رصاص الأمن يوقف مروج مخدرات هاجم شرطيًا بسلاح أبيض    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    وزير الداخلية يبدأ مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة؟    القرار ‬2797 ‬لمجلس ‬الأمن ‬الدولي ‬يعلو ‬فوق ‬كل ‬تفسير ‬ولا ‬يعلى ‬عليه    الخطوط الملكية المغربية تطلق أول خط جوي يربط بين الدار البيضاء والسمارة    احجيرة: نتائج برنامج التجارة الخارجية لا تُعجب.. 40% من طلبات الدعم من الدار البيضاء.. أين المجتهدون؟    ألمانيا تضع النظام الجزائري أمام اختبار صعب: الإفراج عن بوعلام صنصال مقابل استمرار علاج تبون    مجلس الشيوخ الأميركي يصوّت على إنهاء الإغلاق الحكومي    المنتخب المغربي يخوض أول حصة تدريبية بالمعمورة تأهبا لمواجهتي الموزمبيق وأوغندا    350 يورو مقابل التقاط صورة ومقعد على مائدة والدة النجم يامال    تحيين الحكم الذاتي إنتقال من التفاوض إلى مشروع سيادي مغربي نمودجي مكتمل الأركان    تارودانت.. إصابة 17 عاملاً زراعياً في انقلاب سيارة "بيكوب" بأولوز    الحسيمة: مرضى مستشفى أجدير ينتظرون منذ أيام تقارير السكانير... والجهات المسؤولة في صمت!    حموشي يتباحث مع سفيرة الصين بالمغرب سبل تعزيز التعاون الأمني بين البلدين    إيران تعدم رجلًا علنا أدين بقتل طبيب    أتالانتا الإيطالي ينفصل عن مدربه يوريتش بعد سلسلة النتائج السلبية    كيوسك الثلاثاء | المغرب يعزز سيادته المائية بإطلاق صناعة وطنية لتحلية المياه    مع تعثّر انتقال خطة ترامب للمرحلة التالية.. تقسيم قطاع غزة بات مرجحاً بحكم الأمر الواقع    أجواء غائمة مع ارتفاع طفيف لدرجات الحرارة في توقعات طقس الثلاثاء    الدبلوماسي الأمريكي السابق كريستوفر روس: قرار مجلس الأمن بشأن الصحراء "تراجع إلى الوراء"    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    الفاعل المدني خالد مصلوحي ينال شهادة الدكتوراه في موضوع "السلطة التنظيمية لرئيس الحكومة في ضوء دستور 2011"    فضيحة في وزارة الصحة: تراخيص لمراكز الأشعة تُمنح في ظل شكاوى نصب واحتيال    تغير المناخ أدى لنزوح ملايين الأشخاص حول العالم وفقا لتقرير أممي    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    "أسود الأطلس" يتمرنون في المعمورة    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    "الكاف" يكشف عن الكرة الرسمية لبطولة كأس أمم إفريقيا بالمغرب    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة بالعربيّة تجديدًا مَوصولًا أمْ تقليدًا مَدخولًا؟!
نشر في هسبريس يوم 09 - 08 - 2011

كثيرًا ما يَذهب بعض "ٱلمُتحادِثين" (من أدعياء "ٱلحداثة") إلى أنَّ الكتابة بالعربيّة لا تكون مُجدِّدةً وتجديديّةً إلا إذَا قُطِعتْ، بهذا القدر أو ذاك، عن "ٱلتّقليد ٱلكتابيّ" المعروف والمُتعارَف فيها. فتَرَاهُم يَنْبَرُون لوصف كل مَكتوبٍ يُخالِفُ مُدَّعاهم هذا بأنَّه "قديمٌ" و"مُتقادِمٌ"، بل لا يَتردَّد بعضُهم عن وَصْمِ صاحبه بأنَّه "مُقلِّدٌ" و"مُتبِّعٌ" لِما عَفَّاهُ الزمان بِنَحوٍ يَجعلُه - حسب ظنِّهم- أَوْغَلَ في "ٱلقَدامة" وأَبْعَدَ عن "ٱلحَداثة".
وإذَا كان "ٱلتّجديدُ" مَنْشودًا و"ٱلتّقليدُ" مَذمومًا على العموم، فإنَّ ٱنتقادَ نمطٍ في الكتابة بنسبته إلى مُطلَق "ٱلتّقليد" وٱدِّعاءَ أنَّ خالِصَ "ٱلتّجديد" لا يكون إلا بالِانقطاع الكُلِّيّ أو الجُزئيّ عن كل "تقليدٍ" ليُعدُّ أمرًا مُريبًا، خصوصا أنَّ الذين يَأتُونَ مثل هذا ٱلِانتقاد لا يَكادون يُميِّزون بين "ٱلتّقليد" كاجتهادٍ في ٱتِّباع ٱلأُصول ٱلمُؤسِّسة و"ٱلتّقليد" كحِرْصٍ على حفظ كُلِّ مَوْرُوثٍ أو مَأثُورٍ (حتّى لو كان مأثورًا مُحدَثًا كما في حالة "ٱلمُتحادثين" الغارقين في تقليد كل ما صار مَأثُورًا عند ٱلمُحدَثين أو عنهم!).
ومن أجل ذلك، فإنَّ ممّا يَجدُر ٱلتّحقيق فيه ما يَدِّعيه "ٱلمُتحادِثون" من تجديدٍ في الكتابة بالعربيّة. وينبغي، ٱبتداءً، تأكيدُ أنّه ليس كل من تَحدَّث أو أكثر من الحديث في "ٱلتّجديد" و"ٱلحداثة" - وأيضا في "ٱلعقل" و"ٱلتنوير"- يُعَدّ بالضرورة مُجدِّدًا وحداثيًّا و، من ثَمّ، عقلانيًّا وتنويريًّا ؛ لأنَّ هناك طريقةً مُغالِطةً تَتمثَّلُ في إظهار نسبة شيءٍ ما إلى ٱلنَّفس بالحرص على ٱدِّعائه أو إبداء ٱلِانتساب إليه بالتَّركيز عليه والدّوران حوله والإكثار منه حتّى لو كان ٱلمُدَّعي أو ٱلمُتشهِّي لا يَدَ له في ما يَنْسُبه لنفسه أو يَنتسب إليه، بل قد لا يكون عند ٱلتّمحيص سوى دَعِيٍّ تابع أو مُستهلِكٍ مُجْتَرٍّ. ولذا، فإنَّ المُعوَّل عليه، في الواقع ودائمًا، إنّما هو حُصول ٱلِامتلاك الفعليّ تمكُّنًا ممّا هو موضوع للطَّلَب بالتّوفُّر على (أيْ بتوجيه الهِمَّة لتحصيل) ما يُعدُّ وسائلَ مُقرَّرةً وإجراءاتٍ مُحدَّدةً لبُلوغ غاياتٍ مطلوبة و، بالتالي، إعمال ما هو مُتاحٌ وموجودٌ لابتكار ما هو مُمكنٌ ممّا يَصلُح ويَنفعُ. فلا تجديدَ بمُجرد ٱلِادِّعاء وٱلتّشهِّي كما هو غالبٌ على "ٱلمُتحادِثين"، وإنّما "ٱلتّجديدُ" بُلوغُ الغاية في ٱلِاجتهاد لابتكار وإنشاء ما يَصلُحُ ويَنفعُ، سواء في العاجل أو في الآجل.
وحينما نأتي إلى ما يَدَّعيه "ٱلمُتحادِثون" بين ظَهْرَانَيْنَا، فإنّنا نَجِدُ أنَّ أشدَّ ما ٱبْتُليت به "ٱلعربيّةُ" وُجودُ أُناسٍ يُلْقُون الكلامَ على عواهنه ويَأتُون "ٱللَّغْوَى" بلا قيدٍ ولا شرط بحيث تَراهُم لا يَتردَّدُون عن إرسال الأحكام من دون تبيُّن ولا تدليل. وإلا، كيف يُعدّ مُجدِّدًا من يَكثُرُ الخطأُ على لسانه أو يَجري قلمُه بسَيْلٍ من الأغلاط كُلَّما رام قولا أو أَتى مكتوبًا؟! كيف يُمكن أنْ يُقبَل كلامُ من يسهو عن تنقيح ملفوظه أو مكتوبه فيَقترفُ من ضُروب ٱللَّحْن وسُوء التّأليف ما لا يَستقيم في منطق العقول ولا تقبله أُصول النّاطقين، بل ممّا تَمُجُّه أسماعُهم وتَعافُه طباعُهم؟! وكيف يَصِحّ أنْ يدَّعيَ "ٱلتّجديد" مَن لَمْ يُحكِمِ ٱللِّسانَ المُستعمَل ولم يَبلُغِ ٱلغايةَ في إجادته؟! أليس من ٱلسُّخْف المرذول أنْ يَتكلَّم في "ٱلتّجديد" أُناسٌ لَمَّا يَمْلِكوا زِمامَ ٱللُّغة ولا حَصّلوا سُبُلَ المنطق؟! وكيف لمثل هؤلاء أنْ يُشرِّعوا أبواب القول بيانًا أو يُوطِّئُوا طرائق الفكر تَبيُّنًا؟! أليس من العيب الشّائن أنْ يَتقحَّم المُتقحِّمون والمُنْبتُّون مَيادين ما لا يُحسنون؟!
لذلك، لا يَخفى أنَّ مُعظمَ ما يَلُوكه "ٱلمُتحادِثُون" من كلامٍ في "ٱلتّجديد" ليس سوى تضليل يُرادُ به ٱلتّستُّر على فُسولتهم الفكريّة وقُصورهم "ٱلإنشائيّ"، من حيث إنّهم لا يكادون يَأتُون بجديدٍ تفكيريٍّ أو بديعٍ تعبيريٍّ يَستحقُّ أنْ يُشهَد لهم به، ٱللّهم إلا ما كان من ٱجترارِ نُتَفٍ من الفكر الغربيّ والتّلاعُب بألفاظ رنّانةٍ أُسيء تعريبُها فلا تُبِينُ إلا في ٱرتباطها بأُصولها الأعجميّة!
وفيما وراء ذلك ٱلمَسعى البائس، نجد أنّ النّظر في "ٱلتّجديد" يَقتضي - على الحقيقة- تقريرَ أربع مُسلَّمات:
أ- أنّه لا سبيل إلى "ٱلإبداع" كإنشاءٍ من لا شيء وعلى غير مثالٍ سابقٍ، لأنَّ "ٱلإبداع" بهذا المعنى حقٌّ للّه وحده ومُمتنعٌ على البشر بإطلاق، فلا يَدَّعيه إلا ٱلمُتألِّهُون الذين لا يستطيعون - في الواقع- أنْ يَخلُقوا ذُبابًا وهُم يُخلَقُون من حيث لا يشعرون!
ب- أنَّ الأصلَ في فعل الإنسان نوعٌ من "ٱلتّقليد" المُرتبط بكونه لا يَكتسب القدرةَ على التّصرف إلا بمُحاكاةِ ومُتابَعةِ من هم أسبق وأقدر منه الذين يُلقِّنُونه، بشكل مباشر أو غير مباشر، "كيفيّات السلوك" التي تَصيرُ عاداتٍ له من خلالها تُسوَّى طباعُه ٱجتماعيًّا وثقافيًّا ك"مَلَكاتٍ" أو "مَهاراتٍ" في هذا المجال أو ذاك ؛
ت- أنَّ كُلَّ أصلٍ مَورُوثٍ ثَبتتْ فائدتُه في الحاضر، فهو واجبُ ٱلِاتِّباع حتّى لو بدا تَقليديًّا، من حيث إنَّ التّردُّد في قَبُول أيِّ أصلٍ لِمُجرَّدِ أنّه موروثٌ من الماضي من شأنه أنْ يُوقِعَ إمّا في "ٱلعَطالة" (لاستحالة العمل مُطلقًا من دون أصل) وإمّا في "التّبعيّة" أخذًا بأصلٍ آخر مُورَّثٍ في الحاضر (بفعل وراثةٍ ٱجتماعيّة وثقافيّة مجهولة أسبابها داخل وخارج نفس الفاعل ٱلِاجتماعيّ) ؛
ث- أنَّ كُلَّ ما لم يُبْنَ على أصلٍ مَعروفٍ أو مَعقولٍ، فهو بِدْعةٌ مَردودةٌ على صاحبها (أو أصحابها)، لأنَّ كُلَّ ما لَمْ يُبْنَ على شيءٍ من "ٱلمَعارِف ٱلمُشترَكة" يبقى أقرب إلى "ٱلباطل" المَهزوز، وكُلَّ ما لم تَشهد له أسانيد مُدرَكة لا يَستقيم في العُقول ؛
إنَّ تقريرَ هذه المُسلّمات يَجعلُ ٱستعمالَ "ٱللُّغة" غيرَ مُمكن إلا على أساس ٱمتلاك "ٱلأُصول" المعمول بها في مجالٍ تداوليٍّ مُعيَّن، بحيث يَمتنعُ كل تجديد يُفهَمُ كخُروج كُليٍّ على "ٱلأصول" الظاهرة أو الباطنة المُحدِّدة بالضرورة للفاعليّة اللُّغويّة تاريخيًّا وٱجتماعيًّا. وعلى الرغم من أنَّ تقرير هذه المُسلَّمات يأتي نتيجةً لما هو مشهود في واقع الممارسة اللغويّة بكل المجتمعات البشريّة، فإنَّ "ٱلمُتحادِثين" قد يَرون فيه تعسُّفًا يُراد به إلزامُهم بما يَتهرَّبُون منه. غير أنَّ كونَهم أُناسًا أُشْرِبت أنفسُهم فكرةَ أنَّ «ٱلتّجديدَ إحداثٌ غير مشروط بإطلاق» هو الذي يَجعلُهم لا يُدركون أنَّ الجهل بأسباب الضرورة التي تَسكُنهم هو وحده الذي يُبرِّر تَعلُّقَهم بكل ما هو "مُحدَثٌ" كما لو كان يَأتي (أو يُؤتى به) من عدم محض. ولذا، تَجِدُهم مَيّالِين إلى الأخذ بكل ما تبدو عليه مَسْحةُ "ٱلجديد" من دون أيِّ تَبيُّنٍ كافٍ من لدنهم في الشروط المُحدِّدة لوضعه وٱستعماله. وبهذا، فهم يُثْبِتُون لا فقط مدى عجزهم عن ٱلإتيان بالجديد المُبتكَر فعلا، وإنّما أيضا تَعثُّرَهم في فهم أسرار "ٱلإنشاء" و"ٱلِابتكار" كما تَتحدَّدُ تاريخيًّا وٱجتماعيًّا.
وبما أنَّ الأمرَ يَتعلَّقُ بالكتابة في العربيّة، فإنَّ ما يَنبغي تأكيدُه (والتأكُّد منه) أنَّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيَّ" - تمامًا مثل غيره من الألسن- يَتحدَّد كنسقٍ لُغويٍّ له قواعدُه التّصريفيّة والتّركيبيّة والدلاليّة والتّداوليّة التي لا يَصِحُّ ٱستعمالُه من دونها. وإذَا كان "ٱلمُتحادِثون" لا يَجرُؤون على "تعدِّي ٱلحدود" حينما يُضطَرُّون إلى ٱستعمال ألسنٍ أُخرى، فإنَّ تَهاوُنَهم أو ٱستخفافَهم بشأن "ٱللِّسان ٱلعربيّ" يُعدُّ من قِبلِهم إخلالا بواجبٍ يَزْدَوِجُ بإساءةِ تَصرُّفٍ، وكلاهما أمران يَقدحان في جدارتهم المِهْنيّة كمفكرين وكتاب، من جهة قُوّة مَلَكتهم في العربيّة، وأيضا من جهة مدى جديّتهم وهم الذين لا يَفتَأُون يَدَّعُون القُدرة على ٱبتكار بَدائعَ في الفكر والقول تُؤهِّلهم، حسب زعمهم، لتجاوُز أقرانهم السالِفين والحاضرين.
ومن ثَمَّ، فإنَّ المرءَ ليَعجبُ كيف أنَّ "ٱلمُتحادِثين" بيننا يُذْعِنُون أيَّما إذْعانٍ لقواعد الألسن الأجنبيّة، في حين يَبْدُون مُتساهِلين جِدًّا إزاء كل أنواع ٱللَّحن والغلط التي يَقترفونها في أثناء ٱستعمالهم للعربيّة. وأكثر من ذلك، فإنَّهم لا يَستنكِفُون في تبرير ما يَصنَعُون عن القول بأنَّ "ٱللِّسان ٱلعربيّ" يقف دون الألسن الأُخرى، لكونه - في ظنّهم- لسانًا عتيقًا وجامدًا بفعل ٱرتباطه ب"ٱلنّص ٱلمُقدَّس" ٱلذي يَزعُمون أنّه يَحظُر كل تجديدٍ في "ٱللُّغة" لكي يَحفَظ "ٱلكلامَ ٱلإلاهيَّ" في كماله وصفائه. وهم بهذا إنّما يَدُلُّون على جهلهم بحقيقة علاقة "ٱلقرآن ٱلكريم" باللِّسان ٱلعربيِّ، إِذْ لو أنّهم ظهروا على عُمق ٱلِانقلاب البيانيّ الذي أحدثه "ٱلوحيُ" في ٱستعمال العربيّة، لَمَا وجدوا طريقًا لإرسال مثل ذلك الحُكْم الذي يُغْفِلُ أنَّ نص "ٱلقرآن" كان مُجدِّدًا على كل المستويات بالقدر نفسه الذي كان عاملَ تَجديدٍ في ٱللُّغة والفكر على سواءٍ. ومن أنكر هذا، فلن يَستطيعَ تفسير كل التّحوُّل الذي عرفه "العرب" و"المُتعرِّبون" من المسلمين بعد قيام الإسلام وٱنتشاره في كل بقاع الأرض.
لكنْ يبدو أنَّ "ٱلمُتحادِثين" لا يُبرِّرُون تعاطيَهم المُنحرف في ٱستعمال العربيّة بالتّهجُّم عليها في صلتها بالقرآن إلا لأنّهم يُريدون - وهم أدعياء "ٱلإبداع"- قَطْعَ "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" عن لُغة "ٱلوحي" ليَسهُلَ عليهم تسويغ مُدَّعاهم في ٱلإتيان بما يَتجاوُز "ٱلبيان ٱلقرآنيّ ٱلمُعجِز". وإنَّ حرصَ "ٱلمُتحادِثين" على التّظاهُر ب"ٱلتّجديد" وٱدِّعاء "ٱلإبداع" ليُؤكِّد أنَّ ما يَنْفُونه من القداسة عن النّص القرآنيّ يُريدون إثباتَه لأنفسهم فيما يَختلِقُونه من نُصوص يَرون فيها مُنتهى "ٱلجِدّة" و"ٱلتّفرُّد"!
إنَّ ٱستواءَ "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" لسانًا يَكفُل "ٱلإنشاءَ" الفنّيّ البديع، كما وصلنا في الشعر الجاهليّ وكما واصله النّصُّ القرآنيُّ، ليَجعلُ منه لسانًا قائمًا بصفته وسيلةً بنائيّةً وتعبيريّةً تَقبَلُ ٱلِاستعمالَ في حُدود إمكانات ٱلنَّظْم وٱلتّوليد التي تُقوِّمه بما هو لسانٌ إعرابيٌّ له خصائصه المُميِّزة تصريفيًّا وتركيبيًّا وتدليليًّا. ومن هذه النّاحيَة، لا ريب أنَّ "ٱللِّسان ٱلعربيَّ" يُتيحُ لمُستعملِيه ما يُتيحُه أيُّ لسان آخر توفَّرت له كل الشروط المُناسبة لاكتسابه وٱستعماله بشكل قويم. فلا شيء، إذًا، يَمنَعُ - من النّاحيَة النّسقيّة- "ٱلتّجديدَ" في "ٱللِّسان ٱلعربيّ" أو يَحُدُّ لُغويًّا من القُدرة على ٱلتّعبير الإنشائيّ به، وإنّما ٱلْمُصيبةُ كُلُّها قائمةٌ في أُناس يَحْرِصُون على الظُّهور إحداثًا بلا شرط وتَحادُثًا من دون أثر. ولذلك، تَراهُم لا يَتوَانَوْنَ عن إلقاء ٱللَّوم على "ٱللُّغة" حيثما أعجزتهم الحِيَلُ عن تسويغ مَناقصهم في ٱلنَّظْم ٱلتّأليفيّ وٱلتّشقيق البيانيّ.
وإنّهم، بهذا الخصوص، ليَأْتُون بأعاجيب لا سُلطان لهم عليها غير التّحكُّم والتّشهِّي. أفلا تراهُم كيف يَضعُون الألفاظ تَعريبًا يَحرص على حِفْظ الرّطانة الأعجميّة ولا يَلتفتُ إلى ٱلِاتِّساق الصوتيّ والصرفيّ الخاص باللِّسان العربيّ؟! ألَيْسُوا هم الذين يَعملُون على تعنيف هذا ٱللِّسان في تركيبه وتصريفه ومعجمه لكي يَستويَ وَفْقَ قوالبِ وٱتِّفاقاتِ الألسن الأجنبيّة من دون مُراعاة ٱلفُرُوق الثّابتة بينه وبينها؟! ألا تَجدُهم أحرصَ النّاس على النّقل الحرفيّ فيما يُترجمون وألصقَهم بالقُشُور فيما يَجترُّون؟! فكيف يُستساغُ ما يَدَّعونه من تجديدٍ في هذا ٱللِّسان وهم الذين لا يَعمَلُون إلا على ٱستعماله بشكل فاسدٍ ومُفسدٍ؟!
حقًّا، إنَّ "ٱلمُتحادِثين" لَيَبْدُون -في ٱستخفافهم بنسق "ٱللِّسان ٱلعربيّ" وٱستسهالهم للبناء به إنشاءً وٱبتكارًا- أعجزَ النّاس عن إتيان الكتابة بالعربيّة على نحوٍ تجديديٍّ ومُجدِّدٍ، من حيث إنّهم لا يرون في ٱستعمال "ٱللِّسان ٱلعربيّ" غير التّخريق والتّرتيق كيفما ٱتّفق لهم. والحال أنّه لا سبيل إلى "ٱلتّجديد" في ٱستعمال هذا ٱللِّسان إلا بالإحاطة بأسراره وٱلتّمكُّن من دقائقه لمُضاهاةِ ٱلمَهَرةِ في فُنون القول والفكر من القُدامى والمُحدَثين. وأنّى لمن يقف دون إتقان "ٱللِّسان ٱلعربيّ" أنْ يَشرئِبَّ لشيء من ذلك، ما دام الإنشاءُ بناءً موصولا بما ٱستقرَّ نسقيًّا في سَنَن ٱلِاستعمال ٱللُّغويّ فصار مُحتاجًا إلى من يَجتهدُ لتجديد تخريجه وإظهاره كأنّه إنّما يَبتكرُ صُنْعَه ولا يَستأنفُ وَضْعَه.
وهكذا، ينبغي أنْ يُعْلَمَ أنْ من يَنْبرِي للكتابة بالعربيّة ٱبتكارًا مُجِدِّدًا ونُبوغًا مُبَرِّزًا مُطالَبٌ بأنْ يَبلُغَ الغايةَ في إجادة "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" وأنْ يَجتهدَ وُسْعه في الإنشاء به نَظْمًا مُتَّسقًا وبناءً مُحْكمًا بعيدًا عن الشّائع من ضُروب ٱلِاستسهال وٱلِاستعجال التي تَجعل المُنْبتِّين من مُستعملِيه يُخِلُّون بكثير من الشروط المُقوِّمة للتعبير به تصريفًا وتركيبًا وتدليلا. فليس من ٱلِاستعمال التّجديديّ للعربيّة أنْ يُحرَّف شكلُ الألفاظ لحنًا أو تَلحينًا (عدم التّمييز، مثلا، بين "عِلاقة" و"عَلاقة" وبين "مُختلِف" و"مُختلَف"!)، ولا أنْ يُعدَّى الفعلُ بغير ما يُعدَّى به أصلا ("أَكدَّ [علي]هُِ" و"قَطعَ [مع]هُ" و"قال [على] إنّه"!)، ولا أنْ يُستكثَر من ٱلرّطانة بالألفاظ المُعَرَّبة تعريبًا فاسِدًا ("إيديولوجيا" و"إپيستمولوجيا" و"پراديغم"!)، ولا أنْ تُعنَّفَ ٱلصِّيغُ والتّراكيبُ في "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" لتُوافقَ ما يَختص به غيره (ٱستعمال "هُو" كرابط إسناديٍّ أو تأنيث المُذكَّر أو العكس!).
وإذا كان ذلك مُبتغى أدعياء "ٱلتّجديد ٱلمُتحادِث" من ٱستعمال ٱلعربيّة، فإنّ المُؤكَّد بلا أدنى شَكٍّ أنَّ الأمر لا يَتعلَّق إلا بتقليدٍ مَدْخُولٍ يُحاكِي ضُعفًا المَأثورَ عن ٱلْمُحدَثين بما يُوقِعُ أصحابَه بعيدًا عن "ٱلتّجديد ٱلمَوْصُول" الذي يَصبُو أهلُه إلى ٱستئنافِ ٱلبيان ٱلعربيّ بِناءً قويًّا ومُبتكرًا من دون كثير ٱدِّعاءٍ ولا بالغ إطراءٍ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.