بوانو: من العار الإبقاء على القاسم الانتخابي والمقاربة العقابية في القوانين الانتخابية غير مقبولة    ولد الرشيد: الأوراش المهيكلة التي تعرفها مدن الصحراء المغربية تفتح آفاقا واسعة للتنمية المستدامة    افتتاح المنتدى الإفريقي لبرلمان الطفل    معدلات التضخم في بلادنا مستمرة في منحاها التنازلي وفق المندوبية السامية للتخطيط    النفط يواصل التراجع وسط ضغط أمريكي لإبرام اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا    بعد الهدنة في لبنان.. حصيلة دموية ثقيلة إثر استهدافات الإسرائيلية    أطباء مغاربة يهبون للتطوع في قطاع غزة.. وتنسيقية تتوصل بأزيد من 130 طلبا    من 28 نقطة… النص الحرفي لخطة ترامب لوقف الحرب في أوكرانيا    حكيمي وبن صغير في القوائم النهائية لجوائز "غلوب سوكر"    "النهج الديمقراطي" يحمّل الدولة مسؤولية وفاة "رضيع الترامواي" ويطالب بمحاسبة المسؤولين    لوحة بورتريه لفريدا كاهلو تصبح أغلى عمل فني من إنجاز امرأة    اختتام مهرجان سينما الذاكرة المشتركة بالناظور وتتويج أبرز الأعمال    التجمع الوطني للأحرار يصادق على تصوره لمقترح الحكم الذاتي استعداداً لرفعه إلى الملك    القوة الجوية المغربية تقتني 10 مروحيات "إتش 225 إم" من إيرباص    "الأول يكشف تفاصيل استنطاق "بوز فلو".. الرابور أمام القضاء بسبب اتهامات مرتبطة بمضامين أغانيه    المجلس الأعلى للسلطة القضائية ينظم دورات تكوينية للقاضيات الراغبات في تولي مناصب المسؤولية    أمل موكادور لكرة القدم الشاطئية بطلا للمغرب لسنة 2025    مونديال أقل من 17 سنة.. في مواجهة حاسمة المنتخب المغربي يلاقي البرازيل اليوم الجمعة وعينه على حجز مقعد في نصف النهائي    قرعة الملحق الأوروبي لمونديال 2026.. مواجهات نارية في طريق آخر أربعة مقاعد    "الشباب": حمد الله غير مقيد قانونيا    توقع فتح بحث قضائي بعد نشر المهداوي فيديو مسرب من مداولات لجنة التأديب بالمجلس الوطني للصحافة    الاتحاد العام للفلاحين يتدارس ملف إعادة تشكيل القطيع الوطني    بورصة البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    تتويج سفير المغرب لدى الأرجنتين ضمن "قادة التحول في أمريكا اللاتينية"    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم يتعلق بتطبيق الضريبة على القيمة المضافة    المغرب يرتقي إلى المرتبة السادسة عالميا في مؤشر الأداء المناخي 2026    المغرب يرأس المجلس الدولي للزيتون لعام 2026    المغربي إدريس علواني يحصد الميدالية البرونزية في بطولة إفريقيا للدراجات    مدرب مارسيليا: أكرد لاعب لا يعوض.. وعلينا التأقلم مع غيابه    30 دولة تعارض مسودة اتفاق "كوب30"    مهرجان الدوحة السينمائي 2025 يفتتح فعالياته معززاً مكانة قطر في المشهد السينمائي العالمي    بوعياش: تبادل إطلاق النار بحي بوسلامة ينتهي بتوقيف أحد المشتبه فيهم    مراكش: استئناف هدم مساكن العسكريين وقدماء المحاربين... وتعويضات تشمل بقعاً أرضية ومساعدات للبناء    اعتداء خطير بمستعجلات مستشفى بني ملال يخرج النقابة الوطنية للصحة للاحتجاج والتصعيد    كيوسك الجمعة | المنظومة المؤطرة للانتخابات تهدف إلى تخليق العملية الانتخابية والسياسية    خطف 52 تلميذا من مدرسة بنيجيريا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    سيراليون تجدد دعمها للوحدة الترابية للمغرب وتعبر عن ارتياح بالغ باعتماد القرار التاريخي 2797    وسام حمادة والدة "هند رجب" في افتتاح الدوحة السينمائي:    أجهزة قياس السكري المستمر بين الحياة والألم    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    زلزال بقوة 5,5 درجات يضرب بنغلادش    المكسيكية فاطمة بوش تتوَّج ملكة جمال الكون بعد جدل واسع    اليوم.. فتيان الأطلس يواجهون البرازيل بأمل المرور إلى نصف نهائي المونديال    مهرجان الذاكرة المشتركة بالناظور يتوج أفلاما من المغرب وبولندا وأوروبا الغربية    توقيف "مولينكس" ونقله إلى طنجة للتحقيق في ملف مرتبط بمحتوى رقمي مثير للجدل    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    ( الحب المر)... فيلم يكشف الوجه الخفي للنرجسية داخل الأسرة المغربية    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    الفنان المغربي إِلياه والنجم المصري محمد رمضان يجتمعان في أغنية جديدة    في الحاجة إلى فلسفة "لا"    معمار النص... نص المعمار    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في يوم المرأة العالمي .. دموع وابتسامات ومكاسب وإخفاقات
نشر في هسبريس يوم 08 - 03 - 2019

يتصادف الثامن من شهر مارس مع "عيد المرأة"، أو "يومها العالمي"، وكان الاسم الأوّل الذي اختير لتخليد هذه الذكرى هو "اليوم العالمي للمرأة العاملة"، قبل أن يُعتمَد في أروقة الأمم المتحدة بصفة رسمية في 8 مارس من عام 1975، حيث دعت الدّول الأعضاء فيها إلى الاحتفال بهذا اليوم. ومن ثمّ، أصبحت نساء العالم تحتفل كلّ عام إحياءً لمبادرة الأمم المتحدة كخطوة جبّارة لإقرار مساواة تامّة، ومُنصفة بين الجنسيْن، ورفع الوعي السّياسيّ، والاجتماعيّ في شؤون، وقضايا المرأة، وحقوقها، ومكتسباتها، وإخفاقاتها، وانكساراتها، وتسليط الأضواء الكاشفة على المشاكل، والمشاغل، والصّعاب التي ما زالت تعاني منها المرأة إلى يومنا هذا في مختلف أنحاء المعمور.
وما زالت المجموعات النسائية في مختلف أرجاء العالم تُحيي وتحتفي بالفعل بهذا اليوم، ويشاركها الرّجال في هذا الاحتفال بتنظيم مختلف التظاهرات والملتقيات والأنشطة، في مختلف المجالات الاجتماعيّة، والسياسية والثقافية والفنية والعلمية والتاريخية وسواها. وتشارك الأمم المتحدة المرأة كذلك في الاحتفال بهذا اليوم، والتي جعلت بلداناً عديدة تقرّره يومَ عيدٍ وطني، حيث تسارع النساء في جميع القارات للاحتفال بيومهنّ العالمي على الرّغم من الحدود الوطنية والفروق العِرقية واللغوية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تفصل بينهنّ، حيث يعملن على استعراض تاريخ النضال المرير الذي خاضته المرأة بدون هوادة من أجل تحقيق المساواة والعدل والسلام والتنمية على امتداد عقود عديدة خلت.
مغزى هذا اليوم
يوم المرأة العالمي هو في الواقع تتويج لقضيّة المرأة المناضلة صانعة التاريخ، وتعود هذه القضية في أصلها إلى نضال المرأة على امتداد القرون من أجل المشاركة في المجتمع على قدم المساواة مع الرّجل. ويخبرنا التاريخ بأنه في اليونان القديمة قادت "ليستراتا " إضراباً موسّعاً عن الجنس ضدّ الرّجال، من أجل وضع حدٍّ للصّراعات والمواجهات وإنهاء الحروب؛ ومن النساء الشّهيرات في تراثنا اللّائي تجاوزن الرّجالَ حكمةً وفطنةً، وذكاءً ودهاءً، نذكر منهنّ على سبيل المثال وليس الحصر: شهرزاد (منقذة بنات جنسها)، وزرقاء اليمامة، وكليوباترة، والخنساء، وأنديرا غاندي، وصاحبة ابن زيدون ولاّدة بنت المستكفي، وشجر الدرّ، وزنوبيا، والستّ الحرّة حاكمة تطوان، وفاطمة الفِهرية مؤسِّسة أقدم جامعة في العالم وهي "جامعة القروييّن" بفاس وسواها (المغرب) وهنّ كثير.
وكما هو معروف، هناك العديد من النساء في الغرب اللاّئي أدركنَ مراتبَ عليا من الشّهرة والذيوع في مختلف المجالات. وفي خضمّ الثورة الفرنسية، نظمت النساء الباريسيّات تجمعات كبرى للدّعوة إلى تحقيق المزيد من "الحرية والمساواة، والأخوّة"، حيث نظّمنَ مسيرات إلى قصر فرساي للمطالبة بحقّ المرأة في الاقتراع. وظهرت فكرة يوم المرأة العالمي لأوّل مرّة في أواخر القرن التاسع عشر ومستهلّ القرن العشرين، حيث واكب نضال المرأة خلال هاتين الحقبتين تطوّر صناعي موسّع واضطرابات وقلاقل، حيث عرف المجتمع نموّاً ديمغرافياً كبيراً، وظهرت إيديولوجيات راديكالية جديدة.
وعلى إثر الإضرابات والاحتجاجات النسائية التي حدثت في الثامن من مارس من عام 1908 حيث تظاهرت الآلاف من العاملات اللائي كنّ يشتغلن في مصانع النسيج في مدينة نيويورك، بسبب الظروف الصّعبة غير الإنسانيّة التي كنّ يعملن فيها، وللمطالبة بمنح النساء حقّ الاقتراع، وخفض ساعات العمل الطويلة، ووقف تشغيل الأطفال، وقد أطلقن على حملتهن الاحتجاجية اسم "خبز وورود" حيثُ حملن قطعاً من الخبز اليابس وباقات من الورود خلال هذه التظاهرات. كما كانت للحركات العمالية البروليتارية في بداية القرن العشرين تأثيراتها في بداية التفكير في الاحتفال بهذا اليوم للتعريف بإنجازات المرأة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وسواها؛ إلاّ أنّ بعض الباحثين يرجّح أنّ الاحتفال بهذه المناسبة جاء غداة المؤتمر الأوّل للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي المُنعقد في باريس عام 1945.
بزوغ نور التحرّر
الباحث الرّوماني أوجِينْ وِيبَرْ، المعروف بدراساته عن التاريخ الفرنسي على وجه الخصوص، كَتَبَ يقول إنّ شارل بيغوي يَرَى أنّ العالمَ قد تغيّر في الحقبة الزّمانية المحصورة بين القرنين المنصرمين أكثر من الفترة الزمانية الممتدّة من ولادة السيّد المسيح حتى عصرنا الحاضر. هذا الحُكم قد يبدو مُبَالَغاً فيه، إلاّ أنّ أوجين ويبر يبرّر ذلك بكلّ بساطة عندما يذكر لنا أنّه في الحقبتيْن الموالييْن لنهاية القرن، كان صاحبُ هذا القول شاهداً على كثير من التغيّرات التي طرأت على مختلف وسائل الحياة، والأنشطة، والتقنيات التي كانت تميّز أو تطبع بشكل واضح مظاهر الحياة اليوميّة في ذلك الأوان، ففي ذلك العصر ظهرت السّينما والسيّارة والعديد من المُخترعات الأخرى، وأمكن استغلال وقت الفراغ بشكل جيّد، الحركة، الأخبار، الرّياضة، الأنشطة المُبتكرة، وسواها من مظاهر الحياة اليومية الأخرى، كلّ ذلك كانت له جذور وتأثيرات مباشرة وفعّالة على التغيير الجِذري الذي عرفه عالمُنا المعاصر كذلك اليوم في هذه المجالات برمّتها، وفي سواها من مظاهر ومرافق الحياة.
حاول أوجين ويبر التعريف بما أسماه: "روح العصر" والإرادة الوطنية في تجديد الإيمان في العِرْق، أو الجِنس، أو العُنصر الفرنسي إزاء الخطر الألماني الدّاهم (رجالاً ونساء)؛ بل إنّ هناك علامات أخرى متعدّدة لبداية تخطّى أو تجاوز كلّ ما لم يكن ممكناً تجاوزه من قبل. ومن هنا، طفقت تبرز بإلحاح مطالب تحرير المرأة، وإشراكها بشكلٍ فعّال في النهضة الجديدة التي بدأت تعرفها المجتمعات العصرية في مختلف المجالات.
تعرّض أوجين ويبر للتغيير الهائل الذي عرفته المرأة في خضمّ هذه التطوّرات التي بدأت تطرأ على المجتمع الجديد، حيث كانت القوانين الغربية في ذلك الوقت تعتبر المرأة مخلوقاً ناقصاً، وفي هذه الفترة مثلاً تمّت الموافقة لأوّل مرّة بأن تكون المرأة صالحةً لأداء الشّهادة في المحاكم، وبدأت تظهر بالتالي إرهاصات لبداية تحرّرها وانفتاحها على المجتمع، وفكّ بعض القيود عنها فيه. ولا بدّ أنّ القارئ يعرفُ جيّداً أنّ مجتمعاتٍ أخرى تُنْعَتُ بالمتأخّرة لم تضع المرأةَ في هذا الموضع من السّخرية والازدراء !.
ويُخبرنا الكاتب بأنه في هذه الحقبة أيضاً أمكن للمرأة لأوّل مرّة أن تفتح حساباً مصرفيّاً خاصّاً بها، وأن تحصل على رسائل جامعية عليا مثل الدكتوراه. وفي (1900) فقط، سُمِح للمرأة لأوّل مرّة كذلك في فرنسا الالتحاق بكلية الحقوق كباقى زملائها الرجال، ويقول الكاتب إنه مع التغيير الذي طرأ على وضعية المرأة، ومع الاعتبار الجديد الذي أصبح يُمْنَح لها وَقعَ أو طرأ تغيير كبير على "الموضة" (أي طرائق، وأساليب، وتقاليع، ومبتكرات، وتفنّن لبس المرأة، وزينتها، وتطريتها). من ثم، أصبح رداء المرأة بسيطاً يخلو من التعقيدات الهجينة، والأنسجة الفضفاضة المبالغ فيها، والبَهْرَجة المتوارثة التي كان يفرضها عليها العصر، وتقيّدها بها التقاليد.
وعلى الرّغم من التقدّم الهائل الذي أحرزته المرأة في مختلف المجالات في عصرنا الحاضر، فإنها ما زالت - مع ذلك- في نظر البعض تلك "الإلزَا ترِيُولِيه" مُلهِمة الكاتب الفرنسي المعروف "لويس أراغون"، ذات العيون السّاحرة التي يتوق إليها كلّ أديب أو فنّان ليستلهمَ من سحرها وحدّة ذكائها وروع دهائها ورقّة دلالها وطلاوة عذوبتها موضوعاتٍ آسرةً لفنِّه وأدبِه وإبداعاتِه.
ومثلما كانت المرأة - في عُرْفهم - مَصدرَ إلهام ووحيٍ وإبداع لدى الكثيرين، فقد شطّ الخيالُ لدى بعض المفكرين الآخرين بالمقابل في وصفها وصفاً مُجْحِفاً، - حتى وإن كان في مستوى فريدريك نيتشه - حيث قال عنها ذاتَ مرّةٍ مُستهتراً، هازئاً، مُزدرياً، ظالماً، متجنّياً، متعالياً، ومُبَالِغاً: "إنّها راحةُ الجندي بعد المعركة".
المرأة بين أمير الشّعراء وشاعر النّيل
ما زالت المرأة- في عُرف آخرين - ذلك المخلوق القويّ، الضعيف الذي هو في حاجة دائماً إلى كلمات الإطراء، والإعجاب، والإبهار، وأيضا إلى التصفيق.. والتصفيق الحادّ غير المُنقطع، وقد عِيبَ على أمير الشعراء أحمد شوقي كونه وضع المرأةَ هو الآخر في تلك الخانة الضّيقة التي تظلّ فيها ومعها توّاقةً إلى الثناء، شغوفةً بالانبهار، إذ قال فيها أو عنها:
خدعوها بقولهم حَسناءُ / والغواني يَغرّهنّ الثناءُ..
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ / فكلامٌ فمَوْعِدٌ فلقاءُ.. !
ولم يتوانَ شاعر النّيل حافظ إبراهيم هو الآخر ليقدّم بدوره نصحَه، بالمقابل، ووِجهةَ نظره في المرأة، وبشكل خاص في أمّهات، وبنات، وصبايا أرض الكنانة قائلاً :
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها / أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
لَيسَت نِساؤُكُمُ أَثاثاً يُقتَنى / في الدّورِ بَينَ مَخادِعٍ وَطِباقِ
رَبّوا البَناتِ عَلى الفَضيلَةِ إِنَّها / في المَوقِفَينِ لَهُنَّ خَيرُ وِثاقِ.
ويقول الشاعر المَنبجيّ أبو عبادة البحتري في قصيدةٍ له مشهورة عن "بِرْكَة المتوكّل " :
ما بالُ دجلةَ كالغيرَى تُنافسُها / في الحُسْن طوراً وأحياناً تُباهيها !
فما كان له أن يقول أنّ دجلة تغار، وتنافس، وتُباري "بِرْكَة المتوكّل" في الحُسن والبهاء، لولا أنّ صورة المرأة كانت حاضرةً في مخيّلته، وماثلةً نصبَ عينيْه، ذلك أنّ أبا عبادة يعرف جيّداً أنّ المرأة تغار وتخشى، وتترقّب، وتنظر، وتنتظر، وتتلهّف، وتتوق إلى كلمات الإطراء، وتنزع إلى الإغراء، وتميل إلى التحلّي بالجمال، والرقّة، والكمال، وهي في ذلك تسعى لتتفوّق وتبذّ رفيقاتها، وأخواتها، ونظيراتها من بنات جنسها جمالاً، وبهاءً، وذكاءً، ودهاءً، وجاذبيةً، وفِطنة.
المرأة بين فريدريك نيتشه وريتشارد فاغنر
وإذا عدنا إلى الفيلسوف فريدريك نيتشة لوجدنا أنه كان يقاسمُ مُعاصرَه الموسيقار الشّهير رتتشارد فاغنر حبّ الغادة الإيطالية لُوسَالُومِي ذات الحُسْن الباهر؛ فالأوّل كان يمثّل بالنسبة لها الصّرامةَ والشّهامة والجديّة (الفلسفة والعقل أو الفكر الخالص )، وكان الثاني يمثل العاطفةَ المتأجّجة، والرقّة والعذوبة، والخيال المُجنّح (الموسيقى والقلب أو العاطفة).
وبعد حيرة وقلق وتردّد بين هاذين العبقريين مالَ قلبُ الفتاة الحسناء أخيراً إلى ريشارد فاغنر فأحبّته دون نيتشه، فشَعَر هذا الأخير بغيرة شديدة، فكان من فرط غيظه يصعد إلى غرفة صغيرة منزوية توجد في سطح منزله ويحزّ أصابعَه بسكّين حادّ حتّى تُدْمىَ أناملُه. وبعد أن أخذ منه الإحباط كلّ مأخذ في الظفر بحبّ وقلب معشوقته لوسالومي، قال معلّقاً على هذا الحدث الذي أثّر في حياته تأثيراً بليغاً قولتَه الشّهيرة التي ما فتئ العشّاقُ، الذين لم يظفروا بقلب معشوقاتهم يردّدونها إلى اليوم، قال ساخراً، متهكّماً، مُزدرياً، مُنتقصاً من قيمة الموسيقار فَاغْنر: "لقد حلّق طائرٌ في سماءِ حبّي، واختطفَ الملاكَ الذي أحببت، ولكنّ عزائي الوحيد أنّ هذا الطائر لم يكن نِسْراً..!
هل حقّاً وراء كلّ عظيم امرأة ؟!
يرى كثيرون أنه ما من نجاح، أو فلاح، أو تطوّر، أو تغيّر، أو قفزة، أو طفرة إيجابية في تاريخ البشرية، وفي مسار الناس، والحياة، والبشر إلاّ وكان للمرأة دخل أو يد فيها، ولولا ذلك لما قال نابليون قولته الشهيرة في المرأة.. (وراء كلّ عظيم امرأة).. ! ولما قال هو كذلك في السّياق نفسه: (إنّ التي تهزّ المهدَ بيسارها، تحرّك العالمَ بيمينها) ! ولولا ذلك للمرّة الثالثة، لما قال باسكال عن كليوباترة: (لو كان أنفها مستقيماً لتغيّر وجه التاريخ).. ! وحمداً الله لأنّ أنفها من حسن الحظّ كان مُحْدودباً، نوعاً مّا، ولم يكن مستقيماً، ولذلك لم يتغيّر وجهُ التاريخ ..!.
وبكلّ تأكيد، ليس منّا أو فينا من يشكّ في أنّ المرأة الفاضلة هي أمّ قبل كلّ شيء، هي أمّ لكلّ الرّجال.. هي التي أرضعتْه، ورعتْه، وفطمتْه، وربّتْه، ودللته، حتى شبّ عن الطّوق..وحتى أعطته الطاقةَ، والقدرةَ، والقوّةَ على أن يرفع أصبعَه ويشير إليها قائلا: إنّك امرأة..
ولا أحد يشكّ كذلك في أنّ عظمة الرجل إنّما تأتيه عن طريق المرأة، وهي نصفُ الرجل الآخر الذي لا يستغنى عنه أبداً، وهو دائم الحنين إليها، ولا يزال يركض وراءها..
ولا أحد يشكّ - للمرّة الثالثة – في أنّ المرأة هي التّربة الطيّبة التي تنبت فلذات الأكباد الذين من أجلهم نحيا، ثم هي في الأخير كما يقول الكاتب الإيرلندي الساخر جورج برنارد شُو هي التي تجيدُ صنعَ ذلك الحَساء اللذيذ الذي تقدّمه لنا ممنونةً كلّ مساء لننسى به أتعابَ اليوم، وضنكَه، ونكدَه، وهمومَه..! الجميع يعرف هذا جيّداً، ولكن في الوقت ذاته مع ذلك هناك مَنْ ما فتئ يتطاول، ويتحامل دون رويّة على هذه المرأة وينتقصُ من قدْرها، إلاّ أنّ الحقيقةَ التي لا مراء فيها هي أنّ كل امرأة أيّاً كانت، لا شكّ في أنّها جديرة، وقمينةٌ، وحَرِيّةٌ، وأهْلٌ بكلّ تقدير واحترام، وإعجاب وإكبار.
ملكات الجمال.. سافرات ومُحجّبات..!
بعد المعارك الضارية التي خاضتها المرأة عن جدارة، واستحقاق بحثاً عن ذاتها وحقوقها المشروعة، قرّرت منذ زمن غير قريب أن تخرج بهذه المعارك الطاحنة من حيّزها الضيّق إلى مجال أوسع، في مختلف أرجاء المعمور.. عندئذٍ خلقت لنفسها أحقاداً، ومناهضين لها في كلّ مكان.
واستخفافاً بها، وانتقاصاً من ألمعيتها نصُبوا لها الكمائنَ والمكائدَ، فأوجدوا ما يسرّ الأغلبية السّاحقة، ويغضب الأقلية القليلة.. بتنظيم ما يُسمّى بمباريات ملكات جمال العالم !.
ويا للعُجب، فقد أصبحوا ينظمون حتى مسابقة ملكة جمال المُحجّبات، فقد حملت لنا الأخبار في الأيام الأخيرة أنّ المغربية نسرين الكتاني فازت بلقب ملكة جمال المُحجبات العرب 2018 في حفل أقيم في 3 مارس من العام الفارط بمصر، وتنافست 16 فتاة من مختلف البلدان العربية للحصول على لقب الدورة الرّابعة من المسابقة، وهذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها "حسناء" مغربية مُحجّبة في المسابقة، ومن الصّفات التي تعتمدها لجنة التحكيم بالإضافة إلى "الحِشمة والوَقار" (!) يُراعىَ اختيار اللباس التقليدي والعصري الذي ينسجم مع إطلالة المرأة المُحجبة..!
وأيُّ خداعٍ يكتنف هذه الكلمة، ذلك أنّه ليس من اليُسْر والسّهولة أن يُعرِّفَ الإنسانُ الجمالَ !، فقد حار في تعريفه حتى كبار الفلاسفة على مرّ العصور. ونصب هؤلاء المنظّمون على المنصّة شرذمة لتقول: إنّ الجمالَ هو طولُ القِوام، وهيَافةُ الخَصْر، وبروزُ النّهدين، وتناسقُ الأرداف، ورشاقةُ السّيقان، ولمعانُ الشّعر وانسداله وانسيابه.. !، والتعرّف على عواصم فرنسا، وبريطانيا، واليابان..! ومعايير (الحِشمة والوقار) عند المُحجّبات !، بالإضافة إلى مقاييس، أخرى لا تمتّ بصلة إلى مكانة المرأة الحقيقية ودورها الريّادي، ومهمّتها الأساسية الشّريفة التي لا محيد لنا أبداً عنها في تكوين الأسرة، والإسهام في بناء المجتمع حيث تعتبر المرأة نصفه، في تربية النشء، واستمرارية الحياة .
والفائزة منهنّ في تلك المسابقات تُتَوَّجُ بتاج من الذّهب الخالص الإبريز المرصّع بالماس والزمرّد، ويوشّح صدرُها بقلادة غالباً ما تكون مطرّزة بالماس أيضاً. وعلاوةً عمّا تقدّم يوهب لها مبلغ كبير من المال نظير جمالها.. !، ناهيك عن الشّهرة الواسعة التي تنتظر الفائزة المحظوظة من إبرام لعقود الدّعاية والماركيتنغ والإشهار، ولو كانت ذات حظ أوفر، ونصيب أكبر لاقتيدت إلى إوستوديوهات هوليود، أو بوليود، أو إلى مختلف مدن صُنْع الفنّ السابع لِتَمْثُلَ وتُمَثِّل أمام مشاهير الممثلين العالميين أمثال جورج كلوني، أو شارُوخان أو سواهما !!.
كلّ الألوان تليق بك !
ما زلنا نقرأ هنا وهناك بعض الترّهّات حول المرأة من كلّ نوع، فما بالك بالقائل - حتى وإن كان كلامُه مردوداً عليه - عندما يقول: "المرأة أصناف، ونماذج، إنها في حيرة من أمرها، فالتي ترتدي الميني متصابيّة، والتي ترتدي الماكسي مُعقّدة، والتي ترتدي الميدي مُعتدلة، والتي ترتدي البنطلون مُسترجلة، والتي ترتدي الشورتْ امرأة لعوب، والتي ترتدي الجلبابَ محتشمة"، والتي ترتدي النقابَ أو الحِجابَ إرهابيّة..! ناهيك عن بعض التقاليع الدخيلة التي انتشرت مؤخراً بيننا، بدلاً من الألبسة التقليدية المتوارثة الجميلة التي كانت منتشرة بيننا، ممّا عرفناه، من خِمَارٍ شفيفٍ أسودِ، أو لثامٍ خفيفٍ زبرجدِ، وجلباب فضفاض، وحايك مُحتشم، وأردية مزركشة، وأغطية ملوّنة حسب البلدان، والتي تتعدّد وتجدّد على امتداد السنة وتبدّل المواسم والفصول، إلاّ أننا نعود بعد كل ذلك وذاك لنذكّر في ختام هذه العُجالة بقول الشاعر القديم: (إِذا المَرءُ لَم يدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ/ فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ) . وليس أقبح، ولا أسوأ لدى المرأة، أن تتجرّأ وتقول لها هذا الرداء أو ذاك اللباس، أو تلك الألوان تليق، أو لا تليق بها أو عليها، كما أنّك لا تستطيع أن تنتقص حبّة خردل من جمالها، أو هندامها، أو منظرها، أو هيئتها، أو مظهرها، أو سحرها، أو رقّتها، أو ذكائها، أو دهائها أو فتنتها..!
*كاتب وباحث من المغرب، عضو الأكاديميّة الإسبانيّة - الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.