اليوم بات الجميع على درجة من القناعة أن الدبلوماسية التي يقودها الملك محمد السادس دبلوماسية استباقية بامتياز . فلم يعد هناك مجال للارتجال او الارتكان على ردات الفعل ، بعد أن أصبح المغرب يصنع الحدث على الساحة الإفريقية التي ظلت ولعقود من الزمن تحت رحمة أعداء المغرب وعبثيتهم بمصير قارة بأكملها. الارتباك أصبح الظاهرة المخيمة على سلوكياتهم وانكشفت مؤامراتهم كما سقطت أوراق التوت عن العورات بفضل دبلوماسية ذكية هاجمتهم وقضت مضاجعهم. لقد فطن المغرب لما كانوا يعدون له من مخططات داخل المحفل الإفريقي لإيجاد موطئ داخل الأممالمتحدة حتى يتسنى لهم تحريك المسلسل الأممي والذي يعاد اجتراره كل سنة . وهو المسلسل الذي بات يضايقهم لأنه لم يعد يفرخ لهم سوى بيضا به عقم وغير قابل "للتفقيس". في ظرفية بالغة الدقة ووعيا بما يحاك ضده، أشهر المغرب في وجه الأعداء ورقة العودة إلى الاتحاد الإفريقي . وكانت خطوة ذكية وتستمد قوتها من بعثرة أوراق النظام الجزائري ومواليه. تجلى هذا الارتباك في ردة الفعل غير المتزنة والتي لا تستقيم على أسس متينة . فظهر جليا أنهم غير قادرين على مواجهة الهجمة المغربية سوى بمحاولات ميؤوسة من قبيل التواطؤ والتماطل . تواطؤ الجزائر مع مفوضية الاتحاد الإفريقي السيدة زوما، والتماطل في توزيع طلب المغرب بالانضمام على الدول الأعضاء، أو في إشعار المغرب بموافقة أغلبية الدول الأعضاء على الطلب المغربي. بل أكثر من ذلك أن السيدة زوما تعمدت التملص من مسؤولياتها المحددة في المساطر المتبعة في الحالة المعروضة، على عكس ما فعلت في حالات سابقة، وفضلت بقدرة قادر وفي خرق سافر للميثاق الإفريقي نقل الموضوع من إجراء مسطري إلى نقاش سياسي أرادت أن تثقل به كاهل رؤساء الدول الإفريقية. المغرب مرة أخرى كان على موعد مع الحدث، وتحسبا منه للانزلاقات الخطيرة التي يمكن أن يثيرها النقاش السياسي المدسوس والمفتعل، أراد أن يحاصر الأعداء وأن يقطع الطريق عنهم إبان انعقاد القمة الإفريقية وحرمانهم من ورقة مساومة، فسارع في خطوة لا تقل أهمية عن سابقاتها إلى المصادقة على ميثاق الاتحاد الإفريقي من طرف البرلمان المغربي رغم الظروف غير المتيسرة في المشهد السياسي المغربي. فدعوة مجلس النواب على سبيل الاستعجال إلى تشكيل مكتبه ولجانه وهيئاته تثبت حسن نيته في التوجه، وتلتقي مع ما تستوجبه المصلحة العليا للبلاد. وثبت أن هذه المصلحة باتت فوق جميع الاعتبارات الضيقة للأحزاب التي أبانت بالفعل عن انضباط وطني واصطفاف صادق حينما يتعلق الأمر بالوطن. إذن مصادقة البرلمان المغربي على الميثاق الإفريقي كانت خطوة في الاتجاه الصحيح بل ضرورية ولا محيد عنها لأن الانضمام الفعلي للمغرب لن يتأتى ولن يكتمل إلا بالمصادقة .كما لا يمكن للمغرب أن يكون فعالا داخل المنتظم الإفريقي من أول يوم يلي 31 يناير الجاري إلا بموجب تلك المصادقة. على الأقل هذا ما تنص عليه مواثيق المنظمات الإقليمية والدولية وتلزم به أي طرف أراد الانضمام إليها. وللمرة الثالثة يكون المغرب قد بعثر أوراق زوما وما كان يراهن عليه النظام الجزائري في حالة مجيء المغرب إلى القمة من دون أية مصادقة. ولو لم يقم المغرب بذلك، لكان من السهل جدا على خصومه التشويش عليه وتفويت الفرصة عليه في القمة وبالتالي تعطيل أو تأجيل انضمامه إلى الاتحاد لأشهر أخرى قد يستفيد منها النظام االجزائري بإجبار المغرب في الاستمرار على وضعية الكرسي الفارغ. ومهما كانت طبيعة النقاش السياسي المخطط إثارته داخل القمة فلن يكون مجديا بعد هذا الانجاز، بل سوف يكون معزولا وسيعزل الواقفون من ورائه الذين أصبحوا يشكلون أقلية الأقليات داخل الاتحاد. ويتوقع أن هذه الأقلية ستصارع بدون سلاح وسوف تحاول تمييع المشهد والتشويش بقدر ما أوتيت من خراطيش فارغة، فإنها في النهاية قد تجد نفسها عاجزة عن الوقوف في وجه الحملة الدبلوماسية المغربية المسنودة بقوة الحجة وبصوابية الموقف وبما يزيد عن دعم أربعين دولة لعودة المغرب. قد يقول قائل إن المغرب بمصادقته على ميثاق الاتحاد الإفريقي فهو يعترف ضمنيا بالدول الموقعة على الميثاق من بينها دولة تيندوف. وهذا الكلام لا يستقيم على حجة ثابتة بشكل قانوني بدليل أن أغلبية دول أعضاء في الاتحاد الإفريقي لا تعترف بالكيان الوهمي رغم عضويته ورغم مجالسته لا يعني ذلك تلقائيا اعتراف ضمني، بل أكثر من ذلك أن دولا إفريقية سحبت اعترافها بذلك الكيان وهو عضو في الاتحاد ولم يثر هذا التراجع أي نقاش كما تتمناه اليوم الجزائروجنوب إفريقيا. ومادام الحال على ما هو، فإن هذا الأمر لا يطرح في نظرنا أي إشكال بالنسبة للمغرب. موقف بلادنا سيبقى على ما هو عليه من دون الانتقاص من قيمته لا قانونيا ولا سياسيا. فالاعتراف إذن له ضوابطه وله قواعد وأعراف دبلوماسية متبعة. وبالنسبة لمبدإ الحدود الموروثة عن المستعمر، فمن حيث المبدإ موقف المغرب واضح ومنسجم مع تاريخه في الاستقلال والتحرير التدريجي. والسؤال المطروح على من يريد أن يجر القارة الإفريقية إلى حالة من التشرذم وخلق كيانات وهمية، كيف غاب عنهم احترام مبدأ الحدود الموروثة بعد أن فصلوا جنوب السودان عن شماله. السودان نال استقلاله من بريطانيا بحدود واضحة مع دول الجوار واعترف به داخل المحفل الإفريقي ليصبح اليوم دولة أخرى بحدود غير تلك التي ورثها.هناك بالفعل من يتآمر على سيادة الدول وعلى وحدتها . ومن يتشبث بموروث الاستعمار فهو يخدم أغراض المستعمر ويسعى إلى إضعاف القارة وتعريضها للخطر. ولذلك، نعتقد أن المغرب واع ومدرك للأهداف والمرامي الحقيقية من وراء عودته إلى الاتحاد الإفريقي. أولا، لأنه يشعر حقيقة بالانتماء إلى الأسرة الإفريقية قلبا وقالبا، ثانيا المغرب يجب أن يكون، وهو كذلك، عضوا فاعلا ومؤثرا بشكل إيجابي في كل ما هو في خدمة القارة الإفريقية، ثالثا غالبية الدول الإفريقية ترى في نفسها في أمس الحاجة إلى تواجد المغرب بجانبها لكي لا يتم الاستفراد بالمنظمة من قبل شرذمة مارقة من الدول، رابعا، مهما كان تعاطف العديد من الدول الإفريقية مع قضيتنا الوطنية فإن ذلك غير كاف إذا لم يكن المغرب قاطرة لهذه الدول داخل هذا المحفل في الدفاع عن مصالحه وفي مواجهة خصومه. فالدول المساندة لا تستطيع أن تحل محل المغرب في كل شاردة وواردة لكنها قادرة على الاصطفاف من وراء المغرب، خامسا عودة المغرب ليست غاية في حد ذاتها بل بداية معركة لما بعد العودة. فما يجب أن نخشاه إذن ليس التخوف من الاعتراف وهذه مسألة متجاوزة وستطويها تطورات الموقف المغربي داخل أروقة الاتحاد الإفريقي، بل أن الأمر هو أكبر من الوقوف عند هذه الجزئية للاعتبارات التي بيناها سابقا. فالاشتغال يجب أن ينصب بالأساس على كنه الأشياء لا على مظاهرها وتجلياتها الرخيصة والساذجة. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال دبلوماسية حاضرة بشكل قوي في أديس بابا ولا أعتقد أن الطاقم الحالي في إثيوبيا قادر على صنع الحدث والسهر على النهوض بالمهام الجسام. عودة المغرب إلى الاتحاد ينبغي أن يكون لها شأن وأن يكون لها مضمون سياسي ومشروع اقتصادي وحضاري وأمني كله يصب في خانة استقرار القارة وإيقاف النزيف . هناك من الدول وعلى رأسها النظام االجزائري ما زالت تعمل بعقلية الحرب الباردة لأن البنية الداخلية لهذه الدول ما زالت تحكم شعوبها بعقلية التسلط والتي ترى في دولها وشعوبها عبارة عن ثكنات عسكرية. فالبقاء للأقوى في توجهاته وطروحاته وانفتاحه على الحضارات الانسانية والمبادئ والمثل العليا الداعية الى تحرير وانعتاق الشعوب . وتلك أيام بيننا لا يستمر فيها إلا ما صلح فيها من نظام. [email protected]