الراسخ لا يرى نفسه عالماً، بل يرى غيره أعلم منه؛ ولا يرى نفسه راسخاً، بل يرى غيره أشد رسوخا منه؛ شعاراته: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، و"إن علمت شيئاً فقد غابت عنك أشياء"، و"من قال أناعالمٌ فقد جهل"، و"من قال أنا راسخ فقد هوى"، و"من قال اتقيت فقل له ابتُليت"، و"من امتن بعلمه أضاع أجره"؛ و"من قال أنا متواضع فقد تكبر"، و"من قال أنا لم أقصر فقد فُتن"، ومن سعى إلى منصب لينال شرفاً فقد زكى نفسه وخالف أمر ربه، ومن طمع في الرئاسة فقد طمع في الحسرة والندامة.
ذلك هو الرسوخ فلا يدعينّه أحد؛
وهذا هو الرسوخ فليسع الجميعُ إليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.