الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تطالب بالاستجابة لمطالب المحتجين على تدهور الخدمات الصحية    وجدة: توقيف شخص متورط في ترويج المخدرات والمؤثرات العقلية وحجز آلاف الأقراص    المغرب يوظف الرقمنة في تأمين حدود المملكة أثناء نهائيات كأس إفريقيا    موهوب يسجل في مرمى "أورينبورغ"    "كوباك" تعرض منتجات في "كريماي"    تساقطات مطرية مرتقبة بالريف وشرق المملكة    هولندا.. مقتل مشتبه به برصاص الشرطة نواحي روتردام    الدوري الدولي لكرة القدم داخل القاعة بالأرجنتين..المنتخب المغربي يتفوق على نظيره للشيلي (5-3)    أخنوش ينوه بمهنيي الصحة ويلوح باتخاذ الإجراءات اللازمة في حق من لا يؤدي مهامه منهم    في بيان المؤتمر الإقليمي للاتحاد بالعيون .. المبادرة الأطلسية من شأنها أن تجعل من أقاليمنا الصحراوية صلة وصل اقتصادي وحضاري    العيون .. قارب مطاطي مهجور يثير الشكوك حول أنشطة غير مشروعة بسواحل الإقليم    الحسيمة.. نقابة تحذر من انهيار المنظومة الصحية وتطالب بلجنة مركزية للتحقيق    بريطانيا وكندا وأستراليا تعترف رسميا بدولة فلسطينية    الرجاء ينهي ارتباطه بالشابي وفادلو على بعد خطوة من قيادة الفريق    ميناء طنجة المتوسط يطلق مشروع توسعة بقيمة 5 مليارات درهم    مصرع شابين في حادثة سير مميتة بإقليم شفشاون        المغرب يترقب وصول دفعة قياسية من الأبقار المستوردة الموجهة للذبح        خط أنبوب الغاز الإفريقي الأطلسي يجسد الرؤية الملكية الاستراتيجية من أجل إفريقيا أكثر اندماجا (أمينة بنخضرة)    أداء مطارات أوروبية يتحسن عقب هجوم سيبراني    الناظور.. اعتقال شرطي اسباني وبحوزته 30 كيلوغرامًا من الحشيش        دور الفرانكفونية تجدد الثقة بالكراوي    بنخضرة: خط أنبوب الغاز الإفريقي الأطلسي يجسد رؤية الملك للاندماج الإفريقي    رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم 'جياني إنفانتينو' يزور الملعب الكبير لطنجة    الملك: علاقات المغرب وأرمينيا متينة    إسرائيل تعيد إغلاق معبر الملك حسين    عملية بئر لحلو.. إنزال عسكري مغربي مباغت يربك "البوليساريو" ويفضح تورطها مع شبكات التهريب    حملة استباقية لتنقية شبكات التطهير السائل استعداداً لموسم الأمطار    "اقطيب الخيزران" تدشن موسمها الفني بمسرح المنصور بالرباط    استخدام الهواتف الذكية يهدد الأطفال بالإدمان    فريق يتدخل لإنقاذ شجرة معمرة في السعودية    نقابة: لن نقبل بالتفريط في مصالح البلاد وحقوق العمال بشركة سامير    بطولة إنكلترا: ليفربول يحافظ على بدايته المثالية ويونايتد يعبر تشلسي    ميلوني تأمل حكومة فرنسية محافظة    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية ينهي المرحلة الثانية بانتصار ثمين ويحافظ على صدارة الترتيب        اضطرابات في مطارات أوروبية بسبب خلل إلكتروني أصاب أنظمة تسجيل الركاب    بورتريه: أندري أزولاي.. عرّاب التطبيع الصامت    الشرادي يتغنى بالصحراء المغربية في قلب موريتانيا    "الغد كان هنا" منجية شقرون تقيم معرضا شاعريا بين الذاكرة والضوء    المقاطعة الثقافية لإسرائيل تتسع مستلهمة حركة مناهضة الفصل العنصري        الانبعاثات الكربونية في أوربا تبلغ أعلى مستوى منذ 23 عاما (كوبرنيكوس)    "على غير العادة".. بريطانيا تفتح المجال لتجنيد جواسيس حول العالم بشكل علني    دراسة.. النحافة المفرطة أخطر على الصحة من السمنة    انفصال مفاجئ لابنة نجاة عتابو بعد 24 ساعة من الزواج    الرسالة الملكية في المولد النبوي    تقنية جديدة تحول خلايا الدم إلى علاج للسكتات الدماغية        تسجيل 480 حالة إصابة محلية بحمى "شيكونغونيا" في فرنسا    الذكاء الاصطناعي وتحديات الخطاب الديني عنوان ندوة علمية لإحدى مدارس التعليم العتيق بدكالة    مدرسة الزنانبة للقرآن والتعليم العتيق بإقليم الجديدة تحتفي بالمولد النبوي بندوة علمية حول الذكاء الاصطناعي والخطاب الديني    رسالة ملكية تدعو للتذكير بالسيرة النبوية عبر برامج علمية وتوعوية    الملك محمد السادس يدعو العلماء لإحياء ذكرى مرور 15 قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدرسة الطموحات والتطلعات
نشر في هسبريس يوم 29 - 01 - 2019


- 1 –
انطلاقا من سنة 1956، تاريخ استعادة المغرب لاستقلاله الوطني، عمل ورش التربية والتعليم بأساليب ومخططات واستراتيجيات مختلفة، بهدف تعميم التعليم، وانفتاحه على القيم الروحية والثقافية، وتوفيره فرص متكافئة لمختلف مكونات الشعب المغربي، للانخراط في أسلاكه ومنظوماته. كما بذل جهدا ملحوظا من أجل إدماج العلوم والتقنيات الجديدة في برامجه، في محاولة لتكييفه مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعصر العالمي الحديث. إلا أن السياسات التي اعتمدها هذا الورش، منذ البداية، والتي قامت في أساسياتها على الاستجابة لمرحلة ما بعد عهد الحماية، استنفدت أغراضها مع ظهور عصر العولمة، ومعالم "القرية الكونية"، وهو ما كان يتطلب طي مرحلة الماضي وبناء نظام تربوي جديد في مستوى تحديات العولمة والقرية الكونية الجديدة، وهي تحديات تقوم على مبادئ وقيم مغايرة.
في أفق ستينات القرن الماضي، عرفت التربية في بلادنا توجها عاما تجلى في ربط التربية بالتنمية، وهو ما كان من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى التنمية البشرية والإحساس بإنسانية التربية، ولكن مع حلول الألفية الثالثة، فوجئ المغاربة بتراجع موضوع التربية إلى مرتبة ثالثة، بعد العولمة والديمقراطية بحمولتها الضخمة، القائمة على حرية الفكر/حرية السوق/حرية الاعتقاد. وفوجئوا أكثر من ذلك بعدم قدرة السياسة التربوية على التصدي للآثار السلبية الناتجة عن عولمة الاقتصاد، ولا التصدي لإشعاعية الديمقراطية.
- 2 –
هكذا، وبالرغم من الإنفاق الضخم الذي صرفته الدولة على قطاع التعليم خلال العقود الخمسة الماضية (حوالي 25% من الميزانية السنوية العامة)، لم تستطع الأنظمة التربوية الإسهام في عملية التنمية المنشودة، ولم تستطع تحقيق النتائج المرجوة للديمقراطية؛ إذ ظل التعليم متخلفا في مناهجه وهياكله ومضامينه وطرائقه.
إن النقد العلمي/التربوي، الذي واجه السياسات التعليمية بالمغرب خلال العقود الخمسة الماضية، يؤكد أن هذه السياسات عرفت تخبطا وعدم وضوح في العلاقة بينها وبين احتياجات الهيكل الوظيفي للتعليم، إضافة إلى غياب فكر تربوي واضح المعالم من شأنه إنجاز مهام التنمية الشاملة التي طرحت نفسها باستمرار على المغرب خلال هذه الفترة من التاريخ.
وفي نظر الباحثين في الشأن التربوي المغربي، فإن القصور في هذه المسألة لا يعود فقط إلى فشل النظام التعليمي وحده، ولكن أيضا إلى إخفاق وفشل برامج التنمية ذاتها، لعدم قدرتها على استيعاب الاحتياجات الفعلية للواقع المغربي، وما يرتبط به من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
وفي نظر هؤلاء الباحثين أيضا، فإن السلبيات التي أحدثت فجوة واسعة بين النمو في جهاز التعليم والنمو في حركة الواقع المغربي متعددة، يمكن إيجازها في:
- عدم استطاعة سياسات التعليم الوفاء بحاجات البلاد صناعيا وزراعيا واستيعاب الطاقة العاملة، مما خلق فائضا كميا كبيرا في إعداد الخريجين وأعاق بشكل ملموس عملية التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد.
- الاتجاه المستمر لسياسات التعليم نحو تغطية حاجيات الإدارة من الكوادر الوسطى، وهو ما يتنافى تماما مع مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة.
- عدم اهتمام سياسات التعليم بالتعليم التقني، وجعل كل الحوافز أمام التعليم الجامعي.
- اعتماد سياسات التعليم، في العديد من المحطات، لأهداف طموحة من غير أن تسخر لها الوسائل الكفيلة لتحقيقها.
- عدم استناد هذه السياسات إلى تخطيط علمي يضمن التوازن الضروري بين أهدافها وبرامجها من جهة، وبينها وبين المخططات الاقتصادية من جهة أخرى.
- عدم اعتماد هذه السياسات على استراتيجيات متواصلة للتكوين المستمر للأطر العاملة في حقل التعليم تواكب أهداف التنمية وطموحاتها.
- افتقار هذه السياسات إلى مقومات وخصائص التعليم السليم الذي يكون عونا على التعليم الاقتصادي والاجتماعي؛ إذ ظل مسخرا لخدمة أهداف النمو الاقتصادي الذي تتحكم فيه قرارات خارجية، وليس التنمية البشرية التي تستجيب للمتطلبات الوطنية.
- 3 –
بذلك يكون ورش التربية والتعليم انطلاقا من سنة 1956 وحتى اليوم، رغم ما بذله من جهد، لم يستطع الإسهام في عملية التنمية المنشودة، ولم يحقق النتائج المطلوبة؛ إذ ظل بشهادة الحكومات والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، وبشهادة علماء التربية، متخلفا في هياكله ومضامينه وطرائقه. لم تمس المحاولات المتعاقبة لإصلاحه إلا بعض جزئياته الشكلية دون أن تغير من مقوماته الجوهرية، فبقي أسير أوهام الماضي، سواء في تمسكه بأسلوب التلقين، أو في اختزاله تقويم الكفايات والكفاءات، أو في القدرة على الاسترجاع والاستذكار، ولم ينجح في أن يجعل التفكير العلمي بديلا عن التفكير الخرافي القائم على الحدس والوهم، كما لم ينجح في تأسيس ثقافة شعبية قائمة على أسس علمية بديلة يتطلبها التواصل مع عصر العولمة ومع تحديات الديمقراطية ومتطلبات التنمية.
يعني ذلك بوضوح أن السياسات التعليمية في المغرب، ونتيجة للسلبيات المذكورة، قد ركزت خلال العقود الخمسة الماضية على المحفوظات والمعلومات والمقررات، أكثر مما اهتمت بصياغة الإنسان المواطن الصالح، العارف بحقوقه وواجباته، المتشبع بقيمه الوطنية والروحية والإنسانية، المؤهل لمواكبة التطورات الفكرية والعلمية ومتطلبات العولمة والحداثة.
ونظرا لهذه الحالة من التردي، التي لم يستطع ورش التعليم المفتوح على مصراعيه منذ سنة 1956 وحتى الآن معالجتها أو التحكم في سلبياتها، فإن أية مقاربة تقليدية للإصلاح أو المعالجة، لم يكن أمامها سوى إعادة إنتاج نفسها وبدرجة أسوأ. وأقصى ما أعطته من نتائج هو محافظتها على مستوى تخلفها عن الركب العالمي.
إن ما قد ينتج من آثار وخيمة على مستقبلنا الاقتصادي والاجتماعي والحضاري، جراء سيادة العولمة واكتساحها في غياب نظام تربوي على مستوى تحديات هذه "السيادة"، قد يعرض واقعنا، كبلد ينتمي للدول الأكثر تخلفا في اقتصاده ويعاني من الأمية متعددة الصفات: (أمية أبجدية، أمية تكنولوجية، أمية سياسية، أمية ثقافية) ومن الفقر والتهميش والبطالة ولا يخضع لأي تخطيط وغير مرتبط بأية صيرورة تنموية... (قد يعرضه) لتأثيرات سلبية لا أحد يستطيع تصورها أو تحديد نتائجها.
إذن ما هي التربية التي يجب اختيارها لبلد في وضعية المغرب في ظل المتغيرات التي يعرفها عالم اليوم المتعلقة خاصة بالتنمية البشرية وبالعولمة والتنافسية والتبادل الحر والحداثة والتكنولوجية؟
ما هي التربية التي تستطيع تدارك ما فات لبلد في وضعيتنا وتحقيق قفزته النوعية التي تضعه على سكة العصر بقيم جديدة ومسارات جديدة تستجيب لاختياراته الديمقراطية والحضارية ولقيمه الروحية؟
- 4 –
يلخص علماء الاقتصاد مفاهيم التنمية البشرية، التي تضعها السياسات التعليمية ببلادنا كاختيار أساسي، في اكتساب الساكنة القدرة على الرفع من ناتجها الحقيقي الإجمالي بكيفية تراكمية. وهو ما يعني الزيادة والتوسع في الإنتاج والاستغلال الأمثل للموارد البشرية المتاحة، والرفع من قدراتها الإنتاجية، وتهيئ تكافؤ الفرص الاقتصادية بين المواطنين وبين المناطق المختلفة للوطن، والرفع من الدخل السنوي للأفراد، والتنوع في الاقتصاد الوطني، والمحافظة على التوازن بين المشاريع الصناعية والزراعية.
ومن أجل تحقيق هذه التنمية على أرض الواقع، يؤكد العديد من المفكرين وعلماء التربية والاقتصاد في عالم اليوم أن التخطيط التربوي القائم على تنمية الثروة البشرية وحده يستطيع تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية الشاملة. فالتنمية البشرية لا تنحصر في إطار اقتصادي صرف، ولكنها تتجاوزه إلى إطار واسع للنمو، تأتي في تراتبيته، الناحية البشرية قبل الاقتصادية، لذا تأتي عناية الدول المتقدمة حضاريا واقتصاديا واجتماعيا بالثروة البشرية، وتسخير هذه الثروة للازدهار والتقدم ورقي المجتمع، في مقدمة أهدافها التربوية والتنموية.
يعني ذلك، أن العلاقة جدلية بين التربية والتنمية. فكل واحدة منهما تؤثر وتتأثر بالأخرى، إلى درجة يصعب الفصل بينهما. فالتربية تؤثر على التنمية من خلال المشروع الذي يتم تحديد غاياته وأغراضه بكل دقة وموضوعية، ورصد الموارد والإمكانات لتحقيقه وتقويم مراحل إنجازه، مما يسمح في نهاية المطاف بتحقيق أهدافه المخططة والمرسومة. وفي المقابل، تستفيد التربية من التنمية، بحيث يساهم النمو الاقتصادي في توفير الحاجيات الأساسية للمجتمع وتحقيق فائض الأموال الضرورية لتطوير العمل التربوي وجعله يحقق أفضل مردودية تنموية.
- 5 –
من بين السمات البارزة للألفية الثالثة: العولمة الاقتصادية، شمولية التبادل الحر، الصراع التنافسي بين الدول، التطور التكنولوجي المتواصل، التواصل الإعلامي، السياسي، الثقافي المطرد، التنمية البشرية. وهي تحديات تواجه قبل كل شيء الأنظمة التربوية التي أصبح عليها تكوين المواطنين بناء على مناهج المعرفة، وعلى روح الحداثة، وعلى استيعاب التطورات العلمية والتكنولوجية وتسخيرها لفائدة المجتمع والدولة، ذلك لأن الأنظمة التربوية في عصر العولمة أخذت تتجه بالأساس إلى حصر حاجيات المواطنين، من المعارف والتقنيات التي يمكن الانطلاق منها، لتحقيق تراكمهم المعرفي الكفيل بتشكيل ثقافة في مستوى هذا العصر واشتراطاته.
إن الحضارة الإنسانية أصبحت بفضل ثورة المعلومات والاتصالات تعيش على إيقاع ثورة معرفية جديدة، قلبت رأسا على عقب كل ما عرفه الإنسان ومارسه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال القرون الماضية. فمفاهيم الدولة الوطنية والسلطة والأسرة بدأت تتلاشى أمام الكم الهائل من المعلومات التي أصبح من الصعب ضبطها خارج شروطها العلمية والتكنولوجية والاتصالاتية... وهو ما يعني بالنسبة لعلماء التربية استحالة صياغة أية سياسية تنموية خارج هذه الشروط.
يعني ذلك بوضوح أن اكتساح العولمة، كالتخطيط للتنمية البشرية، يبدأ من المسألة التعليمية ومن تأهيل المدرسة لدورها المركزي في مواجهة واقع التخلف، والقيام بمهام التحديث والتغيير على مختلف المستويات المؤسسية، وفي تنشئة أجيال منتجة ومبدعة وحاملة لأصالتها الحضارية في مختلف أبعادها، باعتبار أن جوهر التربية والتعليم في ظل التحولات العالمية الراهنة هو تكوين النشء وإعداده ليصبح قادرا على مواجهة تحديات العولمة والتفاعل مع متطلبات التنمية وشروطها.
تشترط التنمية البشرية في عصر العولمة على البلدان المختلفة والفقيرة، من أجل إخراجها من حالتها المتردية، ثلاثة شروط أساسية:
وضع نظام تعليمي حديث يقضي على الأمية والجهل، ويعد الناشئة للحياة والعمل والإنتاج.
الأخذ بآخر التطورات العلمية والتكنولوجية وتطبيقاتها في الزراعة والصناعة والتجارة.
وضع نظام حكم ديمقراطي يتيح مشاركة كل الشرائح الشعبية في صياغة القرارات، وفي إطلاق قدراتها المبدعة في خدمة الشعب.
إلا أن هذه الشروط، بالنسبة لبلد عالم ثالثي، متخلف اقتصاديا، في عالم يعرف تحولات حضارية عميقة، لا تعني مطلقا أن يفقد هذا البلد هويته الثقافية أو شخصيته ومكانته بين الأمم.
إن الخضوع لشروط التنمية البشرية في عصر العولمة في مجال التربية والتعليم يبدأ من استثمار الجهد في التربية، وإقامة تعليم موجه نحو المشاركة والتسلح برؤية مستقبلية، تقوم على قاعدة أن يكون الاستهلاك في مستوى الإنتاج، وأن يكون انفتاح الأجيال الصاعدة على العمل وعلى الإنتاج الذي ينفعها غدا، ذلك لأن فاعلية التعليم في عصر العولمة تعني قبل كل شيء تأهيل العنصر البشري لامتلاك ناصية العلم، والتحكم في الآليات التكنولوجية، وتأهيله للخلق والإبداع في مختلف المجالات، وتسخيرها للمصالح الوطنية، انطلاقا من محافظته على قيمه الروحية والدينية والثقافية... وتشبته بقيمه الحضارية.
- 6 –
إن أزمة التعليم في المغرب لم تعد شأنا داخليا، بعد تدخل البنك الدولي الذي أثار انتباه المغاربة مؤخرا إلى وضعيته المتردية، التي فشلت في اختيار الطريق الأصلح للخروج من حالة التخلف الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه المغرب منذ عدة عقود، رغما على "المجهودات المادية " المبذولة من أجل ارتقائه وتحسين أدائه.
التقارير الداخلية والخارجية، التي أنجزت عن التعليم المغربي خلال العقود الأخيرة، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن العراقيل والمشاكل التي تعيق هذا القطاع تتمثل أساسا في التوسع المستمر لآفة الأمية، من الأمية الأبجدية إلى الأمية التكنولوجية والسياسية والثقافية/ ضعف نسبة التمدرس خاصة في العالم القروي، وبالأخص بالنسبة للفتيات/ ضعف جودة التعليم في كافة أسلاكه، انطلاقا من سلك التعليم الأساسي؛ وهو ما يعني الفشل الكلي في تحقيق مبدأ التعميم. والفشل الشامل في ربط مناهج التعليم بالتنمية، رغما على المجهودات المادية الهائلة التي تمت في هذا المجال، والأموال الطائلة التي تم صرفها عليه. وهي مجهودات تصنف المغرب من بين الدول العالمتالثية التي تخصص نسبة عالية من مواردها لقطاع التعليم.
ومن الجدير ذكره في هذا الصدد أن كلفة التكوين الفردية السنوية للتلميذ المغربي الواحد في السلك الأول من التعليم الأساسي تبلغ حتى الآن حوالي 2300 درهم، وفي السلك الثاني من هذا التعليم تبلغ 4400 درهم، ومع ذلك تبقى هذه الأرقام متواضعة مع تكلفته في دول أخرى بأوروبا (أي حوالي 14 مرة أقل مقارنة مع فرنسا مثلا).
إن ميزانية التربية والتعليم مثلت، خلال العقود الثلاثة الماضية، معدلا سنويا يفوق 23 % من الميزانية العامة للدولة؛ وهو ما يمثل 6 % من الناتج الداخلي الخام، وذلك دون الموارد التي تصرفها الأسر مباشرة لاقتناء لوازم التمدرس، من كتب ودفاتر وأدوات، ودون أداء تكاليف الرسوم والدروس الإضافية. ومع ذلك لم تستطيع هذه الميزانية الضخمة تحقيق ما تحتاج إليه البلاد من تكوين وقضاء على الأمية، ورفع مستوى التعليم لمواجهة التحديات القائمة في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، كما لم تستطيع متابعة مجموع البرامج المقررة في مجال التعميم وتحسين التأطير، ورفع المردودية الداخلية للنظام التربوي.
- 7 –
السؤال الذي تطرحه هذه الحالة الإشكالية على مغرب اليوم: أين يكمن الخلل؟ هل في نظرتنا إلى التعليم أم في إدارتنا لقطاعه؟
في الإجابة عن هذا السؤال علينا أن نتوقف عند سلك التعليم الأساسي (كنموذج) باعتباره المدخل الرئيسي لإشكالية التعليم في كل أسلاكه الأخرى، وباعتباره أيضا الأرضية الصلبة التي تقوم عليها الشخصية التعليمية بكل إيجابياتها وسلبياتها...
التعليم الأساسي، في التعريفات الأكاديمية الدولية (اليونسيف/ اليونسكو/ الاسيسكو)، هو الذي يزود المواطن بالمعارف والمهارات العلمية الأساسية، لمزاولة بعض الحرف البسيطة، أو لزيادة دخل الأسرة في المجتمعات الريفية والحضرية ... وهو الذي يكفل للمواطن التمدرس عن طريق التفكير السليم، ويؤمن له حدا من المعارف والمهارات والخبرات التي تسمح له بالإعداد للحياة وممارسة دوره كمواطن منتج... وهو التعليم المناسب لجميع المواطنين، الذي يوفر لهم الحد الأدنى من الفرص التعليمية.
وفي الوثائق المغربية الرسمية، التعليم الأساسي هو مرحلة تعليمية تربوية إجبارية، مدتها تسع سنوات، تثبت في المتعلم القيم الإسلامية، وتكسبه القدر الضروري من المعارف والمهارات الإيجابية؛ وهو ما يجعله قادرا على تحقيق الترقي الذاتي، ويؤهله إلى الاندماج في مجتمعه، والمساهمة في تطويره، ومسايرة ركب التطور الإنساني والإسهام فيه.
انطلاقا من هذه التعريفات "الأكاديمية" تبرز أمامنا العديد من الأسئلة الأخرى، أهمها: ما هي أسباب تراجع تعليمنا الأساسي عن هذه القيم والمواصفات؟
تقول الشهادات المتوفرة عن هذا السلك من التعليم:
إنه بقي حتى اليوم، يعاني من القطيعة التامة بينه وبين التعليم الأولى (ما قبل المدرسي)، رغم ما لهذا الأخير من أهمية في تحديد وتشكيل معالم شخصية الطفل، وتفتيق مواهبه وقدراته؛ الأمر الذي يحتم الابتعاد عن تلقين المضامين وخزن المعارف، ويفترض اعتماد المقاربات التواصلية التي تنمي فيه سلوكات ومواقف تؤهله إلى التفاعل الإيجابي، مع المحيط الاجتماعي والثقافي.
إنه لم يستند إلى اختيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية واضحة ومحددة، يسهم فيها الجميع توجيها وتأطيرا؛ وإنما جاء نتيجة ظروف وأزمات متعددة، انعكست عليه، وهو ما جعل الوزارة الوصية ترفع باستمرار شعار الترميم، عوض الإصلاح والتجديد وإعادة الهيكلة والبناء، بغية الانسجام مع الإكراهات المتتالية التي تواجهها من كل جانب.
إنه رغم لجان الإصلاح المتعددة، بقي بعيدا عن الإستراتيجية المتبصرة، التي من شأنها تكييف مناهج التعليم الأساسي مع البيئة المحلية، وأساسا مع العالم القروي، الذي ما زال تعليمه بعيدا في مستواه وحجمه عن التعليم في الحواضر، خاصة ما يتعلق بتعليم الفتيات.
إنه فشل في الانفتاح على محيطه الخارجي، إذ لم يتمكن من جعل المدرسة الابتدائية ( الأساسية ) فضاء للتنشيط الاجتماعي والثقافي والفني، وإن يجعلها قطب انجذاب أساسي، في المحيط الذي توجد فيه ومن أجله.
إنه رغم ما يتطلبه من مصاريف ضخمة، وما يشكله كعبء ثقيل على كاهل ميزانية الدولة، فإن مردوديته ضلت ضعيفة شكلا ومضمونا، إذ يستفاد من التقارير الرسمية أن ثلاثة عشرة في المائة ( 13 % ) فقط ممن يلجون التعليم الأساسي هم الذين يحصلون على شهادة البكالوريا، بينما لا تشكل نسبة الحاصلين على شهادات عليا سوى خمسة في المائة (5%)، وذلك دون ظاهرة مغادرة الدراسة في سن مبكرة لعدد كبير من التلاميذ، في العالمين القروي والحضري؛ وهي ظاهرة يستعصي تبريرها بحكم تداخل عوامل عدة، أبرزها أن التعليم أصبح في نظر العديد من الآباء والأمهات وأولياء التلاميذ لا يجدي نفعا بحكم طبيعة التباعد القائمة بينه وبين سوق الشغل، وبسبب صورة المعاناة اليومية للخرجين وحملة الشواهد الذين لم يعد بوسع لا القطاع العام، ولا القطاع الخاص استيعابهم وتشغيلهم.
أما بالنسبة للهدر المدرسي فهي في ارتفاع مستمر وخاصة في الأوساط الفقيرة : من بين 100 طفل عمرهم 7 سنوات يدخل المدرسة 85 ويلتحق بالإعدادي 45، ويصل نهاية السلك الإعدادي 32، ويدخل الثانوي 22 ويحصل على الباكالوريا 10، بالإضافة إلى ذلك تتعمق الفوارق بين الوسط القروي والحضري وبين الذكور والإناث: إذ من بين 100 طفل قروي عمرهم 7 سنوات يدخل المدرسة 66. ومن بين 100 فتاة عمرهن 7 سنوات تدخل المدرسة 59.
إن تشخيص وضعية التعليم الأساسي، في مطلع الألفية الثالثة بالمغرب، من خلال هذه الأرقام، تكشف بالملموس مدى حجم التخلف الذي ما زال يعاني منه نظامنا التعليمي. تقول هذه الأرقام بوضوح: إن نسب التمدرس الخام بالمغرب مقارنة مع الدول السائرة في طريق النمو سجلت تأخرا بمعدل 20 % بالنسبة للتعليم الابتدائي و10 % بالنسبة للإعدادي والثانوي.
- 8 –
إن ما يلفت النظر في وضع التعليم الأساسي بالمغرب، اليوم، أنه بعيدا عن الأرقام والإحصائيات بقي باستمرار، وعلى مدى أربعة أو خمسة عقود، محل نقاش وتجاذب بين النخب السياسية والثقافية في البلاد دون أية نتيجة تذكر، إذ تبلورت مناهجه وبرامجه في البداية داخل اللجنة الملكية لإصلاح التعليم التي أسسها جلالة محمد الخامس تغمده الله برحمته سنة 1957، وهي اللجنة التي وافقت على اختياراته الأساسية: التعميم / التوحيد/ التعريب/ المغربة. وهي نفسها الاختيارات التي عكست الطابع التوافقي على عهد الاستقلال، ثم أعيد النظر في هذه الاختيارات والمناهج، داخل لجنة التربية والثقافة لسنة 1960، وهي اللجنة المتفرعة عن اللجنة الوطنية لإعداد المخطط الخماسي الأول ( 1960- 1964 ) التي دافعت عن مشروع المدرسة الوطنية الموحدة. وأخيرا، شكل هذا السلك من التعليم، بعد تنبيهات البنك الدولي، هاجسا للميثاق الوطني للتعليم، الذي رأى النور في مطلع الألفية الثالثة، على عهد جلالة محمد السادس. وهو الميثاق الذي خرج إلى الوجود بعد جهد جهيد، والذي كان الآمل منه، أن يدفع تجاه إصلاح المدرسة المغربية، وإعادة الاعتبار إلى المدرسة الوطنية... ولكن على ما يبدو أن إصلاح هذا التعليم ما زال في حاجة إلى مجهودات أكبر... ولربما إلى سنوات أخرى من العمل والاجتهاد.
يعني ذلك أن الإصلاح، الذي كان المغرب وما زال يسعى إليه منذ سنة 1957 وحتى اليوم، هو أن لا تبقى مهام المدرسة المغربية قائمة على حشو أذهان وعقول الناشئة المغربية بمعلومات تجريدية / لا قيمة لها، ولا فائدة منها. وأن تتحول إلى مدرسة جديدة عصرية، في مستوى طموحات وتحديات عصرها، قادرة على إعداد المواطن الصالح، المؤمن، المؤهل، الكفء، الملتزم بخدمة وطنه، الواعي بواجبات المواطنة وحقوقها، المتشبث بقيمه الدينية والوطنية، المنفتح على ذاته وعلى الذات الكونية.
الإصلاح المنشود يسعى إلى جعل التعليم ركيزة أساسية في نسق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهو يمثل في كل الحالات استثمارا بشريا ضروريا للانخراط في ركب الثورة العلمية والتكنولوجية، التي باتت تشترط التحاق الشعوب والدول بمسار النهضة الحضارية في عالم القرن الحادي والعشرين.
لذلك، يرى كافة المربين المختصين أن الإصلاح عليه أن يتجه لجعل قطاع التربية والتعليم قطاعا إستراتيجيا في نسق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ وهو ما يشترط إلى حد بعيد إمكانية انخراط المغرب في حركة الثورة العلمية والتقنية والتكنولوجية، هذا الانخراط الذي يشترط بدوره مواكبة مسيرة التطور والتقدم والازدهار خلال العقود المقبلة.
من هذا المنطلق، أصبح رجال التربية والتعليم والخبراء والسياسيون المصلحون يلحون على الإصلاح المنتج للتعليم الأساسي، وجعله تعليما منفتحا على محيط المتعلمين، متعاملا مع واقعهم بشكل جدلي، مؤثرا في واقعهم ومتأثرا بهذا الواقع؛ وهو ما يعني توفير فرص الاندماج بسهولة في النسيج الاقتصادي للبلاد، ليصبح المتعلم عضوا فعالا في التنمية الشاملة للبلاد... وهو ما يشترط كمرحلة أولى وأساسية عدة شروط، منها:
إدخال التكنولوجيا الحديثة إلى مؤسسات التعليم الأساسي؛ وذلك بإحداث قاعة متخصصة على الأقل في كل مؤسسة، وربط المؤسسات بشبكة الأنترنيت وإحداث شبكة للاتصال بين المؤسسات؛
تعميم المكتبات على المؤسسات المدرسية وإغنائها بالمراجع الحديثة وتفعيل دورها داخل المنظومة التربوية؛
وضع برامج التكوين المستمر الذي يعتبر من أهم الرافعات التي تعتمد عليها التربية من أجل تحسين أداء المدرسين وأطر الإدارة التربوية والأطر المسؤولة بكل من الإدارة المركزية والإدارة الخارجية؛
وضع إصلاح المناهج على ضوء توجيهات اللجنة الخاصة بإصلاح التربية والتكوين، وعلى ضوء تقويم المناهج الحالية، ووضع آليات العمل الخاصة بهذا المجال؛
وضع تقويم وتأطير المؤسسات التعليمية الذي يرمي من جهة إلى وضع سياسة ناجعة لتقويم التلاميذ والمؤسسات ومن جهة أخرى إلى تفعيل آليات التأطير التربوي والإداري للمؤسسات التعليمية؛
وضع برامج الدعم لفائدة التلاميذ المنتمين إلى الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود، ولتلاميذ الوسط القروي. ويتمثل هذا الدعم في توزيع الأدوات والكتب المدرسية وتوزيع المواد والوجبات الغذائية ومنح الداخليات؛
صياغة أهداف واضحة ومحددة ودقيقة لكل سلك من أسلاك التعليم، انطلاقا من ما قبل المدرسي وحتى الجامعي؛
التخفيف من المقررات وإعادة صياغتها وفق طموحات المدرسة الوطنية؛
العمل بمبدأ التناوب لخلق جسور بين التعليم الأساسي، والتعليم الثانوي، ومراكز التكوين.
تمكين المتعلم بالتعليم الأساسي، من اللغات الحية، العربية، الفرنسية، الإنجليزية، ومن القراءة/ الحساب/ طرائق التفكير/ وسائل العمل؛
إعادة النظر في مواد التربية الوطنية، وتعميمها على سائر التخصصات وسائر المستويات؛
العمل بمبدأ التوجيه المعقلن.
بذلك نخلص إلى أن نظام التعليم الأساسي المغربي، في المرحلة الراهنة، مقرون بإصلاحات جذرية، تتجاوز الإصلاحات الهيكلية إلى إصلاح مناهج الكتاب المدرسي والإدارة المدرسية وقضايا التعميم والمجانية، إلى تحسين الكفاية الداخلية والخارجية للنظام التعليمي، وإلى الربط ما بين التربية والتعليم، واعتبارهما جزءا لا يتجزأ من إستراتيجية التنمية الشاملة، التي تنبني على أسس نابعة من التحديات العلمية التي تواجه المغرب في محيطه العالمي، وعلى واقع المجتمع المغربي وطبيعة طموحاته الحضارية والثقافية، التي تسعى إلى تركيز موقعه على خارطة العالم الحديث بتجاذباته العلمية والحضارية.
وإن طرح مسألة التعليم الأساسي ( كنموذج ) على هذا المستوى يرتبط في اعتقادنا بطرح أكبر وأشمل، يتعلق بمسألة التخلف والتقدم، في عصر تحولت فيه الثقافة والمعرفة إلى صناعة واستثمار، وإلى إصلاح استراتيجي لأحكام السيطرة على التحديات القائمة.
لذلك، نرى أن قضية إصلاح التعليم في مغرب اليوم، يجب أن تبدأ من تفكيك الأزمات المترابطة حول أسلاكه، انطلاقا من سلكي التعليم الأولى ( ما قبل المدرسي) والتعليم الأساسي، وإعادة تركيبها وفق شروطها العلمية أولا... ووفق طموحات المغرب الحضارية/ الاجتماعية/ الثقافية/الاقتصادية، ثانيا وأخيرا... وتلك مسألة تتعلق بالإرادة السياسية قبل كل شيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.