دمنات، المدينة التاريخية، التي ما إن تسأل عنها أحد أبنائها حتى يقول إنها "سبقت مراكش بأربعين سنة"، تحمل ظهيرا سلطانيا يرفعها إلى مصاف المدن الحضرية المغربية منذ 1887 في عهد المولى الحسن الأول، أما سورها فقد اعتبر منذ سنة 1942 تراثا وطنيا بقرار وزيري. وكانت المدينة فيما مضى تختفي وراء الأسوار، التي تحول بين الناس وبين رؤية ما بداخلها من مساجد ودور ومدارس قرآنية وفنادق. وقد كان للسور أربعة أبواب، لكل باب قصة وراء تسميته بهذا الاسم أو ذاك. كما أن دمنات تملك ضمن تراثها المادي قصرين، هما قصر" الكلاوي" وقصر "المولى هشام" أو "دار مولاي هشام" كما يسميه السكان المحليون. دمنات بعيون أبنائها "بعيدا عن تناقض الروايات بشأن تأسيس المدينة، فإن الآراء تتفق على أن القصبة هي أول ما بني في دمنات، وكانت تدعى القصبة المخزنية، ويحيط بها سور يحرسها من كل مفاجأة، ويجذب الزائرين ويدعوهم إلى الدخول واكتشاف أسرار التاريخ" هكذا تحدث الدكتور محمد أبحير، العضو بمركز أعلام دمنات للدراسات المجالية، عن مدينته. واستطرد قائلا: "ولسور المدينة أربعة أبواب، هي: باب العيد المتاخم لرياض القائد، والذي لم يعد له أثر ولا يتذكره إلا القليل من الدمناتيين، وباب إفشتالن الملتصق بدرب جنان المخزن، وباب إكداين الذي يطل على حقول إكداين، وأخيرا باب العرب أو "إعرابن" المحاذي لحي الملاح، الذي عرف عدة تغييرات، حيث إن شكله القديم كان عبارة عن باب مزود ببرجين، أما الآن فهو عبارة عن بابين كبيرين وبابين صغيرين". فيما تحدث محمد أبحير عن القصور التاريخية للمدينة قائلا: "أما القصور فنعثر على قصرين، هما: قصر الكلاوي وقصر المولى هشام، فالقصر الأول يوجد داخل سور وسط الأشجار المثمرة أو ما يسمى بالرياض، وتتخلل هذا السور أبراج كانت تستغل كأنظمة دفاعية ضد الطوارئ. وتبدو العمارة الإسلامية على هذا القصر، خصوصا الأطلال المتبقية منه، حيث تثير بعض الأبواب مزينة بنقوش وزخارف في نفس النفس الإحساس بالعظمة. أما القصر الثاني فهو دار المولى هشام الموجود في الطريق المؤدية إلى "إغير" بجانب دار الشباب محمد الزرقطوني، وتمثل أمام باب القصر وعلى مد البصر الطبيعة الحية الفاتنة، وتحرسه رحى تسمى باسمه، كما أن واجهة القصر الأمامية توحي بأن داخله ما زال يحكي أسرار الماضي، يضيف المتحدث ذاته. أما الدكتور عبدالعالي بروكي، وهو فاعل جمعوي، فقد فضل أن يحدث هسبريس عن قيمة السور التاريخي للمدينة قائلا إن "قيمة هذه الأسوار تكمن في ذاتها وفيما يمكن أن تمنحه للمدن التي توجد بها من قيمة تراثية. فالتطور المورفولوجي للمدن فرض عليها التوسع تدريجيا خارج الأسوار ليتوسع مجالها الحضري". وأشار إلى أن هذا التوسع لم يصاحبه ترميم مستمر للأسوار، والذي يتطلب وعيا بالقيمة التراثية التي قد تكتسيها أي معلمة في الحاضر أو آثار عمرانية في المستقبل، وهو ما لم يحدث بدمنات، فالتطور العمراني صاحبه تدمير لعدة نقاط من السور، ولا يزال التدمير مستمرا"، يضيف الفاعل الجمعوي وعلامات الحسرة بادية على محياه. مولاي عبدالعزيز أبوعيسى، عضو جمعية "بغيت نشوف دمنات زوينة" والمهتم بالتراث المادي واللامادي بدمنات، رافق هسبريس لأخذ صور لمجموعة من الآثار التاريخية بالمدينة، وفي طريقنا إلى أماكن الآثار كان يتحدث عن مدينته بدون ملل، وبتفاصيل دقيقة بطريقة قلما تجدها عند شخص آخر، وفي خضم حديثنا، قال بكثير من الآسى إن "المباني والآثار التاريخية بدمنات فقدت، ولا تزال، الكثير، في غياب استراتيجية واضحة من كافة المتدخلين لإعادة الاعتبار لهذه الآثار التي تظل شاهدة على عراقة المدينة". استيلاء عبد اللطيف بوغالم، أحد أبناء المدينة، لم يستغرب ما يحصل للآثار التاريخية بمدينته، إذ قال في تصريحه لهسبريس: "من الطبيعي أن تقوم "مافيا العقار" بالاستيلاء على المآثر التاريخية للمدينة في ظل جفاء أهل المدينة وصمتهم على أعمالها الإجرامية"، مضيفا أن ما حدث ل"تالبرجت" بحي القصبة وما حدث للسور القديم بنفس الحي أكبر دليل على إجرام هذه العصابة. وحمل بوغالم مسؤولية ما وصفه بالدمار الذي لحق بمآثر دمنات للسلطات المحلية والمجلس الجماعي ومصالح الوزارة الوصية على القطاع بالجهة. بوغالم الذي كان يتحدث إلى هسبريس بقلق شديد، طالب بفتح تحقيق نزيه لكشف كل المتورطين في قضية الاستيلاء على رموز تاريخية هي أغلى ما تملكه المدينة، على حد تعبيره. من المسؤول؟ "أظن أن المشكل ليس في المسؤولين فقط، وفي درجة وعيهم بأهمية التراث المادي كمشروع تنموي، بل في جميع مكونات المدينة، فلا يجب أن نكتفي بالفرجة وانتقاد الوضع. إذ أن مشاريع تثمين التراث في كل بقاع العالم لا يقوم بها الغرباء عن البلد، بل يحققها أبناء المدن بتضافر الجهود بين المسؤولين والمجتمع المدني والساكنة كذلك، فحراس الأسوار والأبواب هم بالدرجة الأولى السكان أنفسهم، أما إذا كان حاميها حراميها، فالنتيجة الحتمية هي ضياع هذا الكنز التراثي، وما أندر الكنوز التراثية المادية حاليا بدمنات"، هكذا صرح الأستاذ الجامعي عبدالعالي بروكي بخصوص من يتحمل مسؤولية الحفاظ على الآثار التاريخية بالمدينة. أما محمد أبحير فقال إن المحافظة على الآثار وتثمينها يحتاجان إلى تضافر الجهود من قبل جميع الأطراف المعنية، مضيفا أن المدينة في حاجة إلى فاعل سياسي يعي أهمية الحفاظ على الموروث التاريخي، فضلا عن تسلحه بالديموقراطية التشاركية أثناء تدبير الشأن العام، كما يحتاج إلى فعاليات جمعوية تستثمر في بناء الإنسان قبل تحسيسه بأهمية الحفاظ على المعالم التاريخية للمدينة، فمهما بلغت مرافعات الفاعل الجمعوي فإنها ستفشل في ظل مجتمع يرزح تحت الأمية والجهل، على حد قوله. مصدر مسؤول بالمصالح الجهوية لوزارة الثقافة ببني ملال أوضح في تصريحه لهسبريس أن الوزارة واعية بأهمية التراث المادي واللامادي الذي تزخر به دمنات، مؤكدا أن هذا الغنى المتميز على مستوى التراث للمدينة يفرض على الجميع التدخل للحفاظ عليه، مشيرا إلى أن وزارة الثقافة قامت بترميم جزء مهم من السور سنة 2012، إلا أن المشكل الذي يعانيه هذا السور هو التراخيص التي منحت في وقت سابق لبناء منازل إسمنتية مكان السور أو بالمحاذاة منه، يضيف المتحدث ذاته. وبخصوص دار مولاي هشام، أشار المصدر ذاته إلى أن مصالح الوزارة المعنية ببني ملال قامت بإنجاز دراسة تقنية حولها، وأهاب بتدخل الجميع لرد الاعتبار لهذه المعلمة، التي قال إنها لا تحتاج فقط إلى ترميم، بل من المفروض أن تؤدي مرافق المعلمة وظائف معينة. إذ بالإمكان، كما قال، تحويلها إلى مركز لتفسير التراث من أجل المساهمة في التنمية المحلية والمستدامة، وإعادة الاعتبار للمنطقة بشكل عام، مما سيعود بالنفع على أصحاب القرى السياحية، ويستقطب أعدادا مهمة من السياح بمختلف فئاتهم، مشيرا إلى أن المصالح الجهوية لقطاع الثقافة تعمل حاليا على جرد دقيق لجميع الآثار والمباني التاريخية بمدينة دمنات. وفي انتظار تدخل الجميع لإنقاذ ما تبقى من المباني والآثار التاريخية بدمنات، يبقى الكثير من المباني التراثية الفريدة والآثار التاريخية المنتشرة عبر ترابها أماكن للقمامة ومآوٍى للكلاب الضالة ومروجي المخدرات، فضلاً عن استغلالها وتحويلها إلى عقارات وكتل خرسانية من طرف "مافيا العقار" بدمنات.